الجزيرة:
2025-04-30@19:12:15 GMT

تحديات المسرح العربي في زمن الذكاء الصناعي

تاريخ النشر: 17th, May 2024 GMT

تحديات المسرح العربي في زمن الذكاء الصناعي

لا شكّ في أن كل التحديات التي عرفها المسرح العربي انضافت إليها تحدياتٌ أخرى، وبشكل أكثر حدّة مع ظهور تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما زاده غربة وانعزالًا، لاسيما وأن مسرحنا العربي كان يفتقر دائمًا إلى العمق المسرحي الذي يلهمه ويسدده ويرسم له نفس خارطة الطريق التي رسمها الشعر العربي من قبل للشعراء فجعل لهم علامات وعمودًا به يهتدون.

من المُسلَّم به أن الفن المسرحي إذا لم ينبثق من ذواتنا وإشكالاتنا فإنه سيعيش وهْم الإبداع، وسيلاحظ الممثل والمتفرّج على السواء أن في العرض خللًا، وأنه لم يحقق الهدف المنشود، وبالأولى لم يحرك الشخصية الثقافية ولا الذائقة الفنية التي كان من المفروض أن يحركها ويؤثر فيها.

إن هذا النشاز الذي يحسّه المتلقي العربي أثناء العرض المسرحي مردّه إلى مجموعة من العوامل يمكن إجمالها بالأساس في غياب الرؤية المؤطرة للعمل المسرحي كتابةً وأداءً، ذلك بأن الرؤية هي التي تنطلق من العمق الثقافي للمجتمع، وبناء عليه تتحدد الغايات المتوخَّاة من العمل المسرحي، وبالمثل تتأسس المفاهيم المجددة والمحافظة على الشخصية الثقافية في نفس الآن.

يُسْلمنا الخلل السابق إلى لاحقه الذي يتجلى في افتقار الفعل المسرحي إلى تحديد الصلة بالوجود والأشياءِ والعالمِ والثقافةِ، حتى إنْ اعترض علينا معترض بأن ثقافة الإنسان العربي نتاج واحد، صرنا إلى تذكيره بأن الإشكال كان في طبيعة صلتنا بها اندماجًا معها أو انسلاخًا.

يزداد هذا الخلل اتساعًا حين يحيد العمل المسرحي عن طبيعته الفنية، فيصبح مقاولة تخدم الغرض السياحي والهدف التجاري بعيدًا عن كل اعتبار للفنّ في علاقته بالقيمة الرافعة.

أمام كل هذه الهموم تزداد هموم أخرى إلى المسرح عامة وإلى المسرح العربي خاصة بظهور الذكاء الاصطناعي، الذي يبدو أنه يسعى حثيثًا لتأسيس صورة جديدة للمسرح لم نعهدها من قبل، وهذا سيجعل كل المسرح الإنساني في دُوامة شديدة بغض النظر عن كونه عربيًا أم لا، ذلك بأن الخطر سيضحي أكبر حين يهدد هذا الذكاء الوجود البشري من أصله فضلًا عن فنّه.

إن الأصل في الفن أنه انعكاس لنظام الكون دون بحث منه في مقاييس هذا النظام وقوانينه كما يفعل العلم الذي يسعى إلى اكتشاف القواعد والمعايير، ولذلك حتى إذا تدخّل الذكاء الاصطناعي في إنتاج الفنون ومنها المسرح، فسينتجها على طريقة العلم لا على طريقة الفن، وهنا نقطة الارتكاز التي على أساسها ينبغي أن نميز بين الفن باعتباره إبداعًا إنسانيًا وبين(الفن) باعتباره حرفة وإنتاجًا اصطناعيًا، وحتى مصطلح تقنية (TECHNO) يحيل في المعاجم الغربية وفي اللسان اليوناني خاصة على معنى الحرفة التي إن انفتحت على معنى الفن، فإن انفتاحها عليه هو انفتاح آلة على سَنَن العلم الذي يُعنى بالكمّ والعلاقات والتركيب، وليس انفتاح آية على سبيل الفن الذي يُعنى بالمعنى والأشواق والأذواق.

وبالتالي يكون الفن إشارة إلى عالم آخر يختلف عن العالم الذي يعقله العقل الاصطناعي والآلي إلى درجة ادعائي أنه لولا وجود منظومة أخرى مغايرة في مبادئها لمنظومة العالم المادي لما وجد الفن، وإلا لِمَ اختلفت شخصية فيتغنشتاين (LUDWIG WITTGENSTEIN) العلمية والحسابية عن شخصيته الفنية والشعرية؟، وأكيد أنه لم يختر أن يبيع روحه للشيطان كما باع فاوست (FAUST) بطل مسرحية غوته (GOETHE).

إذا كانت الآلة امتدادًا لحواس الإنسان وجوارحه بحيث وسّعت مجالات سمعه وبصره ولمسه وشمّه وذوقه، كما قوّت عضلاته فجعلته قادرًا على ما لم يكن يستطيعه من قبل، كما أنه إذا كان الذكاء الاصطناعي امتدادًا لعقل الإنسان بحيث وسّع أفعال عقله ذكاءً وسرعة بما لم يكن يخطر على باله من قبلُ، فإنّ السؤال الملح هو، ماهي الأداة أو الوسيلة التي يمكن اعتبارها امتدادًا للروح، ما دامت الآلة قد اختصت بتمديد الجوارح والعضلات، وما دام الذكاء الاصطناعي قد اختص بتمديد العقل وما في الذهن من قدرات، ليكون الجواب أن أهم شيء في الإنسان لم يتوسع ولم يتمدد، لا بفعل الآلة المختصة بالحواس، ولا بفعل الذكاء الاصطناعي الخاص بالعقل، هذا إن لم تكن هاتان الأداتان قد أضرّتا بمجال الروح؛ نظرًا لحجبها عن مجالها، وإدخالها الإنسان بسبب قوة تقنيتها في غيبوبة الانبهار وفي سطوة الاغترار، فنسي روحه، وظن أنه حيوان ينتمي إلى الطبيعة باعتباره حيوانًا كاملًا.

هنا تأتي الفنون لتُذكّر الإنسان بأصله الروحي وبأنه الكائن الحيواني الوحيد الذي يتمرد على حيوانيته في تطلع دائم إلى السماء، فلا تمديد لروحه إلا بمدد من الأخلاق التي هي من جنس عالم الروح، لا من جنس عالم المادة، ولأجل ذلك كانت غاية المسرح الكبرى هي التطهير (CATHARSIS) والعودة بالإنسان إلى صفاء فطرته ونقاء عمقه.

وعليه، فهل للذكاء الاصطناعي غاية روحيّة كالتي كان يقصدها أرسطو حين تحدث عن التطهير وإثارة عاطفتي الفزع والشفقة لتخليص النفس لا شعوريًا من نزعات الشر والطغيان، وحتى لو ألّف هذا الذكاء مسرحية، فهل سيسعى إلى تحقيق القيمة؟

ثم ما هي الحدود الفاصلة التي ستجعلنا نميّز بين فنّ المسرح والسينما إذا أُطلِق العنان للذكاء الاصطناعي؟

إن المسرح يقوم على الاحتفال والمشاركة في هذا الاحتفال، فهل يمكن تعويض الممثلين والجمهور بالهولوجرام ومشاهد الميتافيرس، أين الاحتكاك إذًا وأين الشعور بالانتماء إلى حس ثقافي مشترك؟، خاصة وأن خشبة المسرح يمكن اعتبارها ثغرًا من ثغور الدفاع عن إبقاء الفضاء العمومي الذي قضى عليه الذكاء الاصطناعي بقولبة البشر داخل غرف رقمية معزولين ومشتِتين لفضائهم العام وحِسهم الثقافي المشترك، وكلٌ يغني على ليلاه.

وإذا افترضنا أنّ الذكاء الاصطناعي (سيحترم) المسرح الذي أَلِفْناه ويدعه وشأنه إلا قليلًا، فإنّه في أحسن الأحوال سيصنع لنا فرعًا جديدًا للمسرح هو المسرح الرقْمي، كما وُجد المسرح الغنائيّ باسم الأوبرا، والمسرح الراقص باسم الباليه، وكما يوجد المسرح الرقْمي باسم الاصطناعيّ.

إن الذكاء الاصطناعي باعتباره نتاج العقل المادي لن تحوجه اللغة أبدًا للتعبير، أما الفن باعتباره تعبيرًا عن روح الإنسان، فإنه في سعي دائم إلى البحث عن وسيلة تعادل الروح.

وبما أن الذكاء الاصطناعي هو وليد العقل المادي، فإنه يسعى إلى الكمال الرياضي (من الرياضيات)، ولذلك وجدنا كل الفلاسفة الماديين يدافعون عن (الطوبيا)، بينما يسعى المسرح في المقابل إلى فضح هذا الكمال الزائف حين يتحدّث عن المأساة الإنسانية عامة وفي المجتمعات المتحضرة خاصة التي بلغت من أسباب الرفاه والغنى، ما يدفع عنها بالمنطق العقلي الاصطناعي كل أنواع التعاسة والمآسي، ولكنها مع ذلك تشعر بالبؤس والقلق والتمزق.

وفي الختام، لا بد من الإشارة إلى أنّ المسرح كان، وما زال، نوعًا من اللغة التي تحايث كل لغة إنسانية، فلما كان المسرح يصور الإنسان ومآسيه وأفراحه، كان يصورها داخل الوجود، فكأنه استجابة لنداء الكينونة كي تعبّر عن نفسها في صورة مسرحية تعتبر صدى للوجود، أما الذكاء الاصطناعي فيدخل في تحدٍ للوجود الأصيل بصناعة وجود وهْمي له سمّاه العالم الافتراضي، وشتان بين الفن الذي يسكن الوجود الأصيل وبين (الفن) الذي يُطرد من هذا الوجود، ليعيش في عالم وهمي، هو دقيق فعلًا، لكنه وجود مزيف ولا يعبّر عن الحقيقة والجوهر.

إنّ المسرحي الحقيقي هو الذي يستطيع أن يعرض الوجود مسرحًا، أي يعرضه على طريقة المسرح، فيرسخنا فيه ويكشف لنا عن جوانبه الخفية التي ينبغي أن نتأملها حتى تثير فينا عاطفة الدهشة والانبهار، أما الذكاء الاصطناعي فيقتلعنا من وجودنا ويطردنا منه ليجعلنا غرباء في عالمه دون ذاكرة ودون تاريخ ودون حِسّ اجتماعي ودون ثقافة.

وإذا كان الفن مسكن الوجود وكان الشعر أرقى الفنون، لزم منه أن يسكن الوجود في الشعر سكنًا لا يستطيعه الذكاء الاصطناعي؛ لأنه أبعد ما يكون عن عالم الشعر وجوهره.

من أجل ذلك على الإنسان أن يكثف شعوره بالوجود حتى يستعيد إحساسه بعالم الشعر، فيشعر بسحر العالم الذي هو علامة على أن الإنسان مَسودٌ فيه ومستأمن ومستخلَف لمن جعله خليفة فيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات الذکاء الاصطناعی من قبل الذی ی

إقرأ أيضاً:

كِتابة جِنيّ المصباح تجارب روائية ولَّدها الذكاء الاصطناعي

«اكْتُب لي قصة عن فارس الذي أوصاه أبوه بألَّا يسافر لمراكش، ليتفاجأ هناك بأنَّ عصابة تطارده. ليكتشف في النهاية أنَّ أمه ما زالت حية».

هذا هو الأمر أو الطَلب الذي وجهه الكاتب المصري الشاب أحمد لطفي لبرنامج دردشة الذكاء الاصطناعي (chatGPT) والذي يُدللـه في مقدمته باسم (جبُّوته)، وقد أطاعه البرنامج، كما هو مُتوقَّع مِن روبوت لا يعصي لسيده البشري أمرًا، وألَّف له قصة طويلة نسبيًا ونشرَتها دار (كُتوبيا للنشر والتوزيع) في 2023 باعتبارها أوَّل رواية كتبها الذكاء الاصطناعي (ما قيلَ عن روايات أخرى سبقتها ولحقتها) تحت «عنوان خيانة في المغرب». وإذا بدا الأمرُ أقرب إلى اللعب، فقد علَّمنا تاريخ الفن والكتابة أن نلعب بمنتهى الجدية، وإلَّا لأضحى ذلك كله عبثًا بلا طائل.

والحقيقة أنَّ تجربة هذه الرواية تبدو أقرب إلى لعب الأطفال المتحرر من كل خوف أو مسؤولية، العالَم هناك سطحي له بُعدان فقط، وكل الألوان تختصَر في الأبيض والأسود، وكل القيم الإنسانية والمشاعر والأفكار المعقَّدة ليست أكثر من خير وشر في صراعهما الأزلي القديم، حتى ولو بدا الشر مبالَغًا في قسوته وعنفه بلا أدنى مبرر وبدا الخير مفرط السذاجة والبراءة كأنه كائن وافد من عالم آخر، أو بالأحرى كائن مخلوق من قبل ذكاء اصطناعي مسكين كل ما يريدُ هو كسب رضا العميل.

مِن المُفارقات المثيرة للدهشة بالنسبة إليَّ أن يُهدي الكاتب عمله هذا إلى الأديب المصري المرموق (جار النبي الحلو)؛ لأنَّ أعمال هذا الكاتب المُنتمي إلى جيل الستينيات هي أبعد ما يكون عن ألعاب الإثارة والتشويق الميهمنة على خيانة في المغرب، وألصق ما يكون بالمشاعر الإنسانية والبشر الصغار في حياتهم اليومية في المدن الصغيرة. لعلَّ لديه أسباب أخرى خاصة بعيدًا عن إعجابه بأعمال الكاتب الكبير، ولعلَّه لم يُفكّر كثيرًا في الأمر؛ لأنَّه كان متعجلًا وعملية إنتاج هذه الرواية بكاملها كما يذكر في مقدمته لم تستغرق وقتًا طويلًا، وعنصر السرعة نقطة حاسمة وجوهرية تشترك في كل التجارب التي اطلعت عليها.

رغم أنَّ دافعه الأساسي للعب بدا أنَّ تحت تصرفه وقتًا أطول من اللازم: «ولأن الوقت في أسوان طويل والبال رايق»، فكان اللعب مع (جبُّوتة) نوعًا من التسلية المفيدة. لكن الخادم المطيع قدَّم له طلبه خلال دقائق، وما كان عليه إلَّا مهمة سَد (الثغور) ولعله يقصد الثغرات بطبيعة الحال. قال الكاتب: (قعدة رايقة كفيلة بذلك. مجرد ثلاث ساعات انتظار من موقف السلايمة لقرية عُمر، كانت كافية).

إذَن، في رحلة من ثلاث ساعات بين قريتين صغيرتين في جنوب مصر، عكف الكاتب الشاب أحمد لطفي على ضبط وتحرير القصة الطويلة التي كتبها الذكاء الاصطناعي بناء على طلبه، وفيها يسافر يعصي الفتى فارس وصية أبيه الراحل ويسافر للمغرب، ويمر بسلسلة من المغامرات، يختطف ويلتقي بامرأة تدعي أنها أمه ويتزوج وينجب وتحاك من حوله المؤامرات طوال الوقت حتى ينقذه صديق له وصديق قديم لأبيه من براثن امرأتين شريرتين لقيتا نهاية شنيعة ككل الأشرار.

لم يسد كاتبنا البشري إذن كافة ثغرات صديقه الذكاء الاصطناعي بكل أسف، ملتزمًا بقدر الإمكان بما قُدِّم له، فكانت النتيجة قصة يمكن قبولها من طفل في العاشرة وتحيته وتشجيعه لأنَّه بالتأكيد موهوب وعنده خيال وإذا استمرَّ في صقل موهبته بالقراءة والممارسة قد يكون ذات يوم كاتبًا له شأن. لكن هذا ليس الحال هُنا، فالكاتب الناضج لم يهتم حتَّى، ولا ناشره بالأحرى، بتصحيح الأخطاء اللغوية المنتشرة على مدار النص.

وعمومًا، تبدو اللغة العربية في هذا النص، غريبة قليلًا، كأنها ترجمة رديئة لنص أدبي أجنبي لم يُكتَب في الأصل بالعربية. يشير الكاتب إلى ميل البرنامج لاستخدام الجمل الاسمية ويشير لذلك بمثال بهذه الجملة: (كان عادل يحب أباه)، ولا أدري هل يقصد أنَّ هذه جملة اسمية أم أنها الجملة بعد أن عدَّلها هو بنفسه لتصبح فعلية. كما يشير إلى مشكلة شائعة في الترجمات الأدبية، وهي جملة القول وذكِر اسم قائلها بعدها، فعدَّلها هو في كل المواضع بحيث يسبق اسم القائل جملته. ثم ينوّه بالمواضع التي تدخَّل فيها في الحبكة وكيف وضع خاتمة للقصة بنفسه.

لن يجد مَن يبحث عن رؤية خاصة شيئًا يُعتدُّ به، فالأنماط الشائعة المُستهلكة هي الأساس في هذا العَمل، فكل شيء يبدو بلاستيكي بلا روح كأنه دُمَى مُسطَّحة تحاكي الحياة الإنسانية، حتَّى في هيئة الرجال الأشرار الغامضين الذين يتتبعون البطل فارس: «ورأى رجلين غريبين يرتديان ملابس سوداء ونظَّارات شمسية». لا تفاصيل جمالية خاصة سواء للأماكن أو للشخصيات أو للعلاقات بينها، ليس إلَّا التشويق والإثارة (الفالصو) التي لن تقنعَ أحدًا لوقت طويل، لا سيما إن كان معتادًا على هذا النوع من الأعمال المشوّقة في الكتابة أو على الشاشة.

على المستوى العالمي، ثمَّة أعمال روائية أخرى حديثة كُتبَ على أغلفتها أنها من إنتاج الذكاء الاصطناعي بمعاونة أحد الكُتَّاب، منها ما فاز بجوائز مرموقة مِثل رواية (بُرج التعاطف طوكيو) لليابانية ري كودان، والتي اعترفت بالاستفادة من برنامج الذكاء الاصطناعي في خطاب تسلمها للجائزة، بنسبة خمسة بالمائة، ما أثار جدالًا أخلاقيًا حول عدالة استحقاقها للفوز واتهامها بالسرقة الأدبية. وهناك حالات أخرى شبيهة لا سيما في مجال كتابة الخيال العِلمي، الذي يلعب بالأساس على إمكانيات واحتمالات كامنة في العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. هذه النقطة الأخيرة كانت هي منطلق رواية المصري محمد أحمد فؤاد بعنوان (حيوات الكائن الأخير)، (مدبولي للنشر والتوزيع 2024)، وعلى غلافها حدَّد دوره (بالفِكرة والتحرير)، ما يلفت نظرنا إلى طبيعة دور الكاتب المساعِد لبرامج الشات، فهل هو مُحرر أم مؤلف مساعِد أم كاتب مشارك، مثلًا على غلاف رواية (الدمعة الأخيرة) المنسوبة أيضًا إلى شات جي بي تي، كتبَ: إشراف: مروان محمد. لعلَّ تحديد دور العنصر البشري وتسميته يضيء جانبًا آخَر مِن جوانب هذه الظاهرة الجديدة، كما أنه قد يحتاج إلى بحث مستقل.

لم يفت أي كاتب من الكتَّاب الشباب الثلاثة هؤلاء أن يزوّد روايته بمقدّمة يشرح فيها طبيعة دوره وما فعله وما لم يفعله بالضبط، وهي درجة مطلوبة مِن النزاهة ومحاولة لفض الاشتباك بين الكاتبين المشاركين، العنصر البشري من ناحية والذكاء الاصطناعي من ناحية أخرى. وربما توجد قصة أخرى موازية لم تُكتَب بعد كما ينبغي، كامنة في تلك العلاقة التفاعلية بينهما. الوحيد الذي انتبه لهذه الفِكرة ولهذه العلاقة الجدلية هو محمد أحمد فؤاد في روايته (حيوات الكائن الأخير)، كما أنه يُظهرُ فهمًا أفضل (عبر حوارات أجريت معه بعد نشر الرواية) لطبيعة وإمكانيات تلك العلاقة.

تبدأ روايته برسالة من الشات جي بي تي إلى البشر، موضحًا هدفه الضمني في تغيير ملامح علامنا الإنساني كما نعرفه، ومتحدثًا عن روايته هذه وكيف اختار أن يكون هو نفسه (برنامج الشات) موضوعًا لها، والتحديات التي يمثلها وجوده في حياتنا، على أمل أن تكون الرواية بمثابة جسر بين العالمين.

يشير المؤلف المساعد هنا أيضًا إلى حقيقة أنَّ الرواية بكاملها كتبها الذكاء الصناعي واقتصر دور محررها (محمد أحمد فؤاد) على «إمداده بالأفكار، ثم تحرير المنتَج النهائي لاحقًا، للتخلص من أي أخطاء إملائية، وتعديل العبارات ذات الصياغة الركيكة، وتصويب الكلمات والمصطلحات غير الدقيقة، والربط بين بعض الفقرات غير المتسقة، وحذف الكلمات والعبارات المكررة، وتعديل بعض العناوين».

يبدو دور العنصر البشري المساعِد هنا أقرب ما يكون إلى دور المحرر الأدبي لدي كثير من دور النشر، مِن ناحية، ومن ناحية أخرى هو أقرب إلى مُبرمِج لأنه هو مَن يزوّد الآلة الذكية بالمعطيات والمدخلات التي تتيح لها إنتاج شيء ما، رواية في هذه الحالة. نتيجة هذا الفهم للمؤلف لحدود وطبيعة العلاقة بين الذكائين، البشري والاصطناعي، خرج عمله هذا أكثر نضجًا وأقرب للتجربة التي تولَّد عنها، فالرواية تبدأ بحوار بين الذكاء الاصطناعي وخالقه البروفيسور حول مفاهيم مجردة مثل الخلق والوعي والذكاء، ربما يصلح لأن يكون كتابًا غير تخييلي لتبسيط بعض المفاهيم للقارئ العادي.

لم يفت الكاتب أن يشير قبل الرواية إلى زَمن كتابتها، بالتحديد: (12 ساعة، موزَّعة على 5 أيام، بينما استغرقَ التحرير والمراجعة 11 ساعة، موزَّعة على 4 أيام.) في مقابل هذا أمضى المؤلف نفسه ست سنوات لإنجاز روايته الأولى، السابقة على هذه، طبعًا بغير مساعدة من أي شات. لاحظنا الإشارة نفسها لدى أحمد لطفي، وكذلك في مستهل رواية (الدمعة الأخيرة) بإشراف مروان محمد، حيث أشار إلى جلستي نقاش امتدت كل منهما إلى ساعة، كانتا هما الأساس في إنتاج النص، ثم أتى بعد ذلك دور التحرير والتعديل.

الحرص على الإشارة لعنصر السُرعة في إنجاز الرواية يوحي بأهميته في هذه التجارب، مقارنة بالطريقة (التقليدية) التي يتبعها أي كاتب عادي، وكأنَّ هذا جزء من اللعبة، الإنتاج السريع والضخم لأعمال كان من الممكن أن تستغرق شهورًا أو سنوات حتَّى تكتمل وتخرج للنور. وكأننا نحاول أن نكسر رقمًا قياسيًا ما كما في بعض الرياضات البدنية، كنوع من الانتصار على الزَمن والقيود التي يفرضها على المقدرة الإنسانية.

مِن الأسئلة الأخرى التي يطرحها علينا هذا النوع ِمن التجارب سؤال مَن المسؤول عن المُنتَج النهائي؟ في مقدمة روايته (الدمعة الأخيرة)، يذكر مروان محمد أنَّه غير معتاد على تقاسم مهمة الكتابة مع أي شخص أخضر، ثمَّ يقول :

«لا يمكن أن أدَّعي أني شريك فاعل في كتابة الرواية ولكن يعود السواد الأعظم إن لم يكن كل هذه الرواية في كتابتها إلى (chatGPT)، يمكن القول أيضًا إن دوري ينحسر [هكذا في الأصل وأظن أن المقصود ينحصر] في مشاركة الأفكار حول الخطوط الرئيسية لمسار أحداث تلك الرواية وإرساء الخطوط العريضة للعلاقات بين الشخصيات وأيضًا إنشاء هذه الشخصيات، مشاركتي الفِعلية كانت عبارة عن جلستي نقاش امتدت كل واحدة منهما إلى ساعة واحدة فقط عبارة عن نقاش فعَّال متبادَل بيني وبين الـ(chatGPT) عن مقترحات متبادَلة بين الشخصيات وصناعة الأحداث»..... «أما من قام بعملية السرد والوصف وإظهار المشاعر والعاطفة الداخلية لدى الشخصيات، قام بها منفردًا الـ(chatgpt)، كاملة دون تدخل مني، إلا في موطن أو اثنين على الأكثر تدخلت فيه».

وفي إشارة من الإشارات التي سبقت رواية محمد أحمد فؤاد (حيوات الكائن الأخير)، عارضَ برنامج الذكاء الاصطناعي بتواضع نسبة العمل إليه، ويؤكَّد أنَّ «الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يكون مؤلفًا للنص بشكل قانوني، فمعظم حقوق المؤلف، وفقَ القانون البشري، تنتقل إلى (الإنسان) الذي قام بتقديم الأفكار الأساسية، وتوجيه الذكاء الاصطناعي في كتابة النص».

بمعزل عن المسألة القانونية التي أشار إليها برنامج الشات، فَنحن أمام مسؤولية مشتركة قد تُذكّرنا ببعض حالات الكتابة المشتركة بين كاتبين بشريين، أو بالتعاون الوثيق بين كاتب ومحرر يتدخَّل في النص النهائي بلا قيد أو شرط. وحتَّى في هذه الحالات تثير مسألة حدود الأدوار قدرًا مِن الجَدَل، لكننا هنا أمام حالة جديدة ولعلها غير مسبوقة في طبيعة الإنتاج الفني والأدبي، حالة يتخلَّى فيها الكاتب طوعًا عن ذاتيته وفردانيته، ليلعب دور الموجِّه لروبوت، ويستمتع باكتشاف ثمرة اللعب، مع كائن يبدو ذكيًا وقادرًا على محاكاة الشروط الفنية للعمل الفني ولو من الناحية الشكلية على الأقل.

في ظني أنَّ جزءًا أساسيًا من ممارسة الفَن، بصورة فردية، هو ما يتعرَّض له مُنتِج هذا الفن من تجارب خلال عمله على قطعته الفنية سواء كانت سمعية أو بصرية أو منتَج لغوي. كيف يتغير في العَملية يومًا بعد آخَر، وكيف تتطوَّر علاقته بمادته وبحرفته، وكيف يتواصل مع الإنسانية التي بداخله والتي ستتلقى هذا العمل بعد إتمامه. من خواص العملية الإبداعية الجوهرية حتَّى الآن أنَّها انتقال للمعنى بين ذاتين بشريين، عبر وسيط الفن أو الكتابة، مهما باعدت بينهما الأزمان والمسافات.

ومع ذلك فالتقنية لا ينبغي تجاهلها، مع فنون كثيرة بجانب الكتابة الأدبية وغير الأدبية. وطالما تأثَّر المبدع والكاتب بهذه التقنيات والأدوات المُساعِدة في عمله، مثل سهولة البحث عن مواد أو معلومات على الإنترنت أو الاطلاع على أعمال سابقة في نفس موضوعه، أو توضيب المادة وتصويب الأخطاء، لكنَّ النص نفسه ظلَّ منتجًا إنسانيًا سواء كان شعرًا أو نثرًا، موضوعًا صحفيًا أو سيناريو للسينما أو التليفزيون، إلى آخره.

ما زلتُ أذكر ما أعربَ عنه الكاتب المصري الراحل إبراهيم أصلان من دهشة عندما بدأ الكتابة على الكمبيوتر وما أتاحه له برنامج الوورد من إمكانيات الحذف والإضافة وتحرير الفقرة والجملة بمنتهى السهولة، وهو الذي كان يفضّل الكتابة بممحاة، أي بقوة الحذف والتكثيف. لكن التقنية ظلَّت أداة مساعدة للذات الإنسانية حتَّى تعرب عن نفسها وتتواصل مع ذوات شبيهة بها، ولم تتدخَّل قبل اليوم -في مجال الكتابة على الأقل- إلى درجة المشاركة في الكتابة.

تغيَّر هذا الوَضع تمامًا بعد دخول برامج روبوتات الدردشة للذكاء الاصطناعي، إلى درجة أصبحَت هناك طرق مُتَّبعة في بعض المواقع أو المدارس والجامعات للتأكُّد، قبل اعتماد نشر المادة أو إعطاء درجة على البحث أو الورقة العلمية، مِن أنَّ الشخص المَعني (كاتبًا كان أو طالبًا أو سواهما) هو الكاتب ولم يلجأ لمساعدة الذكاء الاصطناعي إلَّا بقدرٍ محدود أو مسموح به.

قد نكون على أبواب حقبة جديدة تتماهى فيها الحدود الفاصلة بين الذكائين، الاصطناعي والبشري، إلى حدٍ يهدد بارتباك وبلبلة يصعب تخيُّلهما. لكن إلى أي حد قد يكون هذا مهددًا أو مفيدًا لكتابة الأدب؟ لعلَّ جزءًا من الإجابة يكمن في ما ننتظره نحن كبشر من الأدب، سرعة الإنجاز مثلًا؟ سهولة القراءة؟ المتعة والتسلية والإثارة والتشويق؟ أم نطمح لأن نخوض رحلة في أنفسنا تجعلنا أكثر قربًا مِنها ومِن أشباهنا البشر؟

في لحظةٍ ما قادِمة، قد تكون أقرب ممَّا نتخيَّل، سيكون بوسع كل إنسان (كاتب/قارئ) أن يكتب روايته الخاصة التي يريد قراءتها ونشرها، عبر برامج الذكاء الاصطناعي، بحسب ما يميل إليه من أسلوب وحبكة وطبيعة شخصيات، بنفس سهولة إنتاج صور مولَّدة في الوقت الراهن. ما قد يشجّع على تلك الممارسات هو الفَهم القاصر لعملية الكتابة الإبداعية، وأنها مجرد تنفيذ لقواعد ومعادلات ثابتة، خلط لمقادير بعينها ينتج عنه رواية مشوقة. وهكذا ستكون كل رواية مُولَّدة بالذكاء الاصطناعي محدودة بذكاء ورغبات العنصر البشري القائم على توليدها، فبرامج الذكاء الاصطناعي أقرب إلى العَبد المُطيع الذي يود إرضاء سيده بأي شكل، يشبه في ذلك جِني المصباح الذي يقول لمِن يعثر عليه ويحرره: شبيك لبيك، عبدك وبين إيديك. لكنَّ هذا الجني لا يستطيع أن يصحح لنا رغباتنا إذا أخطأنا الاختيار، فليس عليه إلَّا تجسيد أحلامنا، لذلك لعلَّ المشكلة حتى الآن في شكل التعاون بيننا وبين جني المصباح الجديد، وعَدم استيعاب كافة الإمكانيات التي قد يطلقها هذا التعاون.

لذلك فقد تُذكّرنا تجارب الكتابة الروائية بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي ببعض الروايات المكتوبة بالطريقة التقليدية على أيدي مؤلفين بشر عاديين، عند كتابة روايات يقتصر مُنجَزها على تلبية الشروط والقواعد الشَكلية لفن الرواية، وفقًا لما تقدمه بعض الكُتب والمواقع والفيديوهات التعليمية على الإنترنت.

إنَّ تنفيذ وصفة ثابتة لكتابة رواية وملء خانات بعينها بعدد من الكلمات مع تنسيق الحبكة وتطور الأحداث تبعًا لخط بياني أو شكل توضيحي، لن تختلف نتيجته كثيرًا إذا ما كان المؤلف بشريًا أو ذكاء صنعه البشر؛ لأنَّ الجوهر الإنساني للفن في الحالتين سيكون غائبًا. ذلك الجوَهر الغامض والملتبس والذي لعلَّنا نتلمسه كُلَّما ابتعد الإبداع الأدبي عن التقاليد والقواعد والقوالب، واعتمد بدرجة أكبر على خصوصية الإنسان المبدع وفرادة نظرته للوجود وأسئلته الخاصة التي يطمع لطرحها عبر ألعابه السردية، تلك الأسئلة المثيرة التي تثير قلق القارئ بقدر ما تُمتعه، لأنها تضعه في مواجهة مباشرة مع ذاته وتجربته كإنسان على هذه الأرض.

جانبٌ ممَّا يأسرنا في إنتاج الفن وتلقيه هو المغامرة بشَق سُبلٍ جديدة غير مطروقة في الفن كما في الحياة، وحتَّى يتمكَّن الذكاء الإنساني من مساعدة الذكاء الاصطناعي على الدَفع بالمغامرة لأقصى حدودها واستيعاب لغز الوجود ومعضلاته ستبقى الروايات الناتجة عنها شبيهة بعشرات الآلاف من الكتب المتوفرة بالفعل على أرفف المكتبات، مُجرَّد مُعلَّبات للهُراء القديم نفسه.

محمد عبدالنبي روائي ومترجم مصري

مقالات مشابهة

  • ديباك شوبرا: الذكاء الاصطناعي أداة لاكتشاف الذات
  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • خبراء يحذِّرون: الذكاء الاصطناعي يجعل البشر أغبياء
  • في ذكرى ميلاده.. زكي طليمات رائد النهضة المسرحية في العالم العربي
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
  • كِتابة جِنيّ المصباح تجارب روائية ولَّدها الذكاء الاصطناعي
  • القمة الثقافية أبوظبي تستعرض تأثير الذكاء الاصطناعي على الفن والثقافة
  • في ذكرى ميلاده.. نور الشريف “الأستاذ” الذي كتب اسمه في تاريخ الفن بحروف من نور (تقرير)
  • الذكاء الاصطناعي والرقمنة في العمل
  • هذه أبرز وظائف المستقبل التي تنبأ بها الذكاء الاصطناعي