بعد حكم الـ42 عاما.. من هو صلاح الدين دميرتاش؟
تاريخ النشر: 17th, May 2024 GMT
أحدث الحكم الذي أصدرته محكمة تركية بحق الزعيم الكردي البارز، صلاح الدين دميرتاش ردود فعل واسعة النطاق في البلاد، وصبت بمعظمها في إطار الغضب والتنديد والتأكيد على أن ما حصل "ذو دوافع سياسية لا قانونية".
دميرتاش يقبع في السجن منذ عام 2016، ورغم أن "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" طالبت تركيا أكثر من مرة بالإفراج الفوري عنه مع دفع تعويضات مالية، فإنها لم تلق استجابة.
وعلى العكس قوبل طلبها في أكثر من مناسبة بلغة قاسية أبداها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان وحلفائه القوميين، معتبرين من جانبهم أن ما يطالبون به "ليس ملزما".
ونص الحكم الذي صدر مساء الخميس بسجن دميرتاش 42 عاما، وسياسية كردية بارزة أخرى بالسجن لما يزيد قليلا عن 30 عاما.
كما أدينت العديد من الشخصيات البارزة الأخرى في حزب "الشعوب الديمقراطي" الكردي من بين إجمالي 108 متهمين اتُهموا بـ 29 جريمة، بما في ذلك "القتل والإضرار بوحدة الدولة التركية".
وتمت تبرئة ما لا يقل عن 10 متهمين آخرين من التهم الموجهة إليهم، ومن المتوقع حسبما ذكر سياسيون أكراد الجمعة أن يستأنفون الأحكام في الأيام المقبلة.
من هو دميرتاش؟سياسي كردي بارز يقبع خلف القضبان منذ نوفمبر 2016، بعدما وجهت اتهامات له تتعلق بالإرهاب، في إشارة إلى صلاته بـ"حزب العمال الكردستاني"، المحظور في البلاد ودول غربية.
ويرتبط الحكم الذي صدر بحقه الخميس بشكل أساسي بما يعرف بـ"أحداث احتجاجات كوباني"، وهي بلدة سورية تقع شمال البلاد وشهدت معارك عنيفة بين المقاتلين الأكراد في سوريا وتنظيم داعش، عام 2014.
ولد في منطقة بالو التابعة لآلازيغ شرقي تركيا عام 1973، ودرس في كلية الحقوق بجامعة أنقرة، وأصبح في بدايات نشأته القانونية عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة حقوق الإنسان التركية في مدينة ديار بكر.
وبعد ذلك صعد ليشغل منصب رئيس اللجنة، وأسس مكتب ديار بكر لمنظمة العفو الدولية، في تلك الفترة، حسبما تشير تقارير متقاطعة لوسائل إعلام تركية.
خلال فترة شبابه تعرض لأكثر من مرة للاعتقال، بسبب المسار الذي كان ينشط فيه وهو الدفاع عن حقوق الإنسان.
وفي السنة الأولى من حياته السياسية، التي بدأها بهدف التوصل إلى حل سلمي للمشكلة الكردية، تم انتخابه عضوا في البرلمان عن ديار بكر في 22 يوليو 2007 عن حزب "المجتمع الديمقراطي اليساري" الكردي، حسبما توضح السيرة الذاتية المخصصة له بموقع إلكتروني.
في عام 2009 اتهم من قبل السلطات والمحكمة الدستورية العليا بالارتباط مع حزب "العمال الكردستاني" الذي يخوض تمردا ضد الدولة التركية منذ 1984.
ومن ثم أصبح نائبا عن حزب "السلام والديمقراطية" اليساري الكردي الذي حظرته المحكمة المذكورة لذات السبب.
شارك في عام 2012 في تأسيس حزب "الشعوب الديمقراطي"، وتم انتخابه في 2014 رئيسا مشتركا مع فيجن يوكسداغ، التي اعتقلت معه في 2016، وصدر حكم بحقها يوم الخميس.
وبعدما انخرط في تلك المحطة السياسية الهامة شارك في الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 10 أغسطس 2014 كمرشح للرئاسة عن "الشعوب الديمقراطي"، وحصل على 9.8 بالمئة من الأصوات.
وفي الانتخابات التي أجريت في 7 يونيو 2015، حقق حزبه نجاحا كبيرا بحصوله على 80 نائبا بنسبة 13.1 بالمئة من الأصوات.
ما قصته "أحداث كوباني"؟في سبتمبر 2014 وبينما كان تنظيم داعش يشن هجوما على مدينة كوباني التي كان يسيطر عليها آنذاك حزب "الاتحاد الديمقراطي" الكردي في سوريا شهد الطرف الآخر من الحدود احتجاجات و"فعاليات دعم" سرعان ما تطورت إلى أعمال شغب وقتل.
وتتنظر تركيا إلى "الاتحاد الديمقراطي" منذ بداية تأسيسه في سوريا على أنه "الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني"، وهو الأمر الذي ينفيه الحزب الكردي.
وجاء تنظيم الاحتجاجات ردا على عدم استجابة دعوات مسؤولي "الشعوب الديمقراطي" بفتح ممر إلى كوباني عبر الحدود، حتى تصل المساعدات العسكرية من مناطق أخرى في شمال سوريا ومن جانب حكومة إقليم كردستان العراق.
كما طالب مسؤولو "الشعوب الديمقراطي" حينها بالسماح لمقاتلين أكراد أتراك بالدخول إلى البلدة الواقعة على الحدود، من أجل مساندة نظرائهم هناك.
وتطورت الاحتجاجات وخاصة في المدن الشرقية والجنوبية الشرقية إلى اشتباكات بين القوات الأمنية والمتظاهرين، ما أسفر عن قتلى وجرحى.
وبحسب البيانات الرسمية، فقد 37 شخصا أرواحهم وأصيب 761 شخصا، بينهم 326 من رجال الأمن، في الحوادث التي وقعت في 35 إقليما و96 منطقة.
وجاء في هذه البيانات، أنه تم إحراق 197 مدرسة، وتدمير 269 مبنى عام، ونهب 1731 منزلا ومكان عمل، وتضرر 1230 مركبة.
وعلى إثر ذلك فتح القضاء سلسلة تحقيقات، وبعدما استهدفت عدة مسؤولين ونوابا في "الشعوب الديمقراطي" وصلت إلى دميرتاش في 2016، حيث تم رفع حصانته البرلمانية ومن ثم اعتقاله.
وفي شهادة أدلى بها عام 2023، انتقد دميرتاش القضية ووصفها بأنها محاكمة "انتقامية"، وقال "لا يوجد دليل واحد عني. هذه قضية انتقام سياسي، لم يتم اعتقالنا قانونيا، كلنا رهائن سياسيون".
لكن السلطات حملته مسؤولية الوقوف وراء وراء الاحتجاجات وأحداث الشغب ودعوة المتظاهرين للنزول إلى الشوارع، وتحريضهم ضد الدولة التركية.
ما أصداء الحكم داخليا؟وكان حزب "الشعوب الديمقراطي" قد تعرض لعدة ضغوط ودعاوى قضائية خلال السنوات الماضية، بسبب الاتهامات الموجهة له والمتعلقة بالارتباط بـ"العمال الكردستاني".
ولم يدخل في الانتخابات الأخيرة باسمه، وتحول بشكل غير مباشر إلى اسم آخر حمل اسم حزب "المساواة وديمقراطية الشعوب".
وجاء في بيان مشترك للرئيسان المشاركان له تونجر باكيرهان وتولاي أوروج أنهم لا يعترفون بالأحكام الصادرة، وبينها المتعلقة بدميرتاشز
واعتبر المسؤولان أنه وبالأحكام الصادرة "تمت محاولة محو حزب الشعوب الديمقراطي والسياسيين الأكراد والثوريين والديمقراطيين من المشهد السياسي".
وفي إشارة إلى أن الحكومة لم تفهم "رد فعل الشعب" في انتخابات 31 مارس، أضاف باكيرهان: "نحن الأكراد والعمال والفقراء سنهزم هذه القرارات القذرة كما هو الحال دائما".
وأضاف: "بالتأكيد سوف نحرر أصدقائنا يوما ما. وعلى من يتخذ هذا القرار أن يعلم جيدا أن تلك الأيام ليست ببعيدة".
ووصفت تولاي أوروج الأحكام بأنها "مذبحة قانونية".
وقالت: "كما تمت كتابة لائحة الاتهام في القصر ومقر حزب الحركة القومية، فقد تمت كتابة هذا القرار (الأحكام) أيضا من قبل نفس المجموعات".
واعتبرت أيضا أنه "لا يوجد شيء اسمه قضاء في تركيا. والآن حدث انقلاب قانوني آخر وانقلاب سياسي. أصدقاؤنا الذين حوكموا برئوا في ضمير العالم أجمع. نحن لا نعترف بقرارات الفاشية، فهي لاغية وباطلة".
وانتقد رئيس حزب "الشعب الجمهوري"، أوزغور أوزيل، في لقاء أجرته قناة "سوزجو" التلفزيونية العقوبات المفروضة على صلاح الدين دميرطاش وفيجن يوكسكداغ (الرئيسان السابقان لحزب الشعوب).
واعتبر أن "قضية كوباني هي قضية سياسية".
في المقابل قال النائب السابق لحزب "العدالة والتنمية" ونائب وزير الداخلية بولنت توران: "تم تحقيق العدالة، وهناك تبرئة وعقاب. حظا سعيدا".
واستشهد توران عبر حسابه في "إكس" بالخطاب الذي ألقاه أمام البرلمان في أكتوبر 2021، وأضاف: "قلنا أنه سيحاسب! ولا يمكن تمييع القانون والعدالة بتغريدات
رومانسية مرسلة من السجن، ولا يستطيع أحد استفزاز الشوارع من أجل طموحاته السياسية".
المصدر: الحرة
كلمات دلالية: الشعوب الدیمقراطی العمال الکردستانی
إقرأ أيضاً:
كيف يوظف داعش معاناة الشعوب لخدمة أجندته؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
التنظيم لا يمثل مشروعًا لمواجهة الاحتلال بل هو كيان يسعى للهيمنة على المجتمعات الإسلامية الافتتاحية تحاول الترويج لفكرة أن الدافع الأساسي للقتل هو الامتثال «لأمر إلهى» كاتب المقال يركز على قدرتهم على التخفي واختيار الأهداف بعناية وتنفيذ العمليات دون ترك أثر.
رغم أن تنظيم داعش يروج إعلاميًا لخطاب عدائي ضد اليهود والنصارى، مستخدمًا القضية الفلسطينية كأحد محاور دعايته، إلا أنه لم يقم بأي عمل فعلى يخدم هذه القضية أو يسهم فى المقاومة الحقيقية للاحتلال.
بل يكتفى بإصدار البيانات التحريضية والدعوات العامة للجهاد ضد إسرائيل، دون أن ينفذ عمليات ذات تأثير ملموس فى الأراضي الفلسطينية أو يوجه موارده لدعم المقاومة الفعلية.
وبدلًا من ذلك، يركز جهوده على استهداف المسلمين المخالفين له، سواء من الفصائل الفلسطينية الأخرى أو من المدنيين فى الدول العربية والإسلامية.
إن استخدام داعش للقضية الفلسطينية فى دعايته لا يعدو كونه وسيلة لكسب التأييد واستقطاب المجندين، مستغلًا مشاعر الغضب الشعبى تجاه الاحتلال الإسرائيلي.
فهو يوظف هذه القضية فى خطابه الدعائى لإظهار نفسه كمدافع عن الأمة الإسلامية، رغم أن ممارساته الفعلية لا تعكس أى التزام حقيقى بالنضال الفلسطيني.
وفى الوقت الذى يهاجم فيه الفصائل الفلسطينية الأخرى ويتهمها بالعمالة أو التقاعس، لم يقدم أى دعم مادى أو عسكرى يمكن أن يسهم فى تعزيز المقاومة، بل على العكس، هاجم فصائل إسلامية أخرى تعمل فى الساحة الفلسطينية، كما حدث مع حركة حماس التى اتهمها بالكفر والتخاذل.
كما أن استراتيجية داعش تعتمد على تحويل الأنظار عن فشله فى تحقيق مكاسب حقيقية على الأرض، فيلجأ إلى تبنى قضايا كبرى مثل فلسطين لتبرير استمراره. لكنه فى الحقيقة، لم يوجه جهوده العسكرية نحو الاحتلال، بل استنزف طاقات المجاهدين فى معارك داخلية ضد المسلمين أنفسهم، فى العراق وسوريا ومناطق أخرى.
فبينما تواجه غزة الحصار والعدوان الإسرائيلى المستمر، لم يوجه داعش عملياته نحو الاحتلال، بل فضل شن هجمات ضد المدنيين فى العواصم العربية والإسلامية، مما يكشف تناقضاته ويؤكد أن خطابه لا يتجاوز الدعاية الإعلامية.
إن حقيقة موقف داعش من القضية الفلسطينية تبرز مدى استغلاله للمظلومية الفلسطينية لخدمة أهدافه الخاصة. فهو لا يسعى إلى تحرير الأرض أو دعم المقاومة، بل يستخدم معاناة الفلسطينيين كأداة لاستقطاب الشباب وتبرير أفعاله الإرهابية.
وهذا يوضح أن التنظيم، رغم شعاراته الرنانة، لا يمثل مشروعًا حقيقيًا لمواجهة الاحتلال، بل هو كيان يسعى إلى الهيمنة على المجتمعات الإسلامية، حتى لو كان ذلك على حساب القضايا العادلة التى يدعى الدفاع عنها.
مقدمةفى العدد ٤٨١ من صحيفة "النبأ"، الناطقة باسم تنظيم داعش، قدّمت الافتتاحية مفهومًا جديدًا أطلقت عليه "المقاتل المتسلسل المسلم"، فى محاولة لإضفاء بُعد شرعى على عمليات القتل الفردية التى تستهدف مدنيين يهود داخل إسرائيل. يسعى التنظيم، من خلال هذا المصطلح، إلى إعادة صياغة نموذج "الذئاب المنفردة" فى إطار أكثر تنظيمًا واستمرارية، مقدمًا هذه العمليات باعتبارها جزءًا من استراتيجية جهادية مشروعة، وليست مجرد أعمال فردية عشوائية.
تهدف هذه المقالة إلى تحليل هذا الخطاب من منظور نقدي، عبر تفكيك الحجج التى استخدمها التنظيم لتبرير أعمال العنف، مع التركيز على الأبعاد الأيديولوجية والدينية التى يستند إليها، بالإضافة إلى استكشاف الدوافع الاستراتيجية وراء تبنى هذا الطرح.
كما سيتم تسليط الضوء على التناقضات فى المنطق الذى يعتمده داعش، ومدى اتساق هذا الخطاب مع التحولات التى طرأت على أساليب التنظيم بعد تراجع نفوذه الميداني.
أولًا: التلاعب بالمفاهيم الدينيةتحاول افتتاحية "النبأ" إضفاء شرعية دينية على عمليات القتل المتسلسل من خلال الاستناد إلى نصوص قرآنية وأقوال علماء المسلمين، لكنها تتجاهل السياقات الصحيحة لهذه الأدلة، وتوظفها بشكل انتقائى لخدمة أيديولوجية التنظيم.
على سبيل المثال، استشهدت الافتتاحية بآية "وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ" (البقرة: ١٩١)، لكنها أغفلت أن هذه الآية نزلت فى سياق حرب دفاعية بين المسلمين وقريش فى صدر الإسلام، حين مُنع المسلمون من دخول مكة وأوذوا فى دينهم. ولم تكن الآية دعوة عامة لقتل أى شخص ينتمى إلى ديانة معينة، بل كانت جزءًا من تشريعات الحرب التى قيدتها الشريعة بضوابط صارمة، تتجاهلها الجماعات المتطرفة عمدًا.
علاوة على ذلك، تتجاهل الافتتاحية مقاصد الشريعة الإسلامية فى الجهاد، والتى شددت على ضرورة وجود سلطة شرعية تقود القتال، وأكدت على تحريم استهداف المدنيين.
فتعاليم النبى محمد ﷺ واضحة فى هذا الشأن، إذ ورد فى الحديث الصحيح أنه نهى عن قتل النساء والأطفال والشيوخ غير المقاتلين، كما أكد الفقهاء أن الجهاد فى الإسلام يخضع لاعتبارات أخلاقية وقانونية صارمة، ولا يُترك لمبادرات فردية أو دوافع شخصية.
لكن تنظيم داعش يعمد إلى تحريف هذه الضوابط، عبر إعادة تأويل النصوص بما يخدم مشروعه العنيف، متجاهلًا الضوابط الفقهية التى تمنع الفوضى وتحدّ من انتشار العنف العشوائي.
إضافة إلى ذلك، تحاول افتتاحية "النبأ" الترويج لفكرة أن الدافع الأساسى للقتل هو الامتثال "لأمر إلهي"، متجاهلة أن الأحكام الشرعية لا تُفهم بمعزل عن سياقاتها وأهدافها، وأن الإسلام شدد على العدل فى التعامل مع غير المسلمين، سواء فى الحرب أو السلم.
بل إن العديد من الآيات التى يستشهد بها التنظيم جاءت فى سياقات دفاعية أو كانت مشروطة باعتداء الطرف الآخر، وليست أوامر مفتوحة لقتل من يختلف فى الدين أو العقيدة. وهذا التشويه المقصود للنصوص الدينية يعد أحد أخطر أدوات الجماعات المتطرفة فى تبرير العنف ونشر خطاب الكراهية.
والأخطر من ذلك أن هذه التأويلات المغلوطة لا تقتصر على الجانب النظري، بل تُستخدم كأداة تحريضية لاستقطاب الأفراد الذين يفتقرون للمعرفة الدينية العميقة، مما يجعلهم أكثر عرضة لتصديق هذا الخطاب دون تمحيص.
وهذا ما يجعل تصحيح هذه المغالطات أمرًا ضروريًا، من خلال إبراز التفسيرات الصحيحة للنصوص، وإعادة التأكيد على المبادئ الإسلامية التى ترفض العنف غير المنضبط، وتدعو إلى ضبط النفس والعدالة حتى فى أشد الظروف.
ثانيًا: صناعة بطل إرهابي جديدتحاول افتتاحية "النبأ" تقديم "المجاهد المتسلسل" كنموذج مثالى للجهاد الفردي، من خلال إبراز قدرته على تنفيذ عمليات قتل متفرقة ضد مدنيين دون أن تتمكن أجهزة الأمن من تعقبه بسهولة.
يسعى كاتب المقال إلى رسم صورة بطولية لهذا النوع من المقاتلين، حيث يركز على قدرتهم على التخفي، واختيار الأهداف بعناية، وتنفيذ العمليات دون ترك أثر يدل عليهم. كما يشيد بمهاراتهم فى إرباك أجهزة الاستخبارات وإرهاقها.
ويعتبر أن نجاحهم فى الإفلات من الملاحقة الأمنية يعكس تفوقًا تكتيكيًا ينبغى الاقتداء به، وهو ما يجعل المقال أقرب إلى دليل تحريضى على كيفية تنفيذ عمليات إرهابية فردية دون كشف الهوية.
لكن اللافت فى هذا الطرح أن التنظيم، من حيث لا يدري، يقدم تعريفًا يتطابق تمامًا مع مواصفات "القاتل المتسلسل" كما تصفه الدراسات الجنائية. فالمجاهد المتسلسل، وفقًا للصحيفة، هو شخص ينفذ عمليات قتل متعددة، بفواصل زمنية بين كل جريمة وأخرى، ويعتمد على التخفى والسرية، ويختار ضحاياه بدوافع "عقائدية" تجعله يكرر الفعل نفسه مرارًا.
هذه الخصائص هى نفسها التى يعتمدها علم الإجرام فى توصيف القاتل المتسلسل، الذى يُعرّف بأنه شخص يرتكب جرائم قتل متعددة، فى أوقات متفرقة، مع سبق الإصرار والتخطيط، وعادةً ما يكون لديه دافع نفسى أو أيديولوجى محدد يدفعه لمواصلة القتل.
هذه المفارقة تكشف عن ازدواجية الخطاب لدى تنظيم داعش، فمن ناحية، يرفض التنظيم وصف مقاتليه بالإرهابيين، مدعيًا أنهم "مجاهدون" ينفذون أوامر شرعية، لكنه فى الوقت ذاته يعترف بأن أفعالهم تتطابق مع الأنماط الإجرامية التى يصنفها العلم الجنائى ضمن فئة القتل التسلسلي.
هذا التناقض يوضح كيف يحاول التنظيم تطبيع العنف وتقديمه فى صورة بطولة، رغم أنه فى جوهره لا يختلف عن الجرائم التى تُرتكب بدوافع إجرامية بحتة، سواء كانت عنصرية أو انتقامية أو حتى اضطرابات نفسية.
علاوة على ذلك، فإن تصوير القاتل المتسلسل على أنه "نموذج مثالي" يهدف إلى استقطاب أفراد لديهم استعداد نفسى للعنف، أو ممن يشعرون بالغربة والعزلة داخل مجتمعاتهم، فى محاولة لإقناعهم بأن القتل يمكن أن يكون وسيلة مشروعة لتحقيق غاية "دينية".
وهذا ينسجم مع استراتيجية داعش فى استقطاب الذئاب المنفردة، التى لا تحتاج إلى تدريب عسكرى منظم، بل تعتمد على نشر أيديولوجيا تبرر القتل الفردى دون ارتباط تنظيمى مباشر.
وبهذه الطريقة، يحاول التنظيم إيجاد بيئة حاضنة جديدة بعد تراجع نفوذه العسكري، عبر تحويل "الإرهاب الفردي" إلى أسلوب قتالى ممنهج، معتمدًا على تضليل دينى وإعادة تأويل النصوص بما يخدم أهدافه.
ثالثًا: البعد الاستراتيجي والدعائيلا تقتصر افتتاحية العدد ٤٨١ من صحيفة "النبأ" على تأصيل شرعى مزعوم لفكرة "المجاهد المتسلسل"، بل تأتى ضمن استراتيجية دعائية أوسع ينتهجها تنظيم داعش لاستقطاب الذئاب المنفردة وتشجيع العمليات الفردية التى لا تحتاج إلى بنية تنظيمية معقدة.
بعد الضربات العسكرية التى تعرض لها داعش فى العراق وسوريا، وتراجع سيطرته على الأرض، بات التنظيم يعتمد بشكل متزايد على نموذج العمليات غير المركزية التى يصعب التنبؤ بها، حيث لم يعد بحاجة إلى تمويل أو تدريب مباشر للمنفذين، بل أصبح يركز على نشر خطاب تحريضى يستهدف الأفراد القابلين للتطرف، ودفعهم نحو تنفيذ هجمات دون ارتباط تنظيمى مباشر.
فى هذا السياق؛ تعد هذه الافتتاحية جزءًا من الحرب الإعلامية التى يشنها التنظيم، حيث تتجاوز مجرد التبرير الدينى إلى تقديم تعليمات عملية للمنفذين المحتملين. فالمقال يقدم توجيهات دقيقة حول كيفية اختيار الأهداف، وإخفاء الأدلة، والتخفى عن أعين الأجهزة الأمنية، ما يجعله أقرب إلى "دليل عمليات" موجّه للذئاب المنفردة الراغبين فى تنفيذ هجمات إرهابية.
هذا الأسلوب فى التحريض ليس جديدًا على داعش، بل هو امتداد لاستراتيجياته الإعلامية السابقة التى ركزت على نشر مواد تحريضية فى مجلاته مثل "رومية" و"النبأ"، بالإضافة إلى الفيديوهات التى تبثها أذرعه الإعلامية، والتى تهدف إلى تجنيد أفراد دون الحاجة إلى انضمامهم الفعلى إلى التنظيم.
كما أن التركيز على العمليات الفردية يعكس تحولًا تكتيكيًا فى أسلوب داعش القتالي، حيث يدرك التنظيم أن الهجمات التقليدية التى تتطلب تخطيطًا جماعيًا باتت أكثر عرضة للإحباط من قبل الأجهزة الأمنية، خاصة مع تطور تقنيات المراقبة والتجسس.
لذلك، أصبح يروج لنموذج "الجهاد الفردي"، الذى يعتمد على مهاجم واحد يستخدم وسائل بسيطة مثل الطعن أو الدهس أو إطلاق النار، مما يجعل هذه العمليات أكثر صعوبة فى التنبؤ والإحباط، وأقل تكلفة من الناحية اللوجستية، لكنها تحقق تأثيرًا إعلاميًا كبيرًا.
ورغم الانحسار الميدانى لداعش، إلا أن مثل هذه المقالات تكشف أن التنظيم لا يزال يسعى إلى الحفاظ على نفوذه عبر الحرب النفسية والدعائية. فبدلًا من التركيز على استعادة الأراضى التى خسرها، أصبح يركز على نشر الفوضى وبث الخوف فى المجتمعات المستهدفة، من خلال خلق حالة من عدم اليقين والقلق الأمني.
وبذلك، يراهن التنظيم على أن استمرار عملياته الفردية، حتى لو كانت صغيرة ومتفرقة، سيضمن بقاءه حاضرًا فى المشهد الأمنى والإعلامي، ويثبت لأنصاره أنه لا يزال قادرًا على التأثير رغم هزائمه العسكرية.
رابعًا: الافتتاحية فى سياق الخطاب الداعشي العاملا تختلف افتتاحية العدد ٤٨١ من صحيفة "النبأ" عن الخطاب التقليدى لتنظيم داعش، الذى يقوم على تبرير العنف وإضفاء الشرعية الدينية عليه، مع التركيز على المفاصلة التامة مع التيارات الإسلامية الأخرى.
فمنذ ظهوره، حرص التنظيم على التمييز بين "منهجه الجهادي" وبين أساليب الجماعات الإسلامية الأخرى، سواء تلك التى تتبنى المقاومة وفق ضوابط شرعية محددة، أو التيارات التى تضع قيودًا على استخدام العنف. يتجلى هذا فى الانتقادات الحادة التى يوجهها داعش باستمرار إلى الفصائل الإسلامية الأخرى.
واتهمها بالخضوع للقيود السياسية أو الدولية، وهو ما يتكرر فى هذه الافتتاحية التى تصور التنظيم على أنه الوحيد الذى يطبق "أحكام الجهاد الصحيحة"، بينما تتهم غيره بالتخاذل أو الانحراف عن العقيدة الصحيحة.
لكن ما يميز هذه الافتتاحية عن الخطابات السابقة هو أنها تحاول إعادة تقديم نموذج "الذئاب المنفردة" بأسلوب جديد، لا يقتصر على العمليات الفردية التقليدية، بل يطرح فكرة "المقاتل المتسلسل"، الذى ينفذ عمليات متعددة دون أن يتمكن العدو من تعقبه.
هذا التغيير فى الخطاب يشير إلى محاولة داعش إعادة تدوير استراتيجياته لتتلاءم مع الظروف الحالية، حيث لم يعد التنظيم قادرًا على شن عمليات عسكرية منظمة كما فى السابق، لكنه يسعى إلى الإبقاء على تأثيره من خلال هجمات فردية مستمرة يمكن أن تشكل تهديدًا طويل الأمد لأعدائه.
إضافةً إلى ذلك، تعكس هذه الافتتاحية تحولًا فى تركيز التنظيم من مجرد التحريض على الهجمات العشوائية إلى تقديم نموذج أكثر تعقيدًا من العمليات الفردية، حيث يُطلب من المنفذين الالتزام بنمط محدد من التخطيط، والتخفي، واختيار الأهداف بعناية، ما يجعل الهجمات أكثر احترافية وأشد خطورة.
فبدلًا من تنفيذ هجوم واحد، يتم تشجيع الأفراد على تكرار الهجمات عبر فترات زمنية متباعدة، مما يحقق تأثيرًا نفسيًا وأمنيًا أوسع. هذا الأسلوب الجديد يشير إلى أن داعش يحاول الاستفادة من تجارب سابقة، حيث نجحت بعض الهجمات الفردية المتسلسلة فى خلق حالة من الرعب وعدم الاستقرار فى المجتمعات المستهدفة.
كما أن هذا التطور فى الخطاب يعكس إدراك داعش لأهمية الإعلام فى بقائه، فحتى فى ظل خسائره الميدانية، لا يزال التنظيم قادرًا على التأثير من خلال دعايته التى تستهدف فئات محددة من جمهوره.
وبدلًا من التركيز على العمليات العسكرية واسعة النطاق، أصبح التنظيم يوجه جهوده نحو بناء صورة جديدة للمجاهد الفردي، الذى يعمل باستقلالية، ويواصل القتال رغم الظروف الصعبة، فى محاولة لإبقاء جذوة فكره مشتعلة لدى أنصاره، حتى فى ظل غياب كيان مركزى واضح يقودهم.
خاتمةتؤكد افتتاحية العدد ٤٨١ من صحيفة "النبأ" أن تنظيم داعش لا يزال مستمرًا فى استغلال النصوص الدينية لتبرير العنف، مستخدمًا التأويلات المشوّهة للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية لتضليل أنصاره وإضفاء شرعية زائفة على أفعاله.
لكن اللافت فى هذا الخطاب أنه لم يعد يركز على العمليات الجماعية أو السيطرة الميدانية، بل يحاول إعادة ابتكار أسلوب جديد من الإرهاب يعتمد على الأفراد الذين يتحركون بمعزل عن التنظيم المركزي.
وهذا يعكس تغيرًا فى استراتيجياته، حيث أصبح أكثر اعتمادًا على العمليات الفردية التى يسهل تنفيذها دون الحاجة إلى بنية تنظيمية معقدة، مما يجعله أكثر قدرة على الصمود فى وجه الحملات الأمنية التى استهدفت مراكزه التقليدية.
ورغم أن هذا التحول قد يبدو تكتيكًا جديدًا، إلا أنه فى جوهره يعكس حالة الضعف التى يمر بها التنظيم، بعد فقدانه مناطق نفوذه فى العراق وسوريا وتراجعه فى عدة ساحات أخرى.
فلم يعد بإمكانه تجنيد المقاتلين كما فى السابق، أو تنظيم عمليات عسكرية واسعة، مما اضطره إلى تبنى نهج العمليات الفردية المتسلسلة كبديل عن الاستراتيجيات القديمة.
لكنه، فى المقابل، يحاول تسويق هذا النهج على أنه أسلوب جهادى مشروع، سعيًا للحفاظ على جذوة فكره متقدة، ولإقناع أنصاره بأن التنظيم لا يزال موجودًا وقادرًا على التأثير رغم انحساره الميداني.
ومع ذلك، فإن هذا الخطاب لا يزال يشكل تهديدًا حقيقيًا، نظرًا إلى قدرته على استقطاب أفراد غير منتمين تنظيميًا، وتحريضهم على تنفيذ هجمات إرهابية بأساليب يصعب تتبعها أمنيًا.
فتقديم صورة "المقاتل المتسلسل المسلم" كقدوة جهادية قد يدفع بعض الأفراد المتأثرين بدعاية التنظيم إلى تنفيذ عمليات مستوحاة من هذا النموذج، دون الحاجة إلى تلقى تدريب مباشر أو الحصول على دعم لوجستي. وهذا يجعل مواجهة هذا الخطاب ضرورية، ليس فقط من خلال التدابير الأمنية، ولكن أيضًا عبر تفكيك الأيديولوجيا التى يقوم عليها، وكشف زيف مبرراته الدينية والشرعية.
إن التصدى لمثل هذا الطرح يستلزم فضحه على مستويين رئيسيين: الدينى والإعلامي. فمن الناحية الدينية، ينبغى توضيح أن تأويلات داعش للنصوص الإسلامية تتناقض مع مبادئ الشريعة التى تحرم استهداف الأبرياء وتؤكد على العدل والسلم.
أما من الناحية الإعلامية، فيجب تسليط الضوء على تناقضات التنظيم، وفضح استغلاله للدين من أجل تبرير العنف، وإبراز نتائجه الكارثية على المجتمعات الإسلامية نفسها قبل غيرها. فقط من خلال تفكيك هذا الخطاب، وكشف زيفه أمام جمهوره المستهدف، يمكن تقليل تأثيره والحد من قدرته على استقطاب أتباع جدد.
التنظيم يراهن على أن استمرار عملياته الفردية سيضمن بقاءه حاضرًا فى المشهد الأمنى والإعلامي.