رد الاعتبار لمحاكم العدالة الناجزة في عهد نميري: ليس ينجح كل من أراد استغلال الدين
تاريخ النشر: 17th, May 2024 GMT
رد الاعتبار لمحاكم العدالة الناجزة في عهد نميري: ليس ينجح كل من أراد استغلال الدين
د. عبد الله علي إبراهيم
أردت بمبحثي في رد الاعتبار بحثياً لمحاكم نميري للعدالة الناجزة (1983-1985) نقض ما يعرف بـ”الأداتية” (instrumentalism) في دراسات الدين والسياسة. والأداتية هي بالتحديد قولنا ب”استغلال الدين” أي جعله أداة لغايته أو مخلباً.
وسنرى بمنهجنا الموصوف أن لتخليب الدين نفسه ديناميكية سياسية اجتماعية لا يقع بدون مواتتاها لمن أراد توظيفه لغايته السياسة. فلا يوفق كل ساع لتخليب الدين ما لم تتهيأ تقوى مثل الغضبة للعدالة التي اشتدت وتائرها في نهاية عهد نميري، موضوع بحثنا، لتديين الدولة. وواتت تلك الأشراط النميري في ثنائية القضائية السودانية ونزاعات قسمها المدني الغالب على القسم الشرعي المستضعف، وسياسات الرئاسة السودانية التي استثمرت هذا الشرخ فيها.
وسننظر إلى نزاعات هذا الشرخ القانوني وفق مفهوم “الثنائية المانوية” الذي أذاعه فرانز فانون، المارتنيكي الثوري، نسبة إلى “ماني” اللاهوتي الفارسي القديم، الذي اعتقد أن العالم يَطَّرد نتيجة دراما صراع أزلي بين الخير والشر. وهذه الثنائية عند فانون هي ما وصم جغرافيا البلد المستعمَر فأنقسم إلى فضاء استعماري أوربي، له المعيارية، وآخر أهلي مباءة للانحراف عن المعيار (فانون 1968). فتواجه الفضاءان خلال الاستعمار وما بعده بصورة إقصائية استحال معها توحيد القضائية التي كان بوسعها التعاطي المهني مع غضبة العامة للعدالة.
ستعرض الورقة لخصومة القسمين بالقضائية كحالة من الثنائية المانوية الاستعمارية أغرت بالقضائية المستقلة فتعاورتها السياسات الوطنية. فقد أراد قضاة الشريعة بالاستقلال المساواة بالقضاة المدنيين ورد الاعتبار لقانونهم، الذي هو شريعة غالبية السودانيين، ولهم كقضاة مستحقرين. فأحكام المانوية الاستعمارية صورتهم ك “الآخر المتخلف ” بالنسبة للقسم المدني طوال عهد الإنجليز (1898-1956) (سلمان 1977، فلوهر لوبان 1987). فأُخضعوا للقضاء المدني، وجردوهم من أدوات الشوكة كلها حتى مُنع أفراد القوات النظامية من تحيتهم كما يفعلون للقضاة المدنيين. وسنرى هوانهم على الناس لما أبعدوا عن الاختصاصات القانونية التي تحكم مسالك السياسات العليا وإدارة الاعمال واختصوا بالأحوال الشخصية للمسلمين. فصاروا في نظر الذكور “قضاة عوين-نساء” أو “أنكحة وميراث” في قول المحدثين (خالد 1974).
وسنفحص كيف أن سياسات الرئاسة بعد الاستقلال في عام 1956 سعت للاستفادة من خصومة القضائية المانوية ومواردها التاريخية والسياسة والثقافية. سنرى كيف سبق إسماعيل الأزهري خلال رئاسته لمجلس السيادة (1965-1969) النميري إلى تبني الشريعة قانوناً للبلاد في تحالف مع قضاة الشرع. فنزع عنهم سلطان القسم المدني في 1967 وساواهم برصفائهم فيه لأول مرة. وأقدم الأزهري على ذلك في سياق غضبة شعبية على القضائية وقانونها الإنجليزي الذي لم تجد في مواده ما يحاكم انحرافات خلقية استفزت جمهرة المسلمين. بل كان شرّع لبعضها مثل البغاء. وكان الأزهري بحاجة لذلك الحلف بما لا يقل عن حاجة القسم الشرعي له. فقد ساءه وقوف القسم المدني، حارس القانون ” الاستعماري ” والدستور “العلماني” ضده في وجه كل خطوة كان يقوم بها نحو تركيز سلطته كرئيس بزعمه لمجلس السيادة. وكَبُر عنده زجر القسم المدني له لحله الحزب الشيوعي منافسه في المدن. وكان تلك باكورة مسعى سياسات الرئاسة لاستغلال شرخ القضائية للكسب.
وسنرى كيف عاد قانون القضائية الاستعماري وأداؤها إلى طاولة النقاش في آواخر عهد النميري في سياق اقتصاد الباطل المار ذكره. فترافق تفاقم الجريمة في ذلك الاقتصاد مع عجز بين للدولة عن الصرف المناسب لاستتباب العدل. وحفلت “سوداناو”، المجلة الشهرية الحكومية الناطقة بالإنجليزية، (1979) بتحقيقات غاية في النضج عن بؤس أداء القضائية في وقت إفلاس كبير للحكومة. فبقي مثلاً في القضائية 538 قاضياً في 1980 مثلوا 69% من حاجتها (728 قاضياً). وترتب على انكماش القضائية الموصوف تثاقل في النظر في القضايا والبت فيها. ففي 1979 نظرت المحاكم في 42 ألف قضية من جملة 89 ألف. وأقلق ذلك التلكؤ الناس وأضجرهم فاشتبهوا أنهم ربما لم يلقوا العدل لعطب في أمانة القضاة أنفسهم. وروجت تلك الشبهة للمحاماة لا من جهة مهنيتها بل لأن المحامين يعرفون التعاطي الماكر مع زملائهم القضاة ممن جمعتهم الجامعات طلاباً وأمسيات الأنس التي اشتهرت بها طبقة الأفندية.
واصطدم النميري والقضاة المدنيون في تلك الملابسات صداماً تمثل كما رأينا في مفهومين. كان النميري يصطحب في تعجيله بالعدالة مفهوماً إسلامياً للعقوبة هو السن بالسن الذي لقي صدى بين جمهرة المسلمين المكتوية بالجريمة. وعليه كانت الجمهرة أصيلة في الصراع من أجل قضائية أخرى على حد الشريعة كما سنرى من خلال رسائلها للصحف وتأليبها للدولة لإغلاق البارات أو دور البغاء. ولن تجد صدى لهذا الهاجس العدلي للمسلمين في الكتابات عن تجربة النميري في العدالة الناجزة (منصور 1986). خلافاً لذلك تجد الصفوة استأثرت بدراماها التي تمثلت في صراع الأفيال: النميري والقضائية. وبدا في كتابات الصفوة العلمانية أن القضاة على حق الحداثة والنميري على باطل التقليد برغم أن الحقيقة أعقد وأغور.
ومتى استتبت لنا صورة غضبة العامة للعدالة وجذورها في المجتمع شرعنا في وصف أدوار الصراع بين النميري والقضائية من جهة دواعيه ومساره وخواتمه. وسنركز بوجه خاص على مكر النميري الذي استصحب غضبة الناس للعدل بأفضل مما فعل القضاة وسوَّقها لصالح نظامه الذي كان يلفظ أنفاسه بعد استنفاده للحلفاء من جهات السياسة كلها. واستفحلت من الجهة الأخرى مطالب المهنيين بتحسين الأجور ورم بيئة الخدمات العدلية التي تليهم للجمهور. وكان القضاة على رأس من خرجوا في عمل نقابي للضغط على النظام بتلك المطالب.
وسنفحص في الورقة الطرق العديدة التي لجأ إليها النميري لملامسة غضبة الناس للعدالة في سياق إفحام خصومه في القضائية والمجتمع. فاستعان ب “القضائية الثانية” وهي المحاكم العسكرية لتعجيل البت في القضايا. ثم عدَّل الدستور في 1975 ليعطي تلك المحاكم صلاحية النظر في قضايا الأسعار المؤرقة للناس. وأصدر في 1982 قانون الطمأنينة الذي خلق شبه “جماعات الأمر بالمعروف”. ثم أعلن حكم الشريعة ومحاكمها الناجزة.
ولم يكن بوسع القضاة ملاقاة تلك الغضبة إلا عن طريق إصلاح القضائية القائمة بما اقتضاه ذلك من كفالة استقلالها والصرف على ديوانها وتحسين شروط خدمة قضاتها. ومن وجوه تسييس القضائية البغيض للقضاة كان دمجها في حزب الحكومة بتمثيل لائحي لها في مكاتبه القيادية المختلفة. واشتم الناس رائحة “النقابية” في مطالب القضائية فلم تحرك فيهم ساكناً مثل ما فعل النميري الذي مناهم الأماني في العدل الذي اشرأبوا له. وسنصف دراما صراع النميري والقضائية في إضرابات القضاة التي جرت في 1980 و1981 التي ختلهم بعدها النميري بإعلان الشريعة قانوناً للبلاد وأحل محاكمه الناجزة محل القضائية “الاستعمارية” القديمة. وعرض على الجمهور في بيانه في المناسبة وتائر وقوع جرائم “اقتصاد الباطل” في المال والجسد وفشوها بالدقيقة والساعة واليوم. وأوحى لمحاكمه أن تنشر على الجمهور إنجازها يوماً بيوم في محو القضايا المتراكمة عن القضائية القديمة. وكانت أحكامها بالجلد والقطع والقطع من خلاف والتغريب تذاع يومياً عند الثامنة مساء على جمهور عطش للعدل بغض النظر.
أهمية البحث في ظرفنايأذن لنا تنزيلنا عدالة النميري الناجزة إلى محاضنها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بنظر يتجاوز فنطازيا الصفوة لها: نطاح التقليد والحداثة. فغفلة تلك الصفوة، المحصنة في ثنائياتها المستوهمة، عن تلك المحاضن صور لها أن الأمر إما أمر دين أو تقدم. ولم يطرأ لها أن الواقع أخضر من ذلك بكثير. فبالوسع النظر إلى فرار العامة لدينها، العمدة في علم سياستها، كتقوى التي هي حساسية للدين كحاكم وليس كحكومة. ولم يكن عسيراً إنفاذ العدل بإصلاح القضائية القائمة إصلاحاً حالت دونه ثنائيتها المتباغضة. فبقي الشرخ وتراخى العدل. وكانت تلك سانحة اهتبلها ديكتاتور شعبوي ماكر. وربما انتفعنا في حروب الربيع العربي الثقافية بهدنة فكرية ترد نجوى مطلب العدل الحقوقي والاجتماعي وتقواه إلى محاضنه الاقتصادية الاجتماعية قبل الخندقة والإسراف.
IbrahimA@missouri.edu
لرد الاعتبار لمحاكم نميري للعدالة الناجزة: بيتر نيوت كوك وإشكالية التشريع في السودان
الوسومالاستعمار الدين السودان العدالة الناجزة د. عبد الله علي إبراهيم قانون القضائية نميريالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الاستعمار الدين السودان العدالة الناجزة د عبد الله علي إبراهيم قانون القضائية نميري العدالة الناجزة رد الاعتبار
إقرأ أيضاً:
عاجل | سكان مدينة 15 مايو يناشدون رئيس الوزراء التدخل لحل أزمة المياه
وجه عدد من سكان مدينة 15 مايو استغاثة عاجلة إلى الدكتور مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء، للتدخل الفوري في أزمة انقطاع المياه عن مطابخ الوحدات السكنية بالمجاورة الأولى. وأفاد السكان بأن جهاز تنمية المدينة أقدم على قطع مواسير المياه القديمة التي ظلت تعمل بكفاءة لأكثر من 40 عامًا، بهدف إجبار السكان على تركيب عدادات كودية دون إشعار مسبق أو منحهم مهلة كافية لتوفيق أوضاعهم.
مطالبات بوقف الإجراءات المفاجئة
أكد السكان أن هذه الخطوة جاءت بشكل مفاجئ، حيث لم يتم إبلاغهم بأي تفاصيل مسبقة عن المشروع أو عقد حوار يوضح أسبابه وجدواه. وأشاروا إلى أن قطع المياه عن المطابخ بالكامل دفعهم لتحمل أعباء مالية جديدة، تشمل تكلفة تركيب وصلات داخلية لنقل المياه من الحمام إلى المطبخ، بالإضافة إلى التكلفة المرتفعة للعدادات الكودية التي تصل إلى 6000 جنيه.
وأوضح المتضررون أن جميعهم ملتزمون بدفع رسوم المياه بنظام الممارسة وفقًا لعقود موقعة مع شركة مياه القاهرة، حيث يتم تحصيل مبالغ شهرية تصل إلى 80 جنيهًا لكل وحدة. واعتبر السكان أن ما قام به الجهاز يمثل مخالفة صريحة للعقود القائمة، محملين الجهاز مسئولية الأعباء الإضافية التي لم تكن في الحسبان.
أشار السكان إلى أن تنفيذ المشروع دون مراعاة الأوضاع الاقتصادية الراهنة أو تقديم بدائل مناسبة يزيد من معاناتهم، خاصة أن غالبية سكان المنطقة من محدودي الدخل. كما أعربوا عن استيائهم من استغلال عمال الشركة المنفذة للمشروع، الذين يفرضون رسومًا باهظة على الأعمال الداخلية، مما يجعل السكان فريسة لعمليات استغلال غير مبررة.
طالب السكان في رسالتهم رئيس مجلس الوزراء بتشكيل لجنة هندسية مستقلة لمراجعة المشروع وتقييم تأثيره على تدفق المياه، خاصة للأدوار العليا، كما دعوا إلى إعادة النظر في جدوى تنفيذ المشروع في الوقت الحالي، مؤكدين أن الأولوية يجب أن تكون لتحسين الخدمات دون تحميل المواطن أعباء إضافية.
واختتم السكان مناشدتهم بضرورة اتخاذ قرارات سريعة لإنهاء الأزمة، بما يضمن حقوقهم الأساسية في الحصول على المياه دون معوقات، مع تقديم حلول تتناسب مع ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية.