تعليم اللغات الأجنبية ضرورة مرحلية.. والتعليم بها جريمة حضارية وقومية
تاريخ النشر: 17th, May 2024 GMT
على ذكر المصالح الفردية والجماعية المتناقضة والمتضاربة التي تحدثنا عنها في مقالنا السابق والتي ما تزال تتلاعب اليوم بالمنظومة التربوية (بين الفرنسية والإنجليزية) أكثر من الآمس، يقول الخبير في الرياضيات الأستاذ الدكتور أبو بكر خالد سعد الله في مقال له في جريدة الشروق الجزائرية ليوم 3 أكتوبر 2004 :"كان أصحاب التصحيح الثوري مدركين لضرورة الرقي باللغة العربية بعد الاستقلال، باعتبارها ثابتة من الثوابت الوطنية، فعملوا على زحزحة تدريس اللغة الفرنسية تدريجيا في المدرسة الابتدائية، حتى جعلوها تدرس ابتداء من السنة الرابعة، أما خبراء عهد المصالح ، فرأوا عكس ذلك، وجعلوا تدريس اللغة الفرنسية ينزل (دون تدريج) من السنة الرابعة إلى السنة الثانية، وقاموا بذلك بعد إعداد مخطط على المقاس ظل سرا إلى اليوم سموه (إصلاح المنظومة التربوية) وما هو بإصلاح، كما أن خبراء هذه المنظومة في السابق كانوا يؤمنون بأنه لا تناقض بين تدريس الرياضيات والعلوم باللغة العربية، لتحتل مكانتها بين اللغات العالمية الأخرى، وبين التفتح على العالم الخارجي.
فلماذا لا يقتدي هؤلاء "المَصالحيون" المزورون والمتاجرون المدعون للوطنية عندنا زورا وبهتانا، بل وإجراما، بتعامل الوطنيين الفرنسيين أنفسهم مع قوانين اللغة الفرنسية المطبقة بكيفية مقدسة هناك أشبه في صرامتها بمحاربة لباس بناتنا المسلمات على أرضها في مدارسها وشوارع مدنها وشواطئ بحارها!؟
ولماذا لا يقتدون أيضا بالتطبيق الصارم لقوانين اللغة العبرية في "فلسطين المحتلة" التي ينتمي لفيفها الحالي إلى أكثر من 120 قومية وجنسية أصلية، ويتحدثون في أسرهم ومحيطهم الخاص بعدد لغاتهم ولهجاتها المحلية، من فلاشات أثيوبيا واليهود العرب (من عمان إلى تطوان!؟) إلى يهود فرنسا وألمانيا وبولونيا والاتحاد السوفييتي سابقا.. وأوكرانيا لاحقا..
لا نتصور عاقلا واحدا يحب الخير لوطنه يرفض تعلم اللغات الأجنبية وإتقانها، سواء لأسباب اجتماعية أو مهنية أو اقتصادية أو ثقافية أو دينية، ولكن في المقابل لا يمكن أن نتصور عاقلا واحدا يحب الخير لوطنه وأمته يقبل التعليم باللغات الأجنبية، على حساب لغة الوطن والسيادة والوحدة الترابية والشعبية، والإشعاع الحضاري للوطن والأمة بين الأوطان وسائر الأمم الحية المستقلة في العالم!علما أن كل هؤلاء الأقوام، لا يجمعهم تحت قبة "الكنيست" أو دواليب الإدارة والمحيط وأجهزة الإعلام والمؤسسات التعليمية والعلمية في هذا الكيان، من الحضانة حتى معهد وايزمان للدراسات النووية سوى اللغة العبرية الوطنية والرسمية الوحيدة المطبقة هناك بالفعل (وليس بالقول) بحكم احترام مبدأ دولة القانون في هذا الكيان الذي يوجد له مجلس أعلى للقضاء ومحكمة عليا تحميه وتعاقب (دون استثناء) كل المتلاعبين فيه وبه، ابتداء من أبسط موظف إلى أعلى لواء في الجيش ورئيس الوزراء، ذاته (يهود أولمرز) الذي خرج من السجن قبل سنوات قليلة فقط تنفيذا للقانون فوق الجميع.. والباب مفتوح لكل المعتدين على القانون العبري من مثله في أية رئاسة الدولة والحكومة..
فهذا هو معنى السيادة الحقيقية والهوية الثقافية المرتبطة أساسا، باللغة الوطنية والرسمية وحدها، لأن الهوية العرقية للحيوان فقط، أما هوية الإنسان فبالثقافة فقط (أنظر كتابتا: الهوية الوطنية، الحقائق والمغالطات، دار الأمة الجزائر 1995).
وللعلم هنا نذّكر المؤمنين من (العرب وغير العرب)، وللتاريخ كذلك نقول بأن في حكومة هذا الكيان وزارة للأديان رغم أنها ثلاثة فقط هناك (وهي اليهودية والمسيحية والإسلام) ولكن لم يكن ولن يكون أبدا لهذه الحكومة وزارة للغات المحلية أو الأجنبية، رغم أن هذه اللغات تعد بالعشرات وبعدد الجنسيات الأصلية لسكان الكيان كما أسلفنا..
وهنا نعود لهؤلاء الخفراء الاستحلاليين الذين ما فتئوا يرددون، من كبيرهم إلى صغيرهم، جهلا أو تجاهلا، واستخفافا بعقول الجزائريين، يرددون ضرورة الانفتاح على اللغات الأجنبية، وكأنهم "اكتشفوا البارود"، فنقول لهم للمرة الألف، بأن تعليم اللغات الأجنبية ضرورة علمية ومرحلية أما التعليم بها فهو جريمة هوياتية وقومية، وأن الفرق بينهما كالفرق بين العلم والجهل، والموت والحياة، والليل والنهار، والجنة والنار .
ولا نتصور عاقلا واحدا يحب الخير لوطنه يرفض تعلم اللغات الأجنبية وإتقانها، سواء لأسباب اجتماعية أو مهنية أو اقتصادية أو ثقافية أو دينية، ولكن في المقابل لا يمكن أن نتصور عاقلا واحدا يحب الخير لوطنه وأمته يقبل التعليم باللغات الأجنبية، على حساب لغة الوطن والسيادة والوحدة الترابية والشعبية، والإشعاع الحضاري للوطن والأمة بين الأوطان وسائر الأمم الحية المستقلة في العالم!
فهناك فرق قاتل إذا بين استعمال اللغات الأجنبية في مجال البحث العلمي والانفتاح على العالم الخارجي في عصر الفضاء والفضائيات، وطي المسافات بين الكواكب والقارات في لحظات، وبين استعمال هذه اللغات الأجنبية القاتلة في قطاعات السيادة والإدارة والهوية والشخصية..
كما أن هناك فرقا بين اللغة الأجنبية المفيدة والبريئة، والجرثومة الأجنبية المقيتة والكورونة المميتة، وهناك أيضا فرق بين اللغة الأجنبية الضرورية واللغة الأجنبية الثانوية..
فبالنسبة لعلاقة اللغة الأجنبية بالسيادة الوطنية، يمكن أن نذّكر هنا كل الذين يعقلون، ممن لهم علاقة بهذا الوطن، أن أحسن مثال لذلك هو العملة الوطنية السيادية والرسمية بالنسبة للعملات الأجنبية، (الصعبة وغير الصعبة،) مهما تكن ضعيفة أو قوية بالنسبة للعملة الوطنية...
فمثلما لا يتصور عاقل أية دولة وطنية ذات سيادة محترمة في هذا العالم تقبل رسميا بتداول العملات الأجنبية داخل التراب الوطني مباشرة، دون تحويلها في البنك إلى العملة الوطنية، كما لا يتصور عاقل أيضا أية دولة وطنية من هذا النوع الشرعي ترفض عند الاستطاعة أن تكون خزانتها الوطنية مليئة بشتى العملات الأجنبية المفيدة، الصعبة منها وغير الصعبة.
هناك فرق قاتل إذا بين استعمال اللغات الأجنبية في مجال البحث العلمي والانفتاح على العالم الخارجي في عصر الفضاء والفضائيات، وطي المسافات بين الكواكب والقارات في لحظات، وبين استعمال هذه اللغات الأجنبية القاتلة في قطاعات السيادة والإدارة والهوية والشخصية..ولكن مثلما تحدد الدول الشرعية المنتخبة والسيدة مجال استعمال العملات الأجنبية داخل البلاد (في البنوك والمناطق الحرة، كالمطارات وغيرها)، تحدد هذه الدول السيدة كذلك مجال استعمال اللغات الأجنبية في المخابر والجامعات والمناطق السياحية وغيرها.
فبالنسبة لعلاقة اللغات الأجنبية بالبحث العلمي، والتقدم التكنولوجي (حصان طروادة عندنا) الذي هو حق يراد به باطل مهين وقاتل، فنقول بأن البحث العلمي في مرحلة ما بعد التدرج، بقدر ما هو ضروري لكل دولة مستقلة وغير تابعة لغيرها تطمح إلى أن توجد لها مكانا محترما بين الدول المتقدمة في العالم، فإن هذا المسعى لا يتأتى لها بلغة أجنبية واحدة ووحيدة.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليس بمقدور بشر أن يتعلم كل المواد العلمية بكل اللغات الأجنبية، ولذلك فمنطق الدولة المستقلة المتحضرة المنفتحة على العالم المتحضر والمتقدم في هذا المجال الحيوي، يقتضي من ساستها المنتخبين الشرعيين كما هو معترف بهم وطنيا ودوليا أن ينتهجوا أسلوب النحلة الشغالة، فيوجهون مجموعة من أبناء الوطن الموهوبين والنجباء والنابهين وهم لا يتجاوزون نسبة 3% من مجموع أفراد المجتمعات المتحضرة في العالم (ولكل وطن نصيبه من الموهوبين في قدرات ذاتية معينة) يتم إرسالهم إلى التخصص في اللغات الأجنبية الحية والمفيدة، ليتولوا مهمة الترجمة والنقل العلمي من تلك اللغات المتقدمة تكنولوجيا (كل فيما يتميز به من مخترعات، كروسيا و اليابان و امريكا و المانيا و والصين وكوريا وفينلندا وتركيا وإيران وأوكرانيا..) إلى اللغة الوطنية والرسمية للبلد الطامح للسير في مدارج العلا والاستقلال العلمي والتكنولوجي، والتي نصِر دائما على أن تكون اللغة الوطنية والرسمية هي وحدها لغة التعليم والتحصيل داخل الوطن، مثلما تفعل فرنسا في فرنسا وألمانيا في ألمانيا واليابان في اليابان والصين في الصين وأنجلترا في أنجلترا وروسيا في روسيا وكوريا في كوريا بجنوبها وشمالها وتركيا في تركيا (والعالم الناطق بالتركية المزمع إنشاؤه مستقبلا أن شاء الله).
وليست هذه اللغة وحدها المتعلمة بطبيعة الحال كما ذكرنا، عملا بمقولة "لكل لسان إنسان" التي يغالط بها بعض الاستحلاليين عندنا بدون تفكير أو إمعان، وفي هذه الحالة، أي تعلم اللغات وليس التعليم باللغات كما أسلفنا، لا يوجد حد (على المستوى الفردي) لإتقان أي عدد من اللغات الأجنبية بعد اللغة الوطنية بطبيبة الحال إلا حد القدرة الذاتية للإنسان التي لها حدود بشرية لا تتعداها.
و في الختام يمكن حصر المقاييس الوطنية والسيادية الأساسية للتعامل باللغات الأجنبية ظاهر الوطن فيما يلي:
1 ـ أن يكون للغة الوطنية والرسمية مكان الصدارة في الإدارة والحياة العامة والاستعمال اليومي الشفهي والتحريري، كما هو الحال السائد على سبيل المثال في "جزيرة" أو جزائر وزارة الدفاع الوطني حاليا (فيما نعلم حتى الآن).
2 ـ أن تغرس المناهج التربوية (الباديسية النوفمبرية وليس الباريسية الديسمبرية) في نفوس الناشئة (يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب) حب الوطن بكل رموزه المقدسة، وفي مقدمتها حب اللغة الوطنية، كمبدأ لا يقبل المساومة والنقاش، مثل العلم والنشيد والعملة، إن لم يكن حب اللغة وتقديسها أكثر من ذلك لكونها مرتبطة ارتباطا عضويا بالهوية كما أثبتنا. في مقال سابق (عن العلاقة العضوية بين الثقافة والهوية....)
3 ـإاعطاء الأولويية القصوى في سلم كشف النقاط على مستوى التعليم المتوسط والثانوي للغة الوطنية مثلها مثل الرياضيات أو أكثر، بالتوازي مع رفع مستوى العلامة المقصية للطالب بالنسبة للغة الوطنية في الامتحانات العامة، كما هو الحال في ألمانيا والصين واليابان وكوريا وتركيا حيث ينقصون من المعامل التنقيطي لمواد اللغات الأجنبية ويرفعون من الحد الأدنى للرسوب بالنسبة للغة الوطنية للحث والحض على التمكن منها وإعطائها الأهمية التي تليق بها عند الناشئة.!؟
4 ـ أن يفٌضل من يجيد اللغة الوطنية على اللغة الأجنبية عند الاختيار في التوظيف العمومي وغيره.
5 ـ أن يقتصر استعمال اللغة الأجنبية على المجال الدراسي والبحث العلمي، وتبعد اللغة الأجنبية من الاستعمال في الحياة العامة والإدارة والإعلام والثقافة بكل فروعها، كما هو الوضع في فرنسا مثلا بقانونها السمعي البصري للإذاعة والتلفزيون الذي يمنع منعا باتا تمرير البرامج، وحتى الإشهار باللغات الأجنبية دون ترجمة ولو مكتوبة في أسفل الشاشة المرئية.
6 ـ أن تطبق التعليمات الخاصة بقانون اللغة الوطنية بصرامة كما تطبقها وزارة الدفاع الوطني الحالية في كل الهيئات والفروع التابعة لها كما هو معلوم. كما قال منشط الاحتفالات هذا العام في أكاديمية شرشال بأن الفارس لا يركب حصانين ولا يرفع رايتين ولا يتحدث لسانين وقضي الأمر الذي فيه تستفتيان.
فإذا توفرت هذه الشروط، وروعيت بإخلاص، وطبقت بنزاهة من طرف المعنيين بشؤون البلاد، كما هو منصوص عليها في قانون اللغة الوطنية المجمد منذ صدوره مع مشروع قانون إدانة جرائم الاستعمار، فإذا طبقت هذه الشروط مثل كل الدول المستقلة ذات السيادة، قولا وفعلا، فلن ينجم عن الانفتاح اللغوي أو إتقان اللغات الأجنبية أي ضرر على السيادة الوطنية بل وعلى الاستقلال والوحدة الاجتماعية والسياسية للمجتمع على وجه العموم مثلما قال مالك بن نبي في النص السالف الذكر.
العلماء الكبار وحدهم هم الذين يحتاجون إلى إتقان اللغات الأجنبية لإتمام بحوثهم ودراساتهم، أما الذين دونهم من كافة المواطينن على جميع المستويات، فلا يدركون المعرفة العلمية إلا بلغتهم الوطنية الأصلية.وإذا حبا الله المجتمع كما قلنا، ببعض المتفوقين ذهنيا من ذوي القدرات اللغوية العالية، فيجب أن يٌستغلوا علميا (بمخططات إصلاحية تربوية وطنية مدروسة) كالنحلات الشغالة لإنتاج العسل للجميع، بما ينقلونه من شتى اللغات الأجنبية عبر القارات إلى اللغة الوطنية في البلاد العربية، ليتمثلها الملايين من أفراد الشعب العربي العاديين في المؤسسات التعليمية والتكوينية باللغة الوطنية وحدها كما سبق التحديد. وقد ذكرنا الأمثلة الحية على ذلك من مختلف الدول المتقدمة والمتحكمة في هذا العالم.
وهنا نؤكد بأن الدراسات والبحوث العلمية والنفسية واللغوية حتى في فرنسا ذاتها تثبت أن العلم لا يمكن أن يفهم وأن ينتشر إلا في نطاق اللغة الأصلية أو اللغة الأم وليست "لغة الأم"، لأن هذه الأم قد تكون أجنبية (متزوجة بمواطن عربي) وقد تكون أمية (لا تقرأ ولا تكتب).
فالعلماء الكبار وحدهم هم الذين يحتاجون إلى إتقان اللغات الأجنبية لإتمام بحوثهم ودراساتهم، أما الذين دونهم من كافة المواطينن على جميع المستويات، فلا يدركون المعرفة العلمية إلا بلغتهم الوطنية الأصلية.
وهنا يحق لنا أن نتساءل عن الاقتداء بتجارب الدول والأمم المتطورة والمتحضرة، هل يكون بالصعود إلى الأعلى وارتقاء المعالي، وتجشم التضحيات، أم أن هذا الاقتداء يكون بالهبوط إلى ما دون الحضيض بالدعوة إلى الإدمان على مص ضرع البقرة الأجنبية (الإنجليزية أو الفرنسية) والتشبث بذيلها، والتبرك بزبلها في منتهى الذل والتبعية، فلا علم أتقناه ولا شأو بلغتاه ولا شرف أبقيناه ولا علف شبعناه ولا حضيض برحناه.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير العربية اللغات العلوم العرب علوم رأي لغات أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة اللغات الأجنبیة فی اللغة الأجنبیة اللغة الوطنیة على العالم لغة الوطن فی العالم یمکن أن فی هذا کما هو
إقرأ أيضاً:
الدكتوراه بامتياز للباحث سام الهمداني من كلية اللغات جامعة صنعاء
الثورة نت / أمين النهمي
حصل الباحث سام يحيى ناصر الهمداني، اليوم على درجة الدكتوراه بامتياز في البلاغة والنقد من كلية اللغات قسم اللغة العربية –جامعة صنعاء عن أطروحته الموسومة بـ ” الحِجَاح في المناظرات الخيالية في الأدب العربي خلال الفترة ( ق8هـ – ق12 هـ).
وأشادت لجنة المناقشة والحكم برئاسة الدكتور عدنان يوسف الشعيبي من جامعة صنعاء مناقشة داخلياً، وعضوية الدكتور منير عبده أنعم من جامعة صنعاء مشرفاً رئيسياً، والدكتور نجيب عبده الورافي جامعة ذمار مناقشة خارجياً بمستوى الأطروحة، وما تمثله من قيمه علمية.
وتكمن أهمية هذه الدراسة، أنها دراسة تطبيقية على متنٍ أدبي يعد من أبرز مظاهرِ النشاط الفكري والأدبي في تلك المدة الزمنية، كما تشكل محورًا مهمًا في الدراسات الحجاجية؛ لأنها تبحث عن أسلوب الأدب العربي في تأنقه وحسن صنعته، في ضوء منهج نقدي حديث، وكذا إبرازِ التفاعل بين نظرية الحجاج وأدب المناظرات الخيالية في الأدب العربي.
ويشير الباحث إلى أن المنهج المتبع في هذه الدراسة هو إجراءات النظرية التداولية، ومدارس الحجاج (بيرلمان وتيتكا، ديكرو) دون الاستغناءِ عن المنهج الوصفي القائم على اكتشافِ ووصفِ بعضِ التقنيات اللغوية والبلاغية الحجاجية، وتحليلِها وبيان دلالاتِها ووظائفِها.
وأوضح الباحث أن هذه الدراسة تحاول استحضار المناظرات الخيالية في الأدب العربي من القرن الثامن إلى القرن الثاني عشر الهجري إلى ساحة القراءة الأدبية البلاغية.
وتهدف الدراسة إلى الكشف عن نموذج من نماذج الفنون الأدبية في هذه المدةِ الزمنية، وما فيها من قيمة أدبية وحجاجية، ومدى تفاعل الحجاج مع المناظرات الخيالية، وارتباطهِما معًا، وكذا رصدُ التقنيات الحجاجيةِ في المناظراتِ الخيالية في الأدبِ العربي في المدة المحددة للدراسة، والكشفُ عن دورِها الفاعل، وقدرتِها على تحقيقِ الإقناعِ والتأثيرِ في المتلقي، والكشف عن المقاصدِ التداوليةِ في أدب المناظرات ِالخيالية في النصوص ِالمختارة، بالإضافة إلى إظهار دورِ السياقِ في الكشف عن مقاصدِ المتكلم، وتحقيقِ تواصليةِ الخطاب وانسجامِهِ.
و اقتضت طبيعةُ الدراسة أن تنتظم في مقدمةٍ وتمهيد، وثلاثة فصول، وخاتمة، حيث تضمنُ المهادَ النظري لمفردات البحث ومضامينهِ، وكان ذلك في محورين هما: المحور الأول، تناولَ مفهومَ الحجاج معجميًا، ثم نبذةً مختصرةً عن مفهومه في الفكر العربي والغربي قديمًا وحديثًا، والمحوُر الثاني، تناولَ مفهوم المناظرات متتبعًا مراحل النشأة والتطور لهذا الفن، مع استعراضِ مفهومِ المناظراتِ الخيالية وحجاجيتِها.
واحتوى الفصل الأول: المعنون بـ(منطلقاتِ الحجاجِ وتقنياتهِ الاتصاليةِ في المناظرات الخيالية)، على مبحثين: الأول: (مقدماتُ الحجاج)، وفيه تمَّ الحديثُ عن مقدمات الحجاج في المناظرات الخيالية، التي تمثلت في (الوقائع، والحقائق، والقيم، والهرميات، والمواضع)، والثاني: (تقنياتُ الحِجج الاتصالية)، وفيه تمَّ تناولُ الحُججِ شبه المنطقية (التناقض والتعارض، وعلاقة التبادل قاعدة العدل، وحجة الاشتمال، وتقسيمُ الكل إلى أجزاء)، ثمَّ الحُجج المؤسسة على بنية الواقع (الحجة السببية، وحجة التبذير، وحجة السلطة)، يلي ذلك الحجج المؤسسة لبنية الواقع (حجة الشاهد، وحجة المثل).
فيما احتوى الفصل الثاني: المعنون بـ(تقنياتِ الحجاج البلاغي في المناظرات الخيالية)، على ثلاثةِ مباحث: تناول في المبحث الأول: (حجاجيةُ الصورة)، وفيه تم الحديثُ عن حجاجية التشبيه، والاستعارة، والكناية، وتطرق المبحثِ الثاني (حجاجية التراكيب اللغوية)، إلى دراسةُ بعضِ الأساليبِ الإنشائية، وهي الاستفهام والأمر، يلي ذلك التكرار، وبعده الروابط الحجاجية، ودورها في تحقيق حجاجية خطابِ المناظراتِ الخيالية، ثمَّ المبحثِ الثالث: (حجاجية البديع ودورهُ في التأثيرِ والإقناعِ)، ودُرست فيه بعض أساليب البديع التي كان لها أثرُها الواضح في عملية التأثير والإقناع، وهي الطباق، والجناس، والسجع.
فيما احتوى الفصل الثالث: المعنون بـ(مقاصدِ الحجاج في المناظرات الخيالية)، على مبحثين: المبحث الأول: (المقاصدُ الأدبية والفكرية)، وفيه تم الحديثُ عن بعضِ المقاصدِ الأدبية والمتمثلة في إظهار ثقافة الأديب، وإظهار براعته الأدبية، يلي ذلك الحديث عن المقاصد الفكرية، ثم المبحثِ الثاني: (المقاصد الاجتماعية والتعليمية)، وفيه كان الحديث عن بعضِ المقاصد الاجتماعيةِ التي تمثلت في التمايز الطبقي، والفكاهة، وتصويرِ المفاسد ووصف الحال والشكوى، يلي ذلك المقاصد السياسية، ثم المقاصد التعليمية، التي تمثلت في التيسير، والتدريبِ على الحوار وتنمية المهاراتِ التفكيرية النقدية، وتهذيب الأخلاق والقيم.
وتوصلَ الباحث إلى نتائجَ عدةٍ أهمَها: تظهرُ حجاجيةُ المناظراتِ الخيالية عن طريق فنِ الإقناع، واتسامِها بطابع البرهنة والتدليل، واتساع ِآفاقها الاستدلالية، فالوظيفةُ الأساسيةُ للمناظرات الخيالية حجاجيةٌ في المقام الأول، وهي من أكثرِ النصوص الحواريةِ استعمالًا للحجاج؛ بل إنها ترتبط به ارتباطًا وثيقًا، فاسمُ المناظرةِ يحمل معنى الحجاج، فهي نصٌ حجاجيٌ من بدايتها إلى نهايتها.
لعبت المقدماتُ الحجاجيةُ دورًا كبيرًا في الإقناع؛ إذ مثَّلت القياسَ الذي يوصلُ المتلقيَ إلى النتائج، كما قامت في كثيرٍ من المناظرات مقامَ الحجةِ والدليلِ والبرهانِ، وتمَّ استعمالُ القيمِ؛ لما لها من دورٍ فاعلٍ في التأثير والإقناع، وانطلاقِها من الواقع الاجتماعي، الذي يشتركُ الناسُ فيه سلبًا وإيجابًا.
كَثرةُ الاستعانةِ بالحججِ الجاهزةِ التي يَغلِبُ عليها التسليمُ والمصادقةُ من الجمهور، ففي المبحثِ الأولِ من الفصلِ الأولِ كَثُرَ استعمالُ الحُججِ التي تستدعي القيمَ والمواضعَ، وفي المبحثِ الثاني كَثُرَ استعمالُ حجةِ السلطةِ، والشاهدِ، والمثلِ؛ وذلك لما تتمتعُ به هذه الحججُ من سلطةٍ قويةٍ في أوساطِ المجتمعِ العربي، الذي يؤمنُ بها بصفتها قوانينَ يحتكمُ إليها الجميعُ، فمنها ما هو مقدسٌ ككلامِ الله تعالى، والحديثِ النبوي الشريف، ومنها ما يحظى بالقبول والتسليم، نظرًا لِكَثْرَة تداولِها، وسلطةِ أصحابِها، كالمثل، وكلامِ الحكماء، وأقوالِ الشعراء.
استعمالُ الحججِ المنطقيةِ في المناظراتِ الخياليةِ جاء متفاوتًا من حيثُ الكثرةِ والقلةِ، إذ تَكثُرُ في مكان، وتقل في مكان آخر، كما تختلفُ من مناظرةٍ لأخرى بحسب عمقِ التفكيرِ المنطقي لكاتبِها، وهذا ما جعلَ الاستدلالاتُ بهذه الحججِ تظهرُ متباينةً في القوةِ والضعف، بالإضافة إلى الميولِ المعرفي للكاتبِ في المناظرةِ نفسِها، فكلما كان ميلُهُ لأحدِ المتناظرين دون الآخرِ نجدُ الاستدلالَ أقوى، وإذا ظهر مساويًا بين الطرفين يضعفُ استدلالُهُ المنطقي.