رد الاعتبار لمحاكم العدالة الناجزة في عهد نميري: ليس ينجح كل من أراد استغلال الدين

د. عبد الله علي إبراهيم

أردت بمبحثي في رد الاعتبار بحثياً لمحاكم نميري للعدالة الناجزة (1983-1985) نقض ما يعرف بـ”الأداتية” (instrumentalism) في دراسات الدين والسياسة. والأداتية هي بالتحديد قولنا ب”استغلال الدين” أي جعله أداة لغايته أو مخلباً.

وكانت هذه الأداتية هي كل نصيبنا من معرفة ديناميكية تلك المحاكم. فهي ليست من الدين لأنها مما استغله نميري لتمكين حكمه. ومتى سقط حكمه سقطت محاكمه لا من سدة القضائية، بل من سدة البحث نفسه ولا يستعاد ذكرها إلا باللعنات. وهذا غلو وحكم بإعدام ظاهرة سياسية واجتماعية ليس لأحد الترخيص بإصداره.

وسنرى بمنهجنا الموصوف أن لتخليب الدين نفسه ديناميكية سياسية اجتماعية لا يقع بدون مواتتاها لمن أراد توظيفه لغايته السياسة. فلا يوفق كل ساع لتخليب الدين ما لم تتهيأ تقوى مثل الغضبة للعدالة التي اشتدت وتائرها في نهاية عهد نميري، موضوع بحثنا، لتديين الدولة. وواتت تلك الأشراط النميري في ثنائية القضائية السودانية ونزاعات قسمها المدني الغالب على القسم الشرعي المستضعف، وسياسات الرئاسة السودانية التي استثمرت هذا الشرخ فيها.

وسننظر إلى نزاعات هذا الشرخ القانوني وفق مفهوم “الثنائية المانوية” الذي أذاعه فرانز فانون، المارتنيكي الثوري، نسبة إلى “ماني” اللاهوتي الفارسي القديم، الذي اعتقد أن العالم يَطَّرد نتيجة دراما صراع أزلي بين الخير والشر. وهذه الثنائية عند فانون هي ما وصم جغرافيا البلد المستعمَر فأنقسم إلى فضاء استعماري أوربي، له المعيارية، وآخر أهلي مباءة للانحراف عن المعيار (فانون 1968). فتواجه الفضاءان خلال الاستعمار وما بعده بصورة إقصائية استحال معها توحيد القضائية التي كان بوسعها التعاطي المهني مع غضبة العامة للعدالة.

ستعرض الورقة لخصومة القسمين بالقضائية كحالة من الثنائية المانوية الاستعمارية أغرت بالقضائية المستقلة فتعاورتها السياسات الوطنية. فقد أراد قضاة الشريعة بالاستقلال المساواة بالقضاة المدنيين ورد الاعتبار لقانونهم، الذي هو شريعة غالبية السودانيين، ولهم كقضاة مستحقرين. فأحكام المانوية الاستعمارية صورتهم ك “الآخر المتخلف ” بالنسبة للقسم المدني طوال عهد الإنجليز (1898-1956) (سلمان 1977، فلوهر لوبان 1987). فأُخضعوا للقضاء المدني، وجردوهم من أدوات الشوكة كلها حتى مُنع أفراد القوات النظامية من تحيتهم كما يفعلون للقضاة المدنيين. وسنرى هوانهم على الناس لما أبعدوا عن الاختصاصات القانونية التي تحكم مسالك السياسات العليا وإدارة الاعمال واختصوا بالأحوال الشخصية للمسلمين. فصاروا في نظر الذكور “قضاة عوين-نساء” أو “أنكحة وميراث” في قول المحدثين (خالد 1974).

وسنفحص كيف أن سياسات الرئاسة بعد الاستقلال في عام 1956 سعت للاستفادة من خصومة القضائية المانوية ومواردها التاريخية والسياسة والثقافية. سنرى كيف سبق إسماعيل الأزهري خلال رئاسته لمجلس السيادة (1965-1969) النميري إلى تبني الشريعة قانوناً للبلاد في تحالف مع قضاة الشرع. فنزع عنهم سلطان القسم المدني في 1967 وساواهم برصفائهم فيه لأول مرة. وأقدم الأزهري على ذلك في سياق غضبة شعبية على القضائية وقانونها الإنجليزي الذي لم تجد في مواده ما يحاكم انحرافات خلقية استفزت جمهرة المسلمين. بل كان شرّع لبعضها مثل البغاء. وكان الأزهري بحاجة لذلك الحلف بما لا يقل عن حاجة القسم الشرعي له. فقد ساءه وقوف القسم المدني، حارس القانون ” الاستعماري ” والدستور “العلماني” ضده في وجه كل خطوة كان يقوم بها نحو تركيز سلطته كرئيس بزعمه لمجلس السيادة. وكَبُر عنده زجر القسم المدني له لحله الحزب الشيوعي منافسه في المدن. وكان تلك باكورة مسعى سياسات الرئاسة لاستغلال شرخ القضائية للكسب.

وسنرى كيف عاد قانون القضائية الاستعماري وأداؤها إلى طاولة النقاش في آواخر عهد النميري في سياق اقتصاد الباطل المار ذكره. فترافق تفاقم الجريمة في ذلك الاقتصاد مع عجز بين للدولة عن الصرف المناسب لاستتباب العدل. وحفلت “سوداناو”، المجلة الشهرية الحكومية الناطقة بالإنجليزية، (1979) بتحقيقات غاية في النضج عن بؤس أداء القضائية في وقت إفلاس كبير للحكومة. فبقي مثلاً في القضائية 538 قاضياً في 1980 مثلوا 69% من حاجتها (728 قاضياً). وترتب على انكماش القضائية الموصوف تثاقل في النظر في القضايا والبت فيها. ففي 1979 نظرت المحاكم في 42 ألف قضية من جملة 89 ألف. وأقلق ذلك التلكؤ الناس وأضجرهم فاشتبهوا أنهم ربما لم يلقوا العدل لعطب في أمانة القضاة أنفسهم. وروجت تلك الشبهة للمحاماة لا من جهة مهنيتها بل لأن المحامين يعرفون التعاطي الماكر مع زملائهم القضاة ممن جمعتهم الجامعات طلاباً وأمسيات الأنس التي اشتهرت بها طبقة الأفندية.

واصطدم النميري والقضاة المدنيون في تلك الملابسات صداماً تمثل كما رأينا في مفهومين. كان النميري يصطحب في تعجيله بالعدالة مفهوماً إسلامياً للعقوبة هو السن بالسن الذي لقي صدى بين جمهرة المسلمين المكتوية بالجريمة. وعليه كانت الجمهرة أصيلة في الصراع من أجل قضائية أخرى على حد الشريعة كما سنرى من خلال رسائلها للصحف وتأليبها للدولة لإغلاق البارات أو دور البغاء. ولن تجد صدى لهذا الهاجس العدلي للمسلمين في الكتابات عن تجربة النميري في العدالة الناجزة (منصور 1986). خلافاً لذلك تجد الصفوة استأثرت بدراماها التي تمثلت في صراع الأفيال: النميري والقضائية. وبدا في كتابات الصفوة العلمانية أن القضاة على حق الحداثة والنميري على باطل التقليد برغم أن الحقيقة أعقد وأغور.

ومتى استتبت لنا صورة غضبة العامة للعدالة وجذورها في المجتمع شرعنا في وصف أدوار الصراع بين النميري والقضائية من جهة دواعيه ومساره وخواتمه. وسنركز بوجه خاص على مكر النميري الذي استصحب غضبة الناس للعدل بأفضل مما فعل القضاة وسوَّقها لصالح نظامه الذي كان يلفظ أنفاسه بعد استنفاده للحلفاء من جهات السياسة كلها. واستفحلت من الجهة الأخرى مطالب المهنيين بتحسين الأجور ورم بيئة الخدمات العدلية التي تليهم للجمهور. وكان القضاة على رأس من خرجوا في عمل نقابي للضغط على النظام بتلك المطالب.

وسنفحص في الورقة الطرق العديدة التي لجأ إليها النميري لملامسة غضبة الناس للعدالة في سياق إفحام خصومه في القضائية والمجتمع. فاستعان ب “القضائية الثانية” وهي المحاكم العسكرية لتعجيل البت في القضايا. ثم عدَّل الدستور في 1975 ليعطي تلك المحاكم صلاحية النظر في قضايا الأسعار المؤرقة للناس. وأصدر في 1982 قانون الطمأنينة الذي خلق شبه “جماعات الأمر بالمعروف”. ثم أعلن حكم الشريعة ومحاكمها الناجزة.

ولم يكن بوسع القضاة ملاقاة تلك الغضبة إلا عن طريق إصلاح القضائية القائمة بما اقتضاه ذلك من كفالة استقلالها والصرف على ديوانها وتحسين شروط خدمة قضاتها. ومن وجوه تسييس القضائية البغيض للقضاة كان دمجها في حزب الحكومة بتمثيل لائحي لها في مكاتبه القيادية المختلفة. واشتم الناس رائحة “النقابية” في مطالب القضائية فلم تحرك فيهم ساكناً مثل ما فعل النميري الذي مناهم الأماني في العدل الذي اشرأبوا له. وسنصف دراما صراع النميري والقضائية في إضرابات القضاة التي جرت في 1980 و1981 التي ختلهم بعدها النميري بإعلان الشريعة قانوناً للبلاد وأحل محاكمه الناجزة محل القضائية “الاستعمارية” القديمة. وعرض على الجمهور في بيانه في المناسبة وتائر وقوع جرائم “اقتصاد الباطل” في المال والجسد وفشوها بالدقيقة والساعة واليوم. وأوحى لمحاكمه أن تنشر على الجمهور إنجازها يوماً بيوم في محو القضايا المتراكمة عن القضائية القديمة. وكