في اليوم 222 للعدوان على غزّة، وبفعل ضربات المقاومة القوية خلال الأسبوع الماضي في رفح والزيتون وجباليا، تفجّرت مواجهة علنيّة بين وزير الحرب غالانت، ورئيس وزراء العدوّ نتنياهو، كشفت عمق الخلافات والتخبّط بشأن إستراتيجيّة (إسرائيل) حول اليوم التالي لانتهاء العدوان على غزة.
أعلن غالانت في مؤتمر صحفي يوم الأربعاء 15 مايو/ أيار الجاري، أنه سيعارض أيَّ حكم عسكري لقطاع غزة؛ لأنه سيكون مكلفًا ودمويًا وطويلًا، وطلب من نتنياهو إعلان عدم السيطرة على غزة، والعمل على إيجاد بديل عن حماس لإدارتها، وأوضح أن العمليات العسكرية المتواصلة ستنتهي بحكم عسكري لغزّة، وتآكل ما أنجزه الجيش في عملياته.
مباشرة ردّ عليه نتنياهو بأنّ الحديث عن اليوم التالي قبل القضاء على حركة حماس عسكريًا هو كلام فارغ، ولن يكون أيُّ طرفٍ مستعدًا لتولّي إدارة غزة، حتى يتّضح له أنّ حماس لن تسيطر عسكريًا عليها، وأنه غير مستعدّ لاستبدال حكم حماس بحكم فتح في غزة.
بن غفير من جانبه طلب من نتنياهو استبدال غالانت لتحقيق أهداف الحرب.
سيموتريتش وزير المالية، قال: إنّ غالانت أعلن فعليًا دعمه لإقامة دولة فلسطينية، وأمامه خياران إما التنحّي أو تطبيق قرارات الحكومة.
وزير القضاء لافين، قال: إنّ (إسرائيل) غير مستعدّة لدولة إرهابية في غزة.
الوزير غانتس من جانبه، أعلن دعمه وزير الحرب غالانت. وكذلك وزير خارجيّة أميركا أعلن من أوكرانيا أنّ الولايات المتحدة لا تدعم حكم (إسرائيل) لغزة، كما لا تدعم حكم حماس، ولا يمكن أن يكون هنالك فراغ تملؤه الفوضى، وأن (إسرائيل) في حاجة إلى خُطة واضحة لليوم التالي في غزة.
على هذه الخلفية يتّضح عمق الأزمة التي تعصف بـ (إسرائيل)، بعد إعادة جيشها للقتال في المناطق التي ادّعت أنها طهّرتها من المقاومة منذ شهور، في جباليا ومدينة غزة، كما يتّضح أن نتنياهو – وحلفاءَه في الحكومة – وبعد فشله في استحداث أجسام بديلة لإدارة غزّة، سواء بدائل أمنية أو عشائرية، أو أن تلعب السلطة دورًا تحت عنوان لجان إغاثة محلية، يريد الاستمرار في الحرب، ويرفض أيّ جهة فلسطينية – باعتبارها عنوانًا سياسيًا – أن تحكم غزة.
عمق الأزمة التي تصاعدت اليوم، يعيدُنا إلى الحديث عمّا يسمّى (حلّ الدولتين) في مراحل مختلفة من صراعنا مع المشروع الصهيونيّ، والذي شكّل على الدوام مجالًا لتهدئة الأوضاع وامتصاص التّوترات، ونشر الخداع والتّضليل والأوهام؛ شراءً للوقت، واستنزافًا للقوى الحية، وترسيخًا للاحتلال على أرض الواقع.
1- أوّل اقتراح لتقسيم فلسطين وإنشاء دولتين تضمّنه تقرير (لجنة بيل) التي شكلتها بريطانيا عام 1937 للتحقيق في أسباب اندلاع ثورة 36، ثم لجنة (وودهيد) التي شكلتها بريطانيا عام 1938 لنفس الأسباب. وجاءت توصيات اللجنتين في سياق الالتفاف على الثورة الفلسطينية الكبرى من عام (1936م- 1939م).
2- جاء قرار التقسيم رقْم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947م، والذي عملت الحركة الصهيونية وإدارة الرئيس الأميركي ترومان بكل وسائل الترغيب والترهيب لتمريره، على خلفيّة الغضب الفلسطيني بعد إعلان بريطانيا نيّتها إنهاء الانتداب على فلسطين، وتخوُّف الفلسطينيين من تسليم بريطانيا، فلسطينَ للحركة الصهيونية.
3- بعد نكبة عام 1967م واحتلال القدس، والضفة، وغزة، والجولان، وسيناء، صدر قرار مجلس الأمن رقْم 242 في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1967م والذي يدعو إلى الانسحاب من الأراضي المحتلّة عام 1967م، والاعتراف بـ (إسرائيل) ضمن صيغة (الاعتراف بسيادة واستقلال دول المنطقة)، والدعوة لتسوية عادلة لقضيّة اللاجئين.
إغراءات كبيرةوقد قبلَ العرب هذا القرار، والذي أعيد التأكيد عليه في القرار 338 الصادر عن مجلس الأمن بعد حرب عام 1973م، معترفين بذلك بـ (إسرائيل الأولى) على الأراضي الفلسطينيّة المغتصبة عام 1948م، مع الاستعداد للتّطبيع، وعلاقات سلام واعتراف متبادل.
وقد عبّر العرب فيما بعد عن هذا الاستعداد بمبادرة الملك فهد التي تطوّرت فيما بعد إلى المبادرة العربيّة للسلام، وتمّ إعلانها في الدورة الـ 14 للقمة العربية في بيروت عام 2002م على أثر فشل قمّة كامب ديفيد في يوليو/تموز 2000م، واندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية.
ورغم الإغراءات الكبيرة التي تضمنتها المبادرة العربية والتي تؤكد استعداد جميع الدول العربية لإنشاء علاقات طبيعية مع (إسرائيل) في إطار اتفاق سلام شامل، واعتبار النزاع العربي – الإسرائيلي منتهيًا، مع حلّ متفق عليه لقضية اللاجئين مقابل دولة فلسطينية في حدود الـ 67، إلا أنّ المبادرة العربية بقيت معلقةً في الهواء دون أي اكتراث إسرائيلي، لأكثر من عقدين حتى سقطت سقوطًا مدويًا نحو هاوية جديدة اسمها اتفاقات (أبراهام) والتي حملت أربعة أنظمة عربية للتطبيع والتحالف مع العدو، متجاوزةً بذلك حتى مجرد الإشارة لحلّ قضية فلسطين.
4- "م ت ف" التي رفضت القرارَين 242، و338؛ لأنهما حصرا القضية الفلسطينية بالبعد الإنساني وأغفلا البعد السياسي والوطني، فقد تمّ الضغط العسكري عليها وإخراجها من بيروت بعد عدوان عام 1982م، لتنسجم بعد ذلك مع الانهيار العربي الرسمي، وتوافق على القرار 242 عندما أعلنت قيام الدولة الفلسطينيّة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1988م، لتكون هذه الموافقة مدخلها إلى الاعتراف المتبادل مع (إسرائيل)، وصولًا إلى اتفاق أوسلو الذي جاء على خلفيّة فشل (إسرائيل) في إجهاض الانتفاضة الأولى عام 1987م على مدار أكثر من 5 سنوات.
تم توقيع اتفاق أوسلو في سبتمبر/أيلول عام 1993م بعد أيام قليلة من الرسائل المتبادلة بين "م ت ف" و(إسرائيل) والتي تؤكد اعتراف المنظمة بحق (إسرائيل) بالعيش في أمن وسلام، كما تؤكد اعتراف المنظمة بالقرارَين: 242 و338، وهكذا اعترفت المنظمة بـ (إسرائيل الأولى) على الأراضي المغتصبة عام 1948م، وتم إجهاض الانتفاضة، وترك مصير الأراضي المحتلة عام 1967م للتفاوض بين "م ت ف" و(إسرائيل).
ولأن المفاوضات تعكس أوراق القوة التي فقدتها المنظمة تمامًا بعد إجهاض الانتفاضة وإدانة المقاومة تحت مسمى نبذ الإرهاب، وفقدان البعد العربي والإسلامي للقضية الفلسطينية تحت شعار: (القرار الوطني المستقل)، وقد فتحت أوسلو الباب العربي أمام (إسرائيل) في اتفاق وادي عربة مع الأردن واتفاقات أبراهام لاحقًا مع أربع دول عربية، في تنكّر واضح للقضيّة الفلسطينيّة، ودون أي ترابط مع المسار الفلسطينيّ.
خداع وثرثرةعمليًا انتهت أوسلو بعد 30 عامًا من الخداع والثرثرة حول حلّ الدولتين إلى إقامة (إسرائيل الثانية)، دولة للمستوطنين في الضفة الغربية مع جدار فصل عنصري وأكثر من 700 حاجز عسكري لحصار المدن والتجمعات الفلسطينية في معازل حقيقية، وتكريس كل ما يمنع إقامة دولة فلسطينية.
وفي فبراير/شباط 2017م أعلنت الإدارة الأميركية أن إدارة الرئيس ترامب لم تعد متمسكةً بحلّ الدولتين أساسًا للتوصل لاتفاق سلام بين (إسرائيل) والفلسطينيين، وفي سبتمبر/أيلول من نفس العام، أعلن الرئيس ترامب اعترافه بالقدس عاصمة لـ (إسرائيل) والبدء بنقل السفارة إليها.
5- على وقع الهزيمة الإستراتيجية للعدو (صاعقة طوفان الأقصى)، يعلو الحديث والثرثرة مجددًا عن حلّ الدولتين، ويتم التلويح به أمام السلطة الفلسطينية في رام الله، وأمام دول عربية مركزية كانت مرشّحة للتطبيع مع العدوّ.
رغم أنّ هنالك إجماعًا صهيونيًا مستقرًا على رفض دولتين، غربي نهر الأردن، وفي القدس الموحّدة عاصمة أبدية لدولتهم المزعومة، والعدوّ لا يملّ من التكرار على لسان نتنياهو أنّ اتفاق أوسلو كان خطأ فادحًا يجب ألا يتكرر، وأن منح الفلسطينيين سيادة يمثل خطرًا على (إسرائيل).
وكذلك الإدارة الأميركية في كل مناسبة تؤكد أن دولة فلسطينية لا يمكن أن تنشأ إلا عبر مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين و(إسرائيل)، وأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية من شأنه أن يمنع أي تسوية سلمية في المستقبل!!، رغم ذلك فإن البعض الفلسطيني والعربي من المهزومين مستعدون للانخراط في سياق هذا الخداع للالتفاف على نتائج "طوفان الأقصى".
المطلوب رأس المقاومةإنّ الأهداف الأميركية – الإسرائيلية المشتركة واضحة ومعلنة على رؤوس الأشهاد وهي تصفية القضية الفلسطينية بتصفية المقاومة، فالمطلوب هو رأس المقاومة حتى يكون اليوم التالي يومًا إسرائيليًا بامتياز؛ لأن المشروع الصهيوني هو أساسًا مشروع غربي استعماري للهيمنة والسيطرة على المنطقة واستنزاف ثرواتها، ومنع نهضتها واستقلالها الحقيقي، ولا يقيم وزنًا لحقوق ولا يحترم اتفاقات.
ومنذ العصابات الصهيونية، ومن ثم ما يسمى (دولة إسرائيل) وعلى لسان قادتها، وفي مناسبات مختلفة قبلت بمشاريع وقرارات أممية واتفاقات باعتبارها خطوة لكسب الوقت، وترسيخ وقائع جديدة على الأرض وإجهاض المقاومة الفلسطينية، ومن ثم استكمال السيطرة والتوسع بالقوة وبغطاء ورعاية غربية كاملة، دون أي اعتبار لأي اتفاقات أو مواثيق دولية في دولة لم يتم تحديد حدودها منذ ما يسمّى إعلان الاستقلال وحتى اليوم.
في مشروع استعماري – استيطاني بكل تلك الأبعاد الأيديولوجية، والتاريخية، والسياسية، والعسكرية لا يمكن أن نختصر الصراع بموضوع (دولة فلسطينية)، وكأنه صراع على الجغرافيا فحسب، وكأنه صراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين فحسب. باسم الدولة الفلسطينية تمّ استدراج "م ت ف" إلى البرنامج المرحلي ثم إلى برنامج إقامة السلطة الفلسطينية، وباسم المصالح الوطنية الضيقة، تم استدراج دول عربية إلى التطبيع والتحالف مع الكيان الصهيوني، بعيدًا عن الرؤية الإستراتيجية للصراع.
إنّ نتيجة هذا الصراع ستقرر مصير المنطقة بأكملها بما فيها فلسطين و(إسرائيل)، فلا يستدرَج أحد للوقوع في خداع حل الدولة أو الدولتين في الوقت الذي يُستهدف فيه رأس المقاومة في فلسطين، وفي المنطقة؛ حتى يسهل تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، واستمرار الهيمنة على كل المنطقة، ومنع نهضتها واستقلالها الحقيقيّ.
بمزيد من التماسك الداخلي في فلسطين والإقليم، والتمسك بالرؤية الإستراتيجية لهذا الصراع في سياقه التاريخي، سيجعل ذلك من اليوم التالي لـ "طوفان الأقصى" يومًا لفلسطين وللمنطقة ولكلّ أحرار العالم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات دولة فلسطینیة الیوم التالی الفلسطینی ة ة الفلسطینی
إقرأ أيضاً:
هذه هي المخططات الخفية التي تُدبّرها إسرائيل لتركيا
لم يعد اليمين الأكثر تطرفًا في إسرائيل، يبدي أي قدرٍ من الحياء أو التحسب والحذر، وهو يبوح بما يختزنه في عقله الأسود، من مخططات ومشاريع، تكاد تطال مختلف دول المنطقة ومجتمعاتها، وتمسّ بالعمق، أمنها واستقرارها وسيادتها وسلامة أراضيها ووحدة شعوبها.
آخر الصيحات التي خرجت من أفواه قادته، جاءت على لسان الوزير جدعون ساعر، ودعوته لتشكيل "حلف أقليات" في الإقليم، تستند إليه إسرائيل في استهداف أعدائها من شرقي المتوسط إلى ضفاف قزوين.
لم يكن الرجل قد قضى سوى أيام قلائل، في منصبه على رأس وزارة الخارجية، إثر انقلاب نتنياهو على وزير دفاعه، حتى بدأ يُلقي على مسامعنا، بعضًا من فصول "نظرته الإستراتيجية" للإقليم، الذي تشكل إسرائيل فيه، "أقلية وسط أغلبية معادية"، مُقترحًا البحث عن "مُشتركات" مع أقليات أخرى، بدءًا بدروز سوريا ولبنان، وليس انتهاء بأكراد سوريا، والعراق، وتركيا، وإيران، فاللعب على ورقة "المكونات"، كفيل بجعل إسرائيل، "أكبر الأقليات وأقواها"، في فسيفساء المشرق العربي وهلاله الخصيب ودول الجوار الإقليمي للأمة العربية.
الأمر الذي يدفع على الاعتقاد الجازم، بأن ساعر لم يعرض سوى رأس جبل الجليد من مشروعه لـ "تجزئة المجزَّأ"، في حين ظل الجزء الأكبر منه، غاطسًا تحت السطح، وهو بالقطع، يشمل مختلف "المكونات" الاجتماعية في دول المشرق وجوارها الإقليمي.
وبالنظر إلى السياق الذي طُرح فيه، "حلف الأقليات" وتوقيت هذا الطرح، يمكن الافتراض، بأن تركيا، قبل غيرها، وأكثر من غيرها من الدول المستهدفة، هي الحلقة الأولى في إستراتيجية التفكيك المنهجي المنظم، لبنية هذه المجتمعات ووحدة وسلامة أراضي هذه الدول.
فأنقرة، رفعت وتيرة انتقاداتها لحرب إسرائيل البربرية على غزة ولبنان، وهي تقدم حماس والجهاد وبقية الفصائل الفلسطينية، بوصفها حركات تحرر وطني مشروعة، في مواجهة "طوفان الشيطنة" و"حرب الإلغاء" اللذين تتعرض له من قبل آلة "البروباغندا" الإسرائيلية، المدعومة من قبل أوساط غربية وإقليمية وازنة.
ولعلّ هذا ما تنبهت إليه القيادة التركية، مبكرًا وقبل أن يُخرج ساعر ما في جوفه، عندما بدأت التحذير من مغبة تطاير شرارات الحرب إلى سوريا، وعلى مقربة من حدودها، بل وإبداء الاستعداد لمواجهة تركية – إسرائيلية إن تدحرجت كرة النار، وعجز المجتمع الدولي عن وقفها.
وفي كل مرة صدرت فيها عن أنقرة، تحذيرات من هذا النوع، كانت أنظار المسؤولين والناطقين باسمها، تتجه إلى لعبة "المكونات" التي تريد إسرائيل فرضها على الإقليم، بدعم وإسناد من دوائر غربية عديدة، وتحت حجج وذرائع ومزاعم شتى.
