شتان بين رجل بدأ مشواره متصعلكاً على حد وصفه، وبين الرجل ذاته الذى وصل به مشواره إلى مرتبة الزعامة على حد وصف جمهوره، وبين الوصفين، الصعلكة والزعامة تجربة إنسانية ملهمة تستحق أن تكون أمام أعين كل من يريد لنفسه مكاناً سامقاً وفريداً فى تاريخ الفن العربى.

هذه باختصار هى خلاصة مسيرة النجم عادل إمام، الذى أكمل عامه الرابع والثمانين من عمره المديد.

. ففى تاريخ فن التمثيل العربى مئات الأسماء وربما الآلاف التى تمتعت بالموهبة الواضحة والقدرات التمثيلية الكبيرة، فقط قليلون من بين هؤلاء هم من وصلوا إلى مصاف النجوم أصحاب القدرة على تحمل مسئولية العمل الذى يشاركون فيه، ومن بين هذه القلة هناك أسماء يمكن أن تعد على أصابع اليد الواحدة تستطيع أن تصفهم بنجوم الشباك، هؤلاء الذين يذهب إليهم المتلقى تحت أى ظرف، ودون النظر إلى أى عناصر أخرى يمكن أن تشارك فى العمل، هؤلاء الذين تكفى أسماؤهم فقط لإنجاح أى عمل يقدمونه، ويستطيعون الحفاظ على هذه المكانة لفترات طويلة دون أن تهتز تحت أقدامهم علاقتهم بتلك الجماهير، التى منحتهم هذه الحظوة الخاصة، وأنزلتهم ذلك المقام الرفيع.

ووفق هذا المصطلح الهوليوودى وتلك المعايير الصارمة ليس هناك فى تاريخ الفن العربى سوى خمسة أسماء فقط يمكن اعتبارهم نجوماً للشباك، وهم وفق الترتيب الزمنى لظهورهم: أنور وجدى، ليلى مراد، عبدالحليم حافظ، سعاد حسنى، و... عادل إمام، وبخلاف هؤلاء العظماء الخمسة فقد تذبذبت علاقة الجماهير بغيرهم، وتأرجحت صعوداً وهبوطاً بحسب درجة نجاح كل عمل، من دون أن ينقص ذلك من قدراتهم التمثيلية الفائقة، أما أولئك الخمسة المعجونون - فى الأساس - بالموهبة، والمعنيون - بطبيعة الحال - بجودة ما يقدمونه، فحب الجمهور يغفر لهم هناتهم إن حدثت، ويعفو عن أخطائهم إن وقعت، فرصيدهم لديه يكفى، وثقته فى قدرتهم على تجاوز الهنات تشفى، ولذلك بقى هؤلاء الخمسة الكبار على القمة لفترات طويلة، فلا هم مجرد ظواهر، ولا نجاحهم عابر، وإنما هى نعمة من الله اصطفى بها بعضاً من عباده الموهوبين، وصدق الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين حين قال وهو يشخص حالة عادل إمام رابطاً بينه وبين عبدالحليم حافظ أحد العظماء الخمسة هو الآخر:

«لقد صار عادل إمام أسطورة فى حد ذاته، أى أنه ينجح نجاحه الساحق بصرف النظر عن الرواية أو المسرحية، فالناس تذهب لترى عادل إمام، ناس من كل المستويات الثقافية والمادية.. إن نجاحه كامن فى كفاءته التمثيلية النادرة، وحضوره المسرحى الطاغى، فهو فى التمثيل كصوت عبدالحليم فى الغناء».

وإذا كان الكاتب الراحل قد تحدث عن نجومية الشباك التى يتمتع بها عادل إمام مسرحياً، فإن الناقدة الراحلة حسن شاه قالت ما يشبه كلام أستاذها أحمد بهاء الدين فيما يتعلق بتجربة عادل إمام فى السينما، حيث كتبت فى افتتاحية مجلة الكواكب بتاريخ العاشر من يوليو 1984بعد أن شاهدت أحد أفلامه:

«وأنا أشاهد فيلم «احترس من الخط» للمخرج سمير سيف تأكد عندى أن وجود النجم عادل إمام فى أحد الأفلام أصبح يقلب كل معايير النجاح المتعارف عليها فنياً، هذه المعايير التى تجعل نجاح الفيلم يعتمد أساساً على معادلة تتكون من مخرج قوى وقصة جيدة، فإذا تحققت هذه المعادلة أصبح اختيار النجم وقدراته يأتى فى درجة ثانية، لكن عادل إمام يثبت أنه من النجوم الذين تتحطم معهم هذه القاعدة».

غير أن المتأمل لتجارب هؤلاء الخمسة الكبار يدرك أن لتجربة عادل إمام خصوصيتها وتفردها، وهو ما يتجلى فيما يلى:

أولاً: عادل إمام هو الوحيد من بين الخمسة الذى صنع المسرح نجوميته، فقد جاءت ليلى مراد ثم عبدالحليم حافظ من عالم الغناء، وأتت سعاد حسنى إلى الشاشة الكبيرة مباشرة دون أن يكون لها أى تجارب فنية سابقة، وحتى أنور وجدى الذى بدأ مشواره ككومبارس فى فرقة رمسيس المسرحية وله تجربة قصيرة فى الفرقة القومية للتمثيل، تحت إدارة الرائد المسرحى زكى طليمات، فإنه لم يستطع أن يصنع لنفسه تاريخاً مسرحياً يذكر، وجل نجوميته واسمه المحفور بين الخمسة الكبار صنيعة شريط السينما.. أما عادل إمام فكل نقلاته الفنية المهمة كانت نتاجاً لخطوة مسرحية بارزة، مثلاً كانت بدايته السينمائية سنة 1964 هى استنساخاً لبدايته المسرحية فى العام السابق مباشرة، أو قل إنها كانت استثماراً لنجاحه المسرحى من خلال فيلم يحمل عنوان المسرحية ذاتها «أنا وهو وهى»، حين قدم عادل إمام فى هذا الفيلم الشخصية نفسها التى كانت بداية تعارفه بالجمهور، شخصية «دسوقى أفندى» وكيل المحامى، وعندما نجحت مشاركته فى البطولة الجماعية لمسرحية «مدرسة المشاغبين» تجاوز عادل بسبب هذا النجاح اللافت مرحلة الأدوار المساعدة فى السينما إلى مرحلة البطولات الجماعية أيضاً، ثم عزز نجاحه المنفرد اللافت فى «شاهد ما شافش حاجة» من فرص بطولاته الأولى على شاشة السينما بداية من عام 1978، وهكذا مع توالى سنوات عرض «شاهد ما شافش حاجة» ثم «الواد سيد الشغال» كان عادل إمام قد استقر فوق القمة دون منازع، ثم كان استمرار عرض «الزعيم» و«بودى جارد» لسنوات طويلة، وإقبال الجمهور المصرى والعربى على مشاهدتهما استفتاء دائماً على شعبية عادل إمام وتجديداً لها، سواء على خشبة المسرح أو فوق شاشة السينما.

ثانياً: اتكأ عادل إمام فقط فى تلك الحظوة الجماهيرية الكبيرة على موهبته فى التمثيل، فيما كان الأربعة الباقون من ذوى الإمكانيات الفنية المتعددة التى تتيح لأصحابها تدعيم مكانتهم وزيادة فرص نجاحهم، فأنور وجدى جمع بين الكتابة والتمثيل والإخراج والإنتاج وإدارة الدعاية، وليلى مراد وعبدالحليم كانا مطربين وممثلين لهما حضورهما الطاغى إلى جانب إنتاجهما لبعض أعمالهما، شأنهما فى ذلك شأن سعاد حسنى، التى أضافت إلى ذلك كله قدراتها الاستعراضية اللافتة، أما عادل إمام فقد حقق كل ما حققه من خلال موهبته فقط كممثل، ما يؤكد أمرين مهمين: قدراته التمثيلية الفائقة، وصعوبة مشواره حتى وصل إلى تلك القمة العالية.

ثالثاً: من مدهشات القدر أن ظاهرة نجومية الشباك فى الفن المصرى قد شهدت ما يمكن اعتباره تداولاً للنجومية بين هؤلاء العظماء الخمسة، بمعنى أن العام 1955 الذى شهد نهاية مشوار كل من أنور وجدى وليلى مراد، الأول بالوفاة، والثانية بالتوقف القهرى عن التمثيل، هو ذاته الذى شهد ظهور عبدالحليم حافظ على شاشة السينما مدعماً وجوده كمطرب على الساحة الغنائية، وبعده بأعوام قليلة -1959- ظهرت السندريللا الثانية سعاد حسنى لتتسلم الراية من السندريللا الأولى ليلى مراد، وبعد وفاة عبدالحليم حافظ سنة 1977 بعام واحد كان عادل إمام يؤكد قدرته على تحمل بطولة أى فيلم سينمائى بالتزامن مع نجاحه المسرحى اللافت والمستمر فى مسرحية «شاهد ما شافش حاجة»، التى بدأ عرضها قبل رحيل العندليب بعام واحد، وكأن نجومية الشباك فى الفن المصرى كانت بحاجة دائماً إلى ما يشبه التسليم والتسلم، أو أن القدر لم يضع نجوم الشباك هؤلاء فى حالة تنافس مباشر، وأعنى أن النجوم الرجال أنور وحليم وعادل لم تجمعهم -بحكم الزمن- حالة تنافسية حتى وإن تزامن وجود عادل إمام فى حياة العندليب الأسمر، ولكن قبل أن يصل إلى مرحلة النجومية، ومن ثم المنافسة، الأمر نفسه فى حالة النجمتين ليلى مراد وسعاد حسنى، فقد توقفت الأولى قبل أربع سنوات من ظهور الثانية.

رابعاً: تعتبر نجومية شباك عادل إمام هى الأطول عمراً بين أقرانه الآخرين، فأنور وجدى الذى بدأ مشواره سنة 1932 وليلى مراد التى بدأته عام 1938 دامت نجوميتهما الطاغية لمدة عشر سنوات فقط بين عامى 1945 و1955، وعبدالحليم حافظ الذى قذفه الناس بالبيض والطماطم عند ظهوره كمطرب عام 1952 دانت له النجومية الكاسحة لمدة اثنتين وعشرين سنة بين عامى 1955 و1977، وسعاد حسنى التى عرفت ذلك النجاح اللافت منذ ظهورها عام 1959 استمرت نجمة للشباك لمدة تسعة وعشرين عاماً حتى فيلمها الصدمة «الدرجة الثالثة» سنة 1988، الذى أنهت بعده بثلاث سنوات فى «الراعى والنساء» مشوارها الفنى كله، أما عادل إمام وبعد تأرجح السنوات الثلاث عشرة الأولى بين مسرحيتى «أنا وهو وهى» 1963 و«شاهد ما شافش حاجة» 1976، وحتى الآن فقد حافظ على صدارته للمشهد الفنى المصرى والعربى وبقائه نجماً للشباك لمدة تقارب الخمسين عاماً.

خامساً: إن قراءة أخرى لهذا الرقم تقول بكل وضوح إن عادل إمام لم يكن فقط الأطول عمراً بين نجوم الشباك، أو الأخير زمنياً حتى الآن، وإنما تعنى أيضاً أنه بقى ما يقرب من خمسين عاماً بلا منافس حقيقى، مع احترامى لكل الأسماء والقامات التى ظهرت طوال هذه المدة، صحيح أن فى جيله ممثلين اقتربوا منه، وفى جيل الشباب من بعد «إسماعيلية رايح جاى» عام 1997 نجوم حققوا إيرادات ضخمة، لكن نجاح أولئك وهؤلاء كان ينقصه التراكم والاستقرار والديمومة وعدم التذبذب على النحو الذى حدث مع عادل إمام.

سادساً: لا ينبغى النظر فقط إلى نجومية عادل إمام على أنها الأطول عمراً بين العظماء الخمسة، فقد كانت كذلك الأكثر تنوعاً بين مجالات المسرح والسينما والإذاعة والتليفزيون، بعكس الباقين الذين لم يعرفوا هذا التنوع لأسباب ربما تعود بعضها للفترة الزمنية التى ظهروا فيها، والبعض الآخر لعدم توافر الرغبة فى ارتياد مجالات فنية أخرى.

سابعاً: ومن ثم فإن تجربة عادل إمام هى أيضاً الأكثر غزارة بين هؤلاء، مع استبعاد العطاء الغنائى الكبير لكل من ليلى مراد وعبدالحليم حافظ، لأننى أتحدث فى هذه الجزئية عن مشوار هؤلاء فى عالم التمثيل، فقد شارك أنور وجدى فى عدد محدود من المسرحيات، وليس له وجود إذاعى اللهم إلا تسع تمثيليات إذاعية، لا تزيد مدة الواحدة منها على ثلاثين دقيقة، وقدم للسينما 79 فيلماً بين الكتابة والتمثيل والإخراج والإنتاج، ولعبت ليلى مراد فقط بطولة سبعة وعشرين فيلماً دون أى مشاركات أخرى، وقام عبدالحليم ببطولة ستة عشر فيلماً، ومسلسل إذاعى واحد، فيما شاركت سعاد حسنى فى اثنين وثمانين فيلماً وستة مسلسلات إذاعية وعمل تليفزيونى واحد.. أما عادل إمام فرصيده الفنى حتى الآن سبع عشرة مسرحية، ومائة وثلاثة وعشرون فيلماً، وواحد وعشرون عملاً تليفزيونياً، وخمسة مسلسلات إذاعية.

ثامناً: يلفت الانتباه فى قائمة الخمسة الكبار أن عادل إمام هو الوحيد بينهم الذى تم تصنيفه ككوميديان، حتى وإن تقلب لاحقاً على كل أنواع التمثيل، لكن يبقى نجاحه الأساسى ونقطة انطلاقه إلى القمة وتربعه عليها لصيقاً بتصنيفه كممثل كوميدى ذى قدرات عالية، بعكس الأربعة الآخرين ما يؤشر إلى نجاح عادل إمام فى تمثيل تيار الكوميديا داخل هذه القائمة المحدودة من أفذاذ الفن، وانتزاعه اعترافاً نقدياً وجماهيرياً بقيمة فن الكوميديا بعيداً عن النظرة الدونية التى ظلت قرينة بممثلى الكوميديا، كأنهم مهرجون أو بهلوانات فى سيرك يقدمون إسفافاً لا يستحق تلك النظرة المحترمة التى ينالها أصحاب الأداء الرصين، فإذا بوجود اسم عادل إمام بين هؤلاء يؤكد عكس ذلك تماماً.

تاسعاً: أمر لافت آخر يدعو للدهشة فيما يتعلق بالأربعة الآخرين، فقد كان كل من أنور وجدى وليلى مراد زوجين فى الواقع وثنائياً فنياً على شاشة السينما، فكانت حياتهما الشخصية وخلافاتهما الزوجية مثار اهتمام الجماهير وسبباً إضافياً فى الإبقاء على ترديد اسميهما بين المتابعين لأعمالهما الفنية، فضلاً عن حالة الصدق التى كانت تتسرب للمشاهد وهو يرى أنور وليلى فى قصص الحب على الشاشة، ومن ثم كان نجاحهما الاستثنائى مشتركاً ومتزامناً بين عام 1945 الذى شهد زواجما الشرعى والفنى، وعام 1955 الذى شهد نهايتهما الفنية المتزامنة أيضاً، فيما كان كل من عبدالحليم حافظ وسعاد حسنى يعيشان كذلك -فى الواقع- قصة حب لم تخف على الناس، وزواجاً عرفياً كان مثار لغط الجميع حتى وإن حاول الاثنان إخفاء قصة الحب، وإنكار حقيقة الزواج، فكانت تلك المحاولات سبباً آخر -إلى جانب فنهما- فى زيادة جاذبيتهما لدى الجماهير والاهتمام بما يقدمانه من فن كل على حدة بعكس حالة ليلى مراد وأنور وجدى.

أما خامسهم عادل إمام فقد شق طريقه وحده غير متكئ لا على قصة حب ولا حتى على شائعة حب، ولم يرتبط كذلك بثنائى فنى محدد، صحيح أن ظهوره تكرر مع لبلبة أو يسرا، لكن هذا الظهور المتكرر كان بعد وصول عادل إلى قمة النجومية، ومن ثم لم يستفد هو من هذه الثنائية -إذا جاز التعبير- بقدر استفادة الطرف الآخر فى الثنائى من وجود اسمه بجانب اسم عادل إمام، وهذه صعوبة أخرى تميز مشوار نجاح عادل إمام، الذى لم تساهم فى صنعه أى عوامل غير فنية، وإنما كان فقط نتاج كد واجتهاد فى الاختيار والأداء والاقتراب من هموم الناس

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: عادل إمام عيد ميلاد عادل إمام أفلام عادل إمام جوائز عادل إمام محمد إمام رامي إمام عبدالحلیم حافظ الخمسة الکبار شاشة السینما عادل إمام فى لیلى مراد بین هؤلاء سعاد حسنى أنور وجدى ومن ثم

إقرأ أيضاً:

منير أديب يكتب: هيئة تحرير الشام وطالبان.. أوجه متشابهة بين الانفراد بالسلطة واضطهاد الأقليات

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

دخل أبو محمد الجولانى إلى سوريا فوق دبابة أمريكية، وبعد أنّ خططت إسرائيل وقررت إطلاق الصافرة الأخيرة لنظام الرئيس السورى بشار الأسد، حتى أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلى أشار إلى أنّ الضربات التى وجهتها إسرائيل لإيران وحزب الله التى أدت إلى سقوط النظام.


وأعقب رئيس الوزراء الإسرائيلى أنّ دولته تُعيد رسم خريطة الشرق الأوسط من جديد، وأنّ سقوط النظام السوري، كان بتخطيط إسرائيلي، وهنا تم إعطاء الإذن إلى أحمد الشرع ومليشياته فى إدلب أنّ للتقدم نحو المدن والمحافظات السورية حتى الوصول إلى العاصمة السورية دمشق.


فما كان للجولانى أنّ يصل إلى دمشق إلا برضا أمريكى وتخطيط إسرائيلى وسط تخلى إيرانى وروسى عن الحليف الذى دعموه قرابة اثنى عشر عامًا.
 

المجتمع الدولى هو من جمد هؤلاء المسلحين فى إدلب وحافظ على وجودهم وحماهم من تصفية قوات الأسد وأتاح لهم حكمًا ذاتيًا، فهذه المحافظة انفصلت عمليًا عن بقية المحافظات السورية التى كانت تقع تحت سلطة وسيطرة الرئيس السوري، بل كانت بمثابة بروفا للحكم يتم إعداد جبهة النصرة فيها لليوم الموعود الذى يُسيطرون فيه على كامل سوريا.


ثم أعطت واشنطن الضوء الأخضر لتركيا، وبالتالى أعطت أنقرة الضوء الأخير لميلشياتها فى إدلب للتقدم فى باقى المحافظات السورية، فتم ذلك حتى وصلوا إلى العاصمة دمشق، وكان الاتفاق على الخروج الآمن للرئيس بشار وأسرته وأركان نظامه مقابل تسليم العاصمة دون إراقة نقطة دم واحدة، وهو ما حدث بالفعل.


كان يمتلك المقاتلون الذين تمت رعايتهم من قبل أنقرة ٤ مصانع للطائرات المسيرة، وقد أنتجوا قرابة ١٠ آلاف مسيرة بالتعاون مع أوكرانيا، وسط اتفاق دولى للحفاظ على هؤلاء المقاتلين، فهم بمثابة السلاح الذى تواجه من خلاله واشنطن النظام السوري، كما أنه بمثابة السلاح الذى تواجه من خلاله تركيا الأكراد التى وضعتهم على قوائم الإرهاب.
أفغنة الحالة السورية
هيئة تحرير الشام هى من كانت تقود العمليات العسكرية ضد بشار الأسد وأركان نظامه، وهو الفصيل المؤهل لتسلم السلطة دون بقية المعارضة السورية، وبخاصة الذين لم يستخدموا السلاح أو يمكن إطلاق لفظة المعارضة عليهم، وأغلبهم قوى مدنية وعلمانية، ليست عسكرية.
هذه الفصائل منعت من المشاركة فى تشكيل الحكومة المؤقتة من قبل أبو محمد الجولاني، بدعوى أنها قوى علمانية، بينما تم تكليف محمد البشير برئاسة مجلس الوزراء فى حكومة إنقاذ، ومعروف عن الرجل انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين، وقد قاتل مع الجولانى وكان مقربًا منه.
أغلب الذين اختارهم البشير فى حكومته جهاديين سابقين أو حاليين، وبعضهم جلس معه على الطاولة التى جمعت وزراء حكومة تسيير الأعمال وهم ملثمون! صحيح هؤلاء وصلوا للسلطة ولكنهم مازالوا يعتقدون أنهم يُديرون تنظيماتهم المتطرفة تحت الأرض، وسوف يظلون على هذا الحال حتى عندما يُديرون الحكم من قصر الشعب فيما بعد.
الوزراء سياسيون ولكن جيئ بهم وهم يحملون البندقية، كى يحكموا شعبًا أعزل؛ وهنا تبدو الخطورة الشديدة بين أناس تربوا على حمل السلاح واستخدامه ضد الأبرياء وبين مناصبهم الجديدة التى يتم عسكرتها.
الولايات المتحدة الأمريكية تصالحت مع ما تسمى هيئة تحرير الشام، وأعطت لها الإذن بالتقدم نحو العاصمة دمشق، مثلما فعلت مع حركة طالبان، مع العلم أنّ الهيئة وضعت على قوائم الإرهاب الأمريكية، كما أنّ واشنطن رصدت مكافأة قدرها عشرة ملايين جنيه مقابل الوصول إلى الجولاني.
وضعت هذه المكافأة والرجل حى يُرزق ومعروف مكانه سواء عندما كان موجودًا فى إدلب أو بعد سيطرته على دمشق، وهو ما يؤكد أنّ واشنطن ليس لديها مشكلة فى استخدام واسغلال تنظيمات الإسلام السياسى بما فيها هيئة تحرير الشام الإرهابية.


كما ليس لديها أى مشكلة فى غض الطرف عن جماعات الإسلام السياسى مقابل تحقيق مصالح سياسية ضيقة، وهذا ما أثر بصورة كبيرة على صعود ونمو الجماعات المتطرفة فى منطقة الشرق الأوسط والكثير من المناطق فى العالم.
الولايات المتحدة الأمريكية تدرس حاليًا فكرة رفع هيئة تحرير الشام من قوائم الإرهاب؛ ويبدو أنّ قرار رفعها من قوائم الإرهاب إجراء روتينى بعد أنّ أعطتها واشنطن صك الشرعية من خلال إسقاط النظام السياسى فى سوريا.
أمريكا سبق وتصالحت مع حركة طالبان فى أفغانستان وقامت بتسليمها السلطة بعد أنّ غزت أفغانستان فى العام ٢٠٠١ واستمر وجودها فى البلد الأسيوى ٢٠ عامًا؛ ثم خرجت بعد ذلك باتفاق مع الحركة بعد أنّ سلمتها السلطة بصورة كاملة، وهنا تبدل الحال، حيث باتت الحركة نظام سياسى مرض عنه من قبل الأمريكان.
وهنا تبدو الرؤية الأمريكية واضحة فى ملف مكافحة الإرهاب، فهى لم تكن جادة فى مواجهة تنظيمات الإسلام السياسي، بل تستخدمها ضمن القوى السياسية والمتردة التى يُهددون من خلاله الأنظمة العربية المستقرة، وهو ما حدث فى الحالتين الأفغانية والسورية.
وهنا يمكن القول، إنّ الولايات المتحدة الأمريكية هى المسئول الأول والأخير عن أفغنة الحالة السورية، ونقل تجربة طالبان إلى داخل سوريا من خلال دعمها وتقديمها للشعب السورى كبديل لنظام بشار الأسد.
أمريكا ودعم تنظيمات الإسلام السياسي
وصول تنظيمات الإسلام السياسى فى المنطقة العربية جاء بموافقة أمريكية، بل بدعم دولى على رأسه واشنطن؛ ويبدو هذا واضحًا فى ليبيا كمثال وفى سوريا مؤخرًا، وهنا لا يجب التعويل على جهود واشنطن فى مكافحة الإرهاب، لأنها غير جادة فى هذه المواجهة من ناحية، بل توظف الجماعات المتطرفة لتنفيذ مصالحها فى منطقة الشرق الأوسط من ناحية أخرى.
أمريكا وإسرائيل هما أول المستفيدين من وراء تغيير النظام السوري، الأولى دعمت دخول هؤلاء المتطرفين إلى العاصة العربية، بينما تل أبيب هى من خططت لعملية السيطرة للتخلص من النفوذ الإيراني، فالواقع يحكى أنّ التغيير تم بأصابع أمريكية إسرائيلية، صحيح الأدوات كانت مقاتلين ومجاهدين عرب وسوريين.
أمريكا تقود أكبر عملية انقلاب فى منطقة الشرق الأوسط، تستخدم فيها تنظيمات الإسلام السياسي؛ وهنا يبدو أنّ واشنطن لا تجد مشكلة فى استخدام الجماعات المتطرفة من أى خلفية دينية، طالما ذلك يُحقق مصالحها السياسية.
أوجه الشبه بين هيئة تحرير الشام وطالبان
أوجه الشبه بين طالبان وهيئة تحرير الشام يبدو كبيرًا ليس على مستوى السلوك فقط ولكن على مستوى البنية التنظيمية أيضًا؛ فكل منهما له أفكاره الخاصة وسلوكه الخاص، ولكن تحدث تقاطعات يجب أنّ نرصدها فى بداية التجربة السورية.
تُريد الولايات المتحدة الأمريكية أنّ تقدم نموذجا للحكم فى سوريا أشبه بنظام الحكم الذى تقوده حركة طالبان؛ صحيح واشنطن لا تُرضيها إدارة طالبان للحكم، ولكن استطاعت واشنطن أنّ تُسيس الحركة وأن تنزع دسمها وما تُشكله من خطورة على أمن أمريكا، وهى ما تُحاول أنّ تفعله مع الهيئة من واقع التصريحات الأمريكية التى رصدناه منذ بداية السيطرة على دمشق.
كلٌ من الحركة والهيئة لديهما مواقف موحدة تجاه المرأة والأقليات والمختلفين، ولكن تبدو الهيئة أكثر تطرفًا من الحركة، فالنسخة الثانية من طالبان تبدو أخف فى تطرفها من النسخة الأولى وإنّ كانت تجمعهما مشتركات واحدة، أما الهيئة فهى نسخة هجين ما بين تنظيم القاعدة وداعش، فهى الأكثر تطرفًا والأكثر عنفًا تجاه المرأة والأقليات.
فكل منهما لا يرى حقا للأقليات حتى ولو خرجت التصريحات بخلاف ذلك، ومنطقهم فى ذلك أنهم هم من يُمثلون الله فى الأرض وهم الذين يرعون الحق الإلهى ويمتلكون الحقيقة، فيعطون لأنفسهم الحق بينما يمنعونه عن الآخرين.
هنا تُراهن واشنطن على الراعى التركى والضامن فى نفس الوقت، والهدف تقليم أظافر الهيئة أو تهذيبها بحيث تكون أقرب الشبه بحركة طالبان، حيث نجحت واشنطن فى إيجاد صيغة تعامل معها.
صحيح أنّ طالبان وفرت حاضنة لتنظيم القاعدة سواء قبل الغزو الأمريكى أو أثناءه أو بعد خروج واشنطن من أفغانستان، بينما هيئة تحرير الشام تمثل خليط هجين من القاعدة وداعش، وبالتالى فهى نموذج فى السلطة والحكم أكثر قسوة من طالبان، وهو ما تخشاه واشنطن وإسرائيل، وربما دفع الأخيرة لتفجير كل أسلحة الجيش السورى حتى لا يستخدمه ضدها.
طالبان لم تُشارك الطوائف والقبائل ولا المرأة ولا المختلفين فى الحكم، هم وحدهم فقط فى السلطة، وهو ما سوف تفعله الهيئة بتفرد وانفراد، لأنهم يمثلون الحق الإلهى ويُعبرون عن ظل الله فى الأرض كما يعتقدون، فهم صورة حقيقية للإرهاب.
متوقع أنّ تنشب خلافات عسكرية مسلحة بين الفصائل والميليشيات التى تندرج حتى لافتة هيئة تحرير الشام، أو بينها وبين داعش التى بدأت تعمل فى البادية السورية، خاصة وأنّ المناخ بات مهيئًا للتنظيمات المتطرفة فى الداخل السوري، ولعل هذا شبه آخر بين الحالتين السورية والأفغانية.
لا حريات عامة ولا خاصة فى تلك المناطق التى تُسيطر عليها كل التنظيمات المتشددة والمتطرفة وبخاصة هيئة تحرير الشام وطالبان ومن كان على شاكلتهم؛ فهذه التنظيمات لا تُؤمن بحق المرأة ولا بحق المختلف دينيًا ولا بالمختلف معها على مستوى الأفكار، بل قد تُكفر هؤلاء وتنزع عنهم صفة الإسلام.
مواجهة الحالة الأفغانية فى سوريا
لابد من إنشاء تحالف عربى تكون مهمته الحقيقية مواجهة صعود تيارات الإسلام السياسى العنيفة إلى السلطة فى عدد من العواصم العربية، فضلًا عن استخدام واستغلال هذه التنظيمات من قبل الولايات المتحدة الأمريكية.
هناك نهم أمريكى شرس نحو التهام المنطقة العربية والحفاظ على مصالحها، وهذا لن يتم إلا من خلال قوى منظمة حتى ولو كانت هذه القوى تنظيمات الإسلام السياسي، ولذلك واشنطن ومعها دول كبرى عمدت إلى تقديم هذا الدعم، وهو ما يستلزم قراءة دقيقة لمواجهة هذا التوغل حتى لا يُؤثر سلبًا على أمن المنطقة العربية.
وقعت العديد من وسائل الإعلام العربية فى فخ وصف التنظيمات المتطرفة فى سوريا بالمعارضة المسلحة، وهو توصيف خاطئ ويُجافى الحقيقة، فالمعارضة مصطلح سياسى لا يستخدم المعارض العنف وسيلة للتعبير، وإذا حدث يُسمى ميليشيا أو فصيل، فالمعارض ليس مسلحًا والمسلح لا يمكن أنّ يكون معارضًا.
فهؤلاء الذين سيطروا على سوريا تنظيمات وفصائل وميليشيات مسلحة ذات خلفيات متعددة ولكن تظل هيئة تحرير الشام هى المسيطرة على كل الفصائل، وهنا يمكن أنّ نقول بوضوح إنها تنظيمات إسلاموية مسلحة، لأن القرار يبقى فى النهاية للهيئة أو جبهة النصرة سابقًا.
وهنا يتم تقديم المصالح السياسية على القراءة الدقيقة للمشهد والتى تستلزم تسمية هذه التنظيمات بأسمائها الحقيقية، وبالتالى التعامل معها كما ينبغي.
هذا الخطاب ليس معناه الدفاع عن أخطاء النظام السابق فى سوريا، ولكن السؤال، هل المقابل يكون تنظيمات إسلاموية متطرفة؟ وإذا صعدت الأخيرة للسلطة، فما الذى يجب أنّ تفعله المنطقة العربية من أجل مواجهة تحفظ أمن المنطقة؟
لابد من وجود اتفاق عربى على مواجهة الخطر القادم من سوريا، ولابد من تسمية جماعات العنف والتطرف مهما تغيرت أسمائها أو حاولت أنّ ترتدى ثيابًا جديدة، فالمصلحة الأهم هو الحفاظ على أمن المنطقة من خطر جماعات العنف والتطرف.

مقالات مشابهة

  • شرط وحيد لـ عادل إمام للعودة إلى التمثيل وهذه تفاصل حالته الصحيه
  • د.حماد عبدالله يكتب: وما نيلُ المطالب بالتمنى !!
  • العلاج فى مستشفيات الحكومة.. رحلة عذاب
  • فيش وتشبيه الرئيس السورى القادم!!
  • آثار أفغانستان.. كنوز حضارية دمرتها ثلاثة عقود من الحروب
  • هل عاد الزمن «العثمانلى»؟!
  • منير أديب يكتب: هيئة تحرير الشام وطالبان.. أوجه متشابهة بين الانفراد بالسلطة واضطهاد الأقليات
  • حريق هائل يكتب الفصل الأخير لعائلة بالمنيل
  • الإسماعيلي يفقد خدمات أحمد عادل عبدالمنعم أمام بيراميدز
  • لطفي لبيب يثير الجدل: انتقادات للزعيم ورمضان تشعل ردود الأفعال