أشرف غريب يكتب: أحد العظماء الخمسة وإن اختلف عنهم عادل إمام.. نجم الشباك الأخير
تاريخ النشر: 17th, May 2024 GMT
شتان بين رجل بدأ مشواره متصعلكاً على حد وصفه، وبين الرجل ذاته الذى وصل به مشواره إلى مرتبة الزعامة على حد وصف جمهوره، وبين الوصفين، الصعلكة والزعامة تجربة إنسانية ملهمة تستحق أن تكون أمام أعين كل من يريد لنفسه مكاناً سامقاً وفريداً فى تاريخ الفن العربى.
هذه باختصار هى خلاصة مسيرة النجم عادل إمام، الذى أكمل عامه الرابع والثمانين من عمره المديد.
ووفق هذا المصطلح الهوليوودى وتلك المعايير الصارمة ليس هناك فى تاريخ الفن العربى سوى خمسة أسماء فقط يمكن اعتبارهم نجوماً للشباك، وهم وفق الترتيب الزمنى لظهورهم: أنور وجدى، ليلى مراد، عبدالحليم حافظ، سعاد حسنى، و... عادل إمام، وبخلاف هؤلاء العظماء الخمسة فقد تذبذبت علاقة الجماهير بغيرهم، وتأرجحت صعوداً وهبوطاً بحسب درجة نجاح كل عمل، من دون أن ينقص ذلك من قدراتهم التمثيلية الفائقة، أما أولئك الخمسة المعجونون - فى الأساس - بالموهبة، والمعنيون - بطبيعة الحال - بجودة ما يقدمونه، فحب الجمهور يغفر لهم هناتهم إن حدثت، ويعفو عن أخطائهم إن وقعت، فرصيدهم لديه يكفى، وثقته فى قدرتهم على تجاوز الهنات تشفى، ولذلك بقى هؤلاء الخمسة الكبار على القمة لفترات طويلة، فلا هم مجرد ظواهر، ولا نجاحهم عابر، وإنما هى نعمة من الله اصطفى بها بعضاً من عباده الموهوبين، وصدق الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين حين قال وهو يشخص حالة عادل إمام رابطاً بينه وبين عبدالحليم حافظ أحد العظماء الخمسة هو الآخر:
«لقد صار عادل إمام أسطورة فى حد ذاته، أى أنه ينجح نجاحه الساحق بصرف النظر عن الرواية أو المسرحية، فالناس تذهب لترى عادل إمام، ناس من كل المستويات الثقافية والمادية.. إن نجاحه كامن فى كفاءته التمثيلية النادرة، وحضوره المسرحى الطاغى، فهو فى التمثيل كصوت عبدالحليم فى الغناء».
وإذا كان الكاتب الراحل قد تحدث عن نجومية الشباك التى يتمتع بها عادل إمام مسرحياً، فإن الناقدة الراحلة حسن شاه قالت ما يشبه كلام أستاذها أحمد بهاء الدين فيما يتعلق بتجربة عادل إمام فى السينما، حيث كتبت فى افتتاحية مجلة الكواكب بتاريخ العاشر من يوليو 1984بعد أن شاهدت أحد أفلامه:
«وأنا أشاهد فيلم «احترس من الخط» للمخرج سمير سيف تأكد عندى أن وجود النجم عادل إمام فى أحد الأفلام أصبح يقلب كل معايير النجاح المتعارف عليها فنياً، هذه المعايير التى تجعل نجاح الفيلم يعتمد أساساً على معادلة تتكون من مخرج قوى وقصة جيدة، فإذا تحققت هذه المعادلة أصبح اختيار النجم وقدراته يأتى فى درجة ثانية، لكن عادل إمام يثبت أنه من النجوم الذين تتحطم معهم هذه القاعدة».
غير أن المتأمل لتجارب هؤلاء الخمسة الكبار يدرك أن لتجربة عادل إمام خصوصيتها وتفردها، وهو ما يتجلى فيما يلى:
أولاً: عادل إمام هو الوحيد من بين الخمسة الذى صنع المسرح نجوميته، فقد جاءت ليلى مراد ثم عبدالحليم حافظ من عالم الغناء، وأتت سعاد حسنى إلى الشاشة الكبيرة مباشرة دون أن يكون لها أى تجارب فنية سابقة، وحتى أنور وجدى الذى بدأ مشواره ككومبارس فى فرقة رمسيس المسرحية وله تجربة قصيرة فى الفرقة القومية للتمثيل، تحت إدارة الرائد المسرحى زكى طليمات، فإنه لم يستطع أن يصنع لنفسه تاريخاً مسرحياً يذكر، وجل نجوميته واسمه المحفور بين الخمسة الكبار صنيعة شريط السينما.. أما عادل إمام فكل نقلاته الفنية المهمة كانت نتاجاً لخطوة مسرحية بارزة، مثلاً كانت بدايته السينمائية سنة 1964 هى استنساخاً لبدايته المسرحية فى العام السابق مباشرة، أو قل إنها كانت استثماراً لنجاحه المسرحى من خلال فيلم يحمل عنوان المسرحية ذاتها «أنا وهو وهى»، حين قدم عادل إمام فى هذا الفيلم الشخصية نفسها التى كانت بداية تعارفه بالجمهور، شخصية «دسوقى أفندى» وكيل المحامى، وعندما نجحت مشاركته فى البطولة الجماعية لمسرحية «مدرسة المشاغبين» تجاوز عادل بسبب هذا النجاح اللافت مرحلة الأدوار المساعدة فى السينما إلى مرحلة البطولات الجماعية أيضاً، ثم عزز نجاحه المنفرد اللافت فى «شاهد ما شافش حاجة» من فرص بطولاته الأولى على شاشة السينما بداية من عام 1978، وهكذا مع توالى سنوات عرض «شاهد ما شافش حاجة» ثم «الواد سيد الشغال» كان عادل إمام قد استقر فوق القمة دون منازع، ثم كان استمرار عرض «الزعيم» و«بودى جارد» لسنوات طويلة، وإقبال الجمهور المصرى والعربى على مشاهدتهما استفتاء دائماً على شعبية عادل إمام وتجديداً لها، سواء على خشبة المسرح أو فوق شاشة السينما.
ثانياً: اتكأ عادل إمام فقط فى تلك الحظوة الجماهيرية الكبيرة على موهبته فى التمثيل، فيما كان الأربعة الباقون من ذوى الإمكانيات الفنية المتعددة التى تتيح لأصحابها تدعيم مكانتهم وزيادة فرص نجاحهم، فأنور وجدى جمع بين الكتابة والتمثيل والإخراج والإنتاج وإدارة الدعاية، وليلى مراد وعبدالحليم كانا مطربين وممثلين لهما حضورهما الطاغى إلى جانب إنتاجهما لبعض أعمالهما، شأنهما فى ذلك شأن سعاد حسنى، التى أضافت إلى ذلك كله قدراتها الاستعراضية اللافتة، أما عادل إمام فقد حقق كل ما حققه من خلال موهبته فقط كممثل، ما يؤكد أمرين مهمين: قدراته التمثيلية الفائقة، وصعوبة مشواره حتى وصل إلى تلك القمة العالية.
ثالثاً: من مدهشات القدر أن ظاهرة نجومية الشباك فى الفن المصرى قد شهدت ما يمكن اعتباره تداولاً للنجومية بين هؤلاء العظماء الخمسة، بمعنى أن العام 1955 الذى شهد نهاية مشوار كل من أنور وجدى وليلى مراد، الأول بالوفاة، والثانية بالتوقف القهرى عن التمثيل، هو ذاته الذى شهد ظهور عبدالحليم حافظ على شاشة السينما مدعماً وجوده كمطرب على الساحة الغنائية، وبعده بأعوام قليلة -1959- ظهرت السندريللا الثانية سعاد حسنى لتتسلم الراية من السندريللا الأولى ليلى مراد، وبعد وفاة عبدالحليم حافظ سنة 1977 بعام واحد كان عادل إمام يؤكد قدرته على تحمل بطولة أى فيلم سينمائى بالتزامن مع نجاحه المسرحى اللافت والمستمر فى مسرحية «شاهد ما شافش حاجة»، التى بدأ عرضها قبل رحيل العندليب بعام واحد، وكأن نجومية الشباك فى الفن المصرى كانت بحاجة دائماً إلى ما يشبه التسليم والتسلم، أو أن القدر لم يضع نجوم الشباك هؤلاء فى حالة تنافس مباشر، وأعنى أن النجوم الرجال أنور وحليم وعادل لم تجمعهم -بحكم الزمن- حالة تنافسية حتى وإن تزامن وجود عادل إمام فى حياة العندليب الأسمر، ولكن قبل أن يصل إلى مرحلة النجومية، ومن ثم المنافسة، الأمر نفسه فى حالة النجمتين ليلى مراد وسعاد حسنى، فقد توقفت الأولى قبل أربع سنوات من ظهور الثانية.
رابعاً: تعتبر نجومية شباك عادل إمام هى الأطول عمراً بين أقرانه الآخرين، فأنور وجدى الذى بدأ مشواره سنة 1932 وليلى مراد التى بدأته عام 1938 دامت نجوميتهما الطاغية لمدة عشر سنوات فقط بين عامى 1945 و1955، وعبدالحليم حافظ الذى قذفه الناس بالبيض والطماطم عند ظهوره كمطرب عام 1952 دانت له النجومية الكاسحة لمدة اثنتين وعشرين سنة بين عامى 1955 و1977، وسعاد حسنى التى عرفت ذلك النجاح اللافت منذ ظهورها عام 1959 استمرت نجمة للشباك لمدة تسعة وعشرين عاماً حتى فيلمها الصدمة «الدرجة الثالثة» سنة 1988، الذى أنهت بعده بثلاث سنوات فى «الراعى والنساء» مشوارها الفنى كله، أما عادل إمام وبعد تأرجح السنوات الثلاث عشرة الأولى بين مسرحيتى «أنا وهو وهى» 1963 و«شاهد ما شافش حاجة» 1976، وحتى الآن فقد حافظ على صدارته للمشهد الفنى المصرى والعربى وبقائه نجماً للشباك لمدة تقارب الخمسين عاماً.
خامساً: إن قراءة أخرى لهذا الرقم تقول بكل وضوح إن عادل إمام لم يكن فقط الأطول عمراً بين نجوم الشباك، أو الأخير زمنياً حتى الآن، وإنما تعنى أيضاً أنه بقى ما يقرب من خمسين عاماً بلا منافس حقيقى، مع احترامى لكل الأسماء والقامات التى ظهرت طوال هذه المدة، صحيح أن فى جيله ممثلين اقتربوا منه، وفى جيل الشباب من بعد «إسماعيلية رايح جاى» عام 1997 نجوم حققوا إيرادات ضخمة، لكن نجاح أولئك وهؤلاء كان ينقصه التراكم والاستقرار والديمومة وعدم التذبذب على النحو الذى حدث مع عادل إمام.
سادساً: لا ينبغى النظر فقط إلى نجومية عادل إمام على أنها الأطول عمراً بين العظماء الخمسة، فقد كانت كذلك الأكثر تنوعاً بين مجالات المسرح والسينما والإذاعة والتليفزيون، بعكس الباقين الذين لم يعرفوا هذا التنوع لأسباب ربما تعود بعضها للفترة الزمنية التى ظهروا فيها، والبعض الآخر لعدم توافر الرغبة فى ارتياد مجالات فنية أخرى.
سابعاً: ومن ثم فإن تجربة عادل إمام هى أيضاً الأكثر غزارة بين هؤلاء، مع استبعاد العطاء الغنائى الكبير لكل من ليلى مراد وعبدالحليم حافظ، لأننى أتحدث فى هذه الجزئية عن مشوار هؤلاء فى عالم التمثيل، فقد شارك أنور وجدى فى عدد محدود من المسرحيات، وليس له وجود إذاعى اللهم إلا تسع تمثيليات إذاعية، لا تزيد مدة الواحدة منها على ثلاثين دقيقة، وقدم للسينما 79 فيلماً بين الكتابة والتمثيل والإخراج والإنتاج، ولعبت ليلى مراد فقط بطولة سبعة وعشرين فيلماً دون أى مشاركات أخرى، وقام عبدالحليم ببطولة ستة عشر فيلماً، ومسلسل إذاعى واحد، فيما شاركت سعاد حسنى فى اثنين وثمانين فيلماً وستة مسلسلات إذاعية وعمل تليفزيونى واحد.. أما عادل إمام فرصيده الفنى حتى الآن سبع عشرة مسرحية، ومائة وثلاثة وعشرون فيلماً، وواحد وعشرون عملاً تليفزيونياً، وخمسة مسلسلات إذاعية.
ثامناً: يلفت الانتباه فى قائمة الخمسة الكبار أن عادل إمام هو الوحيد بينهم الذى تم تصنيفه ككوميديان، حتى وإن تقلب لاحقاً على كل أنواع التمثيل، لكن يبقى نجاحه الأساسى ونقطة انطلاقه إلى القمة وتربعه عليها لصيقاً بتصنيفه كممثل كوميدى ذى قدرات عالية، بعكس الأربعة الآخرين ما يؤشر إلى نجاح عادل إمام فى تمثيل تيار الكوميديا داخل هذه القائمة المحدودة من أفذاذ الفن، وانتزاعه اعترافاً نقدياً وجماهيرياً بقيمة فن الكوميديا بعيداً عن النظرة الدونية التى ظلت قرينة بممثلى الكوميديا، كأنهم مهرجون أو بهلوانات فى سيرك يقدمون إسفافاً لا يستحق تلك النظرة المحترمة التى ينالها أصحاب الأداء الرصين، فإذا بوجود اسم عادل إمام بين هؤلاء يؤكد عكس ذلك تماماً.
تاسعاً: أمر لافت آخر يدعو للدهشة فيما يتعلق بالأربعة الآخرين، فقد كان كل من أنور وجدى وليلى مراد زوجين فى الواقع وثنائياً فنياً على شاشة السينما، فكانت حياتهما الشخصية وخلافاتهما الزوجية مثار اهتمام الجماهير وسبباً إضافياً فى الإبقاء على ترديد اسميهما بين المتابعين لأعمالهما الفنية، فضلاً عن حالة الصدق التى كانت تتسرب للمشاهد وهو يرى أنور وليلى فى قصص الحب على الشاشة، ومن ثم كان نجاحهما الاستثنائى مشتركاً ومتزامناً بين عام 1945 الذى شهد زواجما الشرعى والفنى، وعام 1955 الذى شهد نهايتهما الفنية المتزامنة أيضاً، فيما كان كل من عبدالحليم حافظ وسعاد حسنى يعيشان كذلك -فى الواقع- قصة حب لم تخف على الناس، وزواجاً عرفياً كان مثار لغط الجميع حتى وإن حاول الاثنان إخفاء قصة الحب، وإنكار حقيقة الزواج، فكانت تلك المحاولات سبباً آخر -إلى جانب فنهما- فى زيادة جاذبيتهما لدى الجماهير والاهتمام بما يقدمانه من فن كل على حدة بعكس حالة ليلى مراد وأنور وجدى.
أما خامسهم عادل إمام فقد شق طريقه وحده غير متكئ لا على قصة حب ولا حتى على شائعة حب، ولم يرتبط كذلك بثنائى فنى محدد، صحيح أن ظهوره تكرر مع لبلبة أو يسرا، لكن هذا الظهور المتكرر كان بعد وصول عادل إلى قمة النجومية، ومن ثم لم يستفد هو من هذه الثنائية -إذا جاز التعبير- بقدر استفادة الطرف الآخر فى الثنائى من وجود اسمه بجانب اسم عادل إمام، وهذه صعوبة أخرى تميز مشوار نجاح عادل إمام، الذى لم تساهم فى صنعه أى عوامل غير فنية، وإنما كان فقط نتاج كد واجتهاد فى الاختيار والأداء والاقتراب من هموم الناس
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: عادل إمام عيد ميلاد عادل إمام أفلام عادل إمام جوائز عادل إمام محمد إمام رامي إمام عبدالحلیم حافظ الخمسة الکبار شاشة السینما عادل إمام فى لیلى مراد بین هؤلاء سعاد حسنى أنور وجدى ومن ثم
إقرأ أيضاً:
روبير الفارس يكتب: القمص سرجيوس الذى أغضب الاحتلال والكنيسة..أول كاهن خطب فى الأزهر وقاد المظاهرات فى ثورة ١٩١٩.. صديق سعد زغلول اعتقله الإنجليز بعد خطبتين فى جامع ابن طولون
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
يحمل شهر مارس من كل عام ذكري ثورة ١٩١٩ الخالدة، التي تظل دومًا كنزًا نعود إليه لنلتمس مركز قوة وحدتنا الوطنية. وننجذب لشخصيات قدمت أدوارًا رائدة في تاريخنا المعاصر، هم الذين شاركوا فيها، على رأسهم خطيب ثورة ١٩ القمص سرجيوس.الذي كتب عنه تلميذه القمص بولس باسيلي في كتابه النادر ذكرياتي في نصف قرن، يقول باسيلي في كتابه: هو ملطى سرجيوس عبد الملاك ولد سنة ۱۸۸۳ والتحق بالكلية الإكليريكية سنة ١٨٩٩ وتخرج فيها سنة ١٩٠٤، وعمل بخدمة الكنيسة في الزقازيق، ثم في الفيوم بسنورس، ثم عين قسًا في ملوى، وأخيرًا قام بترقيته قمصًا الأنبا مكاريوس، مطران أسيوط، باسم القمص مرقس سرجيوس وعينه وكيلًا لمطرانيته سنة ١٩٠٧ وفى سنة ١٩١٢ عين وكيلًا لمطرانية في السودان، ولم يلبث هناك سوى ثلاث سنوات كان يخطب فيها عن الاستقلال فخشيه الإنجليز وقرروا استبعاده فعاد إلى مصر سنة ١٩١٥، حيث بدأ خدمته في كنيسة مارجرجس في منطقة القللي؛ وعندما اندلعت ثورة سنة ١٩١٩ تجلى القمص سرجيوس كأحد زعمائها إذ كان أول كاهن يخطب من على منبر الأزهر ويخطب من فوقه خطبه الثورية القوية واعتقله الإنجليز بعد خطبتين ألقاهما فى جامع ابن طولون والكنيسة ومكث في الاعتقال بسجن رفح حوالي ثمانين يومًا !!
وفى سنة ١٩٤٤ عين وكيلًا للبطريركية في عهد البابا مكاريوس الثالث للبطريركية سنة ١٩٤٩ وفى عام سنة ١٩٥٠ فاز فى انتخابات المجلس الملى العام.
زعيم الطلبة
ويروي عنه القمص بولس
الكثير من القصص، فقد كان زعيمًا منذ البداية؛ فقد تزعم وهو الطالب الشاب الصغير طلبة الإكليريكية كلية اللاهوت وتوجه به إلى الدار البطريركية يعتصمون بها حتى تجاب مطالبهم من رفع مستوى المعيشة بها وضمان مستقبل خريجيها، ولما هدد مدير البطريركية الطلبة باستدعاء البوليس لطردهم لجأ الفتى الصغير «سرجيوس» إلى عميد الأقباط وقتئذ المرحوم بطرس باشا غالى فأمر بفتح أبواب جمعية التوفيق لهم حتى تحل مشاكلهم، ومنذ ذلك الوقت خشيت البطريركية سرجيوس وفكرت في طريقة لتكميم فمه، وكانت خطتهم في ذلك أن يرسموه كاهنًا ليكون تحت إمرتهم يسلطون عليه عند اللزوم سيف الحرمان والتجريد ونجحت البطريركية فعلًا في إغراء الفتى الصغير فلبس عمامة الكهنوت سنة ۱۹٠٤ ولم يتعد عمره الواحد والعشرين ربيعًا، وعرف منذ نشأته بسرجيوس الثور.
يقول القمص بولس: «لست أريد في هذا المجال أن أسترسل في تفاصيل تاريخ حياته وما أعمقها وأطولها وأعرضها، ولكني أكتفى أن أرسم بعض خطوط صغيرة استرجعها في ذاكرتي لهذه الشخصية الكبيرة، فلا يمكن الإلمام بها، فلا أقل من أن نلمح إليها؛ ولست أنسى أول لقاء بى معه فى عام ١٩٥٩ في منزلة القديم المتهدم سألته عن ذكرياته عن الكلية الإكليريكية القديمة فارتسمت على جبهة المخضرم عدة خطوط، وكأنما كان يستوحى ذكريات عبر التاريخ فقد مرت خمسة وخمسين عامًا منذ أن تخرج من الإكليريكية؛ ثم اعتدل وكأنما كان يقرأ في كتاب مفتوح قال:
شهدت المدرسة الإكلريكية القديمة مثل أي مشروع فى بدايته يتعذر الطريق ويصطدم بالوعر والشوك، وتقابل المدرسة العثرات والاضطرابات تارة من البطريركية، وتارة أخرى من المجلس الملي، الذى كان يعرف فى ذلك الوقت، بـ«اللجنة الملية»؛ وتاريخ الإكليريكية يبدأ منذ سنة ۱۸۹۳ وبالتحديد في يوم ٢٩ نوفمبر. أن ذلك التاريخ يوم أن دوت أول صرخة لذلك المعهد في منزل متواضع بالفجالة بدأت فيه المدرسة سنة واحدة ذهبت بعدها إلى البطريركية بالدرب الواسع، ومن الدرب الواسع انتقلت إلى دار في «سوق القبيلة» ثم عادت ثانية إلى البطريركية، ثم اشترى لها منزلًا خاصًا في مهمشة نقلت إليه سنة ۱۹۱۲ ولبثت فيه نحو نصف قرن، وكان ذلك بفضل الإكليريكي الأول المغفور له الأستاذ حبيب جرجس. وفى سنة ١٩٠٣ تخرج ملطى سرجيوس. وكنت حديث التخرج في الإكليريكية- والحديث للقمص سرجيوس- وقد استبقاني المرحوم يوسف بك من قريبوس ناظر المدرسة حينذاك ريثما يبحث لي عن وظيفة، وكان رحمه الله يستخدمني في كثير من الأحايين عندما يتغيب مدرس، مثلى مثل «معاون لسد الفراغ».
هدف اسمى
ذات يوم- والحديث للقمص سرجيوس- دخلت الفصل فوجدت الطلبة ثائرين وعلمت أن سبب الثورة هو أن البطريركية كانت قد قررت خفض الجراية اليومية للطالب من رغيفين عيش ونصف إلى رغيفين فقط!! فقلت للطلبة الثوار: «لو عرف الشعب سر ثورتكم لرجمكم وبدأت أحول تيار الثورة وهدفها من ثورة لأجل البطون إلى ثورة لأجل الإصلاح».
أخطر ما فعل في حياته
كثيرًا ما أزعج القمص سرجيوس الكنيسة، خاصة مطالبته بالإصلاح وكتاباته في مجلة المنارة المصرية، لكنه كاد أن يهدم النظام المؤسسي للكنيسة عندما قام بعمل البطرك والأساقفة المقصور عليهم أي رسامة الكهانة.
يقول القمص بولس. ومن نوادر القمص سرجيوس أنه قد نصب يومًا نفسه أسقفا، ففوجئت- يومًا اجتماعًا زاخرًا له- وكانت كل اجتماعاته زاخرة عامرة وكنت أنا واحدًا من آلاف الحاضرين- فوجئت بإعلانه فى بدء الاجتماع سنحتفل اليوم برسامة طبيب أسنان قسًا!!»، وهنا اشرأبت جميع الأعناق إلى طبيب الأسنان الشهير بشبرا يسجد أمام الهيكل وأمامه القمص سرجيوس بثياب الأسقفية البراقة الفضفاضة، ثم نستمع إلى «الأسقف» يقول: «ألا تؤمنون معى أن يدى هذه تستطيع أن تحول القربان إلى جسم المسيح والخمر إلى دم المسيح كما ترون ذلك في كل قداس؟! إذن اليد التي تصنع هذا، ألا تستطيع ان تحول الدكتور تودرى إلى القس باسيليوس ؟! »، وهنا بدأ مراسيم الرسامة من نفس كتاب الرسامات الطقسى، وإذا بنا نرى القس يخرج لنا بثياب الكهنوت !! ويبدو أن الاسقف والقس قد شعرا أخيرًا بهذا الخطأ، فاذا بالقس يطلب الحل ويرسم قانونيا بيد الاسقف الرسمي بأمر البابا وبهذا تنتهى الرواية.
الأهرام تنعى القمص سرجيوس
ولسنا ننسى أن نسجل المقال التاريخي العظيم الذي نشرته الأهرام في عددها الصادر في ١٩٦٤/٩/٢٤ بعد وفاة الرجل بأيام تقول: «مصر كلها كانت كنيسة مرجيوس». وقد تضمن هذا المقال تاريخ حياة سرجيوس كجزء لا يتجزأ من تاريخ نضال الشعب المصرى بكل آلامه وآماله نحو غد أفضل، فليس هناك من معركة في تاريخنا منذ نوره ١٩١٩ ضد الاستعمار أو الاستعباد أو الإقطاع أو التعصب الديني أو المصري لم يكن لسرجيوس دور قيادى فيها، وكان دائمًا فى جانب القوى الشعبية. وإذا كانت ثورة عرابي قد أنجبت نموذجًا تقدميًا من رجال الدين تجسد في الإمام الشيخ محمد عبده، فإن ثورة ۱۹۱۹ قد أنجبت أيضًا نموذجها القمص سرجيوس، وقد رفع كلاهما كتابه المقدس في شجاعة الأنبياء ووعي الفاضلين في وجه الطغاة والمستعمرين، إن الذين يؤرخون لثورة ۱۹۱۹ يعثرون مع كل خطوة باستمرار ووضوح على بصمات كفاح سرجيوس ابتداء من التعبئة الشعبية والقيادة المظاهرات حتى توزيع المنشورات الوطنية وتحمل مشقة التعذيب والنفى إلى رفح؛ ليدخل سرجيوس دائرة التاريخ التي لا ينطقي لها نور لينعم بتقدير وحب شعبنا، ويعتلى مكانة في تراثنا القومي جنبا إلى جنب مع الطهطاوى والأفغاني ومحمد عبده.
حوار نادر
في مجلة المصور عدد أبريل ١٩٥٤ يوجد حوار نادر مع القمص سرجيوس نشر تحت عنوان القمص سرجيوس على كرسى الاعتراف. وجاء في نص الحوار:
أصدرت محكمة القضاء الإداري منذ أيام أول حكم من نوعه في تاريخ القضاء المصري، وهو يقضي بإعادة القمص سرجيوس إلى أحضان الكنيسة، وبهذا أضاف مجلس الدولة فصلا جديدا إلى قصة كفاح القمص الثائر سرجيوس.. يرويها هنا بنفسه لقراء «المصور».
كان أبي قسيسا، وجدي قسيسا، وجد جدي قسيسا، ولهذا كان طبيعيا أن أنتظم أنا الآخر في سلك الكهنوت.. وكنت أستمع إلى القسس والوعاظ الذين يطوفون القرى والبلاد، ويخلبون– أحيانا– ألباب الناس بسحر بلاغتهم، فأحلم بأن أكون مثلهم.
أول إضراب
في المدرسة الإكليريكية بالقاهرة، بدأت أمارس هوايتي وقدرتي على الخطابة بين زملائي الطلبة، وكانت نظم التعليم في المدرسة تقوم على الأساليب الكنسية القديمة، ولذلك فقد اتخذت من موضوعها مادة لخطبي وجعلت أطالب بإصلاحها، حتى لا تتهم بالجمود والرجعية. وما لبثت هذه الدعوة حتى انتشرت بين الطلبة ورسخت في نفوسهم، فعقدوا اجتماعا عاما، انتهوا فيه إلى اتخاذ عدة قرارات، حملتها بنفسي إلى رجال المدرسة، ولكن نصيبها كان الرفض، ولم أجد ما تجيب به على هذا الرفض سوى أن أدعو الطلبة للإضراب، وهكذا وقع أول إضراب في تاريخ مصر! وكان ذلك سنة ١٩٠٢.
وبعد إضرابنا بقليل أضرب عمال السجاير ذلك الإضراب الذي يؤرخون به حركات الإضراب والعمال في مصر، ثم نشرت سلسلة من المقالات في الصحف المصرية، شرحت فيه أسباب الإضراب والأسس التي أقيم عليها، فانهالت البرقيات والاحتجاجات على المدرسة الإكليريكية، تطالب جميعها بتحقيق مطالبنا؛ وسويت المسألة، وتخرجت في المدرسة، وأردت أن أشتغل واعظا عاديا، لكن رجال الكنيسة رشحوني لكي أكون قسيسا، فطلبوا مني أن أتزوج فتزوجت، وكنت وقتئذ في الحادية والعشرين من عمري، ومنذ ذلك اليوم – أي منذ خمسين عاما – وأنا أعيش مع زوجتي التي أنجبت منها خمسة بنين وخمس بنات. وألقيت محاضرة بعنوان "عيشوا بسلام". كان لهذه المحاضرة أثر كبير في القضاء على الخلاف، وقد هنأني عليها رجال الدين المسلمون هناك.
طردنى الإنجليز
في السودان أنشأت مجلتي «المنارة المصرية»، وجعلت منها متنفسًا لآرائي التقدمية، وكانت هي والخطب والعظات التي ألقيها، مثار إعجاب شديد وجدل ونقد أشد، وفي ذات يوم استدعاني «مستر مور» مدير الخرطوم، وقال لي: «إن الحاكم العام للسودان، يطلب اليك أن ترحل في خلال أربع وعشرين ساعة».
فقلت له: «أنا لست في لندن حتى يأمرني الحاكم العام بمغادرة البلاد في أربع وعشرين ساعة، أنا هنا في بلادي، وليرحل هو إذا شاء».
فقال: «لا تحرجني يا سرجيوس ونفذ الأمر».
فقلت: «إن الطريقة الوحيدة التي تستطيع بها تنفيذ الأمر، هو أن تضع القيود في يدي وقدمي، وتخرجني من بلادي في الجنوب قسرًا، حتى اشهد العالم على استبدادكم».
وعمد الرجل إلى الملاينة، فقلت له إني أريد أن أعرف السبب أولًا، فقال لي: «لو قلت لك السب، هل تعطيني كلمة شرف تعد فيها بمغادرة البلاد؟».
ولما وافقت قال لي: «أنت بطبعك تنزع إلى الحرية، ونحن نحكم هذه البلاد بالسيف، ولهذا فان طبيعتك لا تلائمنا، وسوف نتعبك وتتعبنا».
وعدت إلى مصر سنة ١٩١٥، وقبعت في بلدتي جرجا. ودخلت الأزهر في مظاهرة وظللت بعيدًا عن القاهرة، حتى شب أولادي فأردت أن ألحقهم بالمدارس، واضطررت للسفر إلى العاصمة، وحينما أحتاج حزب الوفد للمال، صحبت فتح الله بركات في جولة بين القرى والضياع، وكنت أظل أخطب في أهلها حتى أحس أن المستمعين قد وصلوا مرحلة التضحية بأموالهم، فأشير إلى فتح الله، وكان يحمل حقيبة كبيرة كحقيبة القومسيونجي، فيفتحها أمام المستمعين، وإذا هي تمتلئ في لحظات.
هتفت: «يحيا الإنجليز»
ذات يوم كنا في ميدان الأوبرا وكان أكثر من عشرين ألفا، وقد وقفوا صامتين كأن على رءوسهم الطير، يستعدون للاستماع إلى خطاب، وصعدت على أكتاف طالبين، وفي وسط هذا الصمت الرهيب، بدأت خطابي قائلًا: «اهتفوا معي.. يحيا الإنجليز!».
وبهت الجمع الحاشد لهول المفاجأة وعدت أقول: «لن أخطب حتى تهتفوا.. يحيا الإنجليز".. فهتفوا، واستطردت قائلًا: "يحيا الإنجليز الذين استطاعوا بظلمهم واستبدادهم وفجرهم أن يجعلوا منا هذه الكتلة الموحدة المقدسة الملتهبة"...وصفقوا تصفيق صم الآذان.
قلت لسعد: أنت مجنون
ومرة أخرى كنت في السرادق الضخم الذي أقيم لتكريم سعد بعد عودته من المنفى، وكان زعيم الوفد في أوج عظمته ومجده، وكنت قد ذهبت إلى السرادق، بعد جفوة بيني وبين المغفور له فتح الله بركات باشا، وأخذت الجماهير تنادي «سرجيوس.. سرجيوس.. سرجيوس». ووقف سعد رحمه الله قائلا: «فليسمعنا خطيب الثورة كلمته».
وصمت الجميع، ووقفت أخطب فقلت: «والله انك لمجنون يا سعد»، وبهت الجميع، ولكني استطردت قائلًا: «والله إنك لمجنون يا سعد تقوم على دولة عظمى خرجت منتصرًا من حرب عظمى، وتملك كل شيء».
وفي الكنيسة كنت أخطب فتغلق كل الشوارع المؤدية للكنيسة بكتل بشرية متراصة، ولم يستطع فيلبس أن يجد لنفسه طريقًا إلا بشق النفس، وحينئذ التفت إلى قائلًا: يا سرجيوس أنت مارتن لوثر مصر.
وظللت في كنيستي مدة عام أعاني قرار الحرمان، وما لبثت الكنيسة هي الأخرى، حتى انتزعت مني، ولكني لم أيأس وذهبت إلى الفجالة، واستأجرت فناء كبيرا صففت فيه المقاعد، وأقمت حوله سورًا، واتخذت منه كنيسة ومنبرا للعظات، وكان الذين يهرعون إليه يفوقون عدد الذين يذهبون إلى عدة كنائس مجتمعة.
وظللت في كنيستي الجديدة حتى سنة ١٩٣٥ عندما أعدت لكنيستي الأولى، ولكني ما لبثت حتى صدر ضدي قرار حرمان آخر سنة ١٩٢٦ وعدت مرة ثانية سنة ١٩٢٧.
من غير فلوس يا سرجيوس
وفي سنة ١٩٤٩، رأيت أن أخوض معركة الانتخابات والتفت جماهير الحي حولي وكان شعارها «من غير فلوس يا سرجيوس» فلم يكن معي مليم أشتري به نصف صوت، ولكن تأييد الناس كاد يبكيني. لولا أن طلب إلى النحاس أن أتنازل من الدائرة لإبراهيم فرج، بحق ذكرياتنا وكفاحنا القديم، فتنازلت فأرسل إلى النحاس بخطاب قال فيه: «لقد أضفت موقفًا مشرفًا إلى مواقفك، الوطنية السابقة». ووجدت في الخطاب ترضية مما ارتكبه الوفد في حقي.
والتفت إلى الإصلاح القبطي، ثم صدر ضدي قرار حرمان آخر، فرفعت أمري إلى القضاء العادل، فأعادني إلى الكنيسة.