مبادرتان استباقيتانفي هذا السياق، يمكن النظر إلى المبادرات الاستباقية الأخيرة التي صدرت عن أنقرة، وأهمها اثنتان: الأولى؛ داخلية، وصدرت عن دولت بهتشلي، حليف أردوغان وزعيم الحركة القومية و"ذئابها الرمادية"، الرامية لإغلاق ملف المصالحة بين أتراك تركيا وكردها، وهي مبادرة كانت مفاجئة لجهة توقيتها والجهة التي صدرت عنها، وسط قناعة عامة بأنها لم تأتِ منبتّة عن السياق الإقليمي، وانفلات "التوحش" الإسرائيلي من كل عقال، وأنها لم تأتِ من دون تنسيق مسبق بين الحليفين: بهتشلي وأردوغان.
صحيح أن المبادرة، فجّرت قلق خصومها الداخليين، بالذات على "ضفتي التطرف القومي" الكردي – التركي، وأنها أثارت انقسامًا بين "تيار قنديل" داخل أكراد المنطقة، وتيار المصالحة والاعتدال، الذي يُعتقد أن عبدالله أوجلان، يقف على رأسه، من مَحبَسه على جزيرة "إمرالي".
وصحيح أن خصوم المصالحة عملوا على تفجير مركبها قبل إبحاره وسط تلاطم أمواج المواقف والمصالح المتناقضة، بدلالة الهجوم على شركة "توساش" في قلب العاصمة التركية في الثالث والعشرين من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وما أعقبه من تصعيد في العمليات طال مناطق داخل تركيا وخارجها (سوريا والعراق).. لكن الصحيح كذلك، أن قطار المبادرة ما زال على سكته، رغم العرقلة، وأنه قد يواصل مسيره، ما دام أن وجهته النهائية، تحصين الداخل التركي في مواجهة مؤامرات التفكيك.
أما المبادرة الثانية؛ فسابقة على تطورات الحرب الإسرائيلية على غزة ولبنان، وإن كانت اكتسبت زخمًا إضافيًا في الأسابيع الأخيرة، والمقصود بها، الرغبة التركية الجارفة بالمصالحة مع دمشق، وعروض الرئيس التركي المتكررة، للقاء الأسد، وإغلاق صفحات الخلاف (الصراع) بين البلدين.. وهي المبادرة، المدفوعة بجملة من الحسابات والاعتبارات التركية، من بينها قضية اللاجئين السوريين، وأهمها "المسألة الكردية".
والحقيقة أن أنقرة، لم تكن بحاجة لأن تنتظر جدعون ساعر ليخرج ما في "صندوقه الأسود" من مشاريع طافحة بالعدائية لتركيا، حتى تبدأ بالتحرك المضاد، وتشرع في العمل على إحباط مراميها وأهدافها، والمؤكد أنها كانت تدرك، أن "النجاحات" التي سجلتها إسرائيل على الجبهة الشمالية مع لبنان، وفي مواجهة حزب الله، وتكثيفها العمليات ضد حزب الله وإيران في سوريا، فيما يشبه الاستباحة الكاملة للأجواء والسيادة السوريتين، من شأنها إحياء النزعات الانفصالية لدى بعض تيارات الحركة الكردية في المنطقة، ما دام أن هذه النزعات كانت قد تغذّت تاريخيًا وتضخمت، على جذع "الغطرسة" و"الاستعلاء" الإسرائيلي.
كما أن التطاول الإسرائيلي المتكرر على إيران، سواء في عمقها أو مناطق نفوذها، وعدم نجاح الأخيرة في بناء معادلة ردع صارمة في مواجهة التهديدات باستهداف برنامجَيها النووي والصاروخي – من ضمن أهداف إستراتيجية أخرى – ساهم بدوره في زيادة المخاوف التركية، من تضخم الدور الإقليمي لإسرائيل، ولجوء تل أبيب لاستخدام أسلحة وأدوات من النوع الذي تحدث عنه ساعر: "حلف الأقليات".
العامل الأميركيلم تكن علاقات تركيا بإدارة بايدن سلسة دائمًا، وغلب عليها التوتر في بعض الأحيان على حساب مقتضيات عضوية البلدين في "الناتو"، ومن بين جملة الأسباب الباعثة على فتور العلاقات وأحيانًا توترها، احتلت "المسألة الكردية" مكانة متميزة في صياغة شكل ومحددات العلاقة مع إدارة بايدن الديمقراطية.
فالرئيس بايدن، عُرِفَ عنه، تاريخيًا، تعاطفه الشخصي مع "الانفصالية" الكردية، وهو كان سبّاقًا من موقعه في مجلس الشيوخ لعرض تقسيم العراق إلى دويلات ثلاث. ودعم بكل قوة، قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والأطر والأذرع السياسية والاجتماعية والمالية المنبثقة عنها والموازية لها.
ونافح بقوة أيضًا عن بقاء وحدات من الجيش الأميركي في مناطق شمال شرق سوريا؛ لحماية الحركة الكردية وتدعيمها، إن في مواجهة دمشق وطهران وحلفائهما، أو بالأخص في مواجهة تركيا. وهو أغدق على أكراد سوريا، الأكثر قربًا من "مدرسة أوجلان" والـ "بي كي كي"، السلاح والعتاد، الأمر الذي لطالما قرع نواقيس الخطر في مراكز صنع القرار في الدولة التركية.
وربما لهذا السبب بالذات، سقطت أنباء فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية واكتساح حزبه الجمهوري مقاعد الأغلبية في مجلسَي الشيوخ والنواب، بردًا وسلامًا على تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، فالأول نجح في إقامة "علاقات عمل" مثمرة، ونسج بعض خيوط الصداقة مع الأخير، لأسباب لا مجال للخوض فيها في هذه المقالة، وهو متحرر من أية صلات أو "مشاعر" حيال كُرد المنطقة، والأهم، أنه بادر في ولايته الأولى إلى الإعلان عن نيته سحب قواته من شمال سوريا، وقد يستكمل في ولايته الثانية، ما كان بدأ به، قبل تدخل مؤسسات "الدولة العميقة" الأميركية لإحباط مساعيه آنذاك.
على أن مشاعر الارتياح للتحولات الأخيرة في الإدارة والكونغرس الأميركيين، لا تكفي لتبديد مخاوف أنقرة مما يمكن لتل أبيب، أن تقدم عليه. فالأتراك، بلا شك، يدركون أتم الإدراك، "مساحات المناورة وحرية الحركة" التي تتمتع بها إسرائيل في علاقاتها مع الولايات المتحدة.
ويعرفون تمام المعرفة، أن اليمين الفاشي في تل أبيب، قادر على مغازلة مشاعر اليمين الأميركي المتطرف، ومداعبة أولويات "الدولة العميقة" في الولايات المتحدة، وبالضد من إرادة الإدارة في بعض الأحيان، إن تطلب الأمر و"المصلحة العليا" ذلك. ومن هنا يمكن القول إن مشوار تركيا في تعاملها مع "المسألة الكردية"، لن يكون معبدًا وسلسًا.
أنقرة تعوّل أيضًا على قلّة اهتمام ترامب بالقضية السورية، وتلمّست خلال ولايته الأولى، استعداده للتسامح مع دور روسي متنامٍ في سوريا، وتحبيذه تنامي هذا الدور على حساب الدور الإيراني بالأخص، فيما الرجل ربما يكون مقبلًا على فتح صفحة من التعاون مع الكرملين في أوكرانيا، وملفات أخرى، على الساحة الدولية.
وأنقرة تعوّل أيضًا على ما يمكن لموسكو أن تفعله بوحي من مصلحتها في خروج القوات الأميركية من سوريا، إن لجهة حفز جهودها للمصالحة مع دمشق، أو لجهة التوسط بين القامشلي والأسد، فضلًا عن تخفيف احتقانات علاقاتها مع إسرائيل، في ضوء ما يشاع عن جهود روسية للدخول على ملفات الوساطة بين إسرائيل ولبنان، ونوايا لم تتضح بعد، تنمّ على دعم روسي لقيام سوريا، بدور في الحد من قدرة حزب الله على إعادة بناء قدراته العسكرية، حال وضعت الحرب على هذه الجبهة، أوزارها.
هي مرحلة جديدة، تدخلها العلاقات التركية الإسرائيلية، تحكمها ثوابت ومتغيرات لدى الطرفين، في بيئة محلية وإقليمية بالغة التعقيد، والأيام المقبلة، تبدو محمّلة بكل جديد.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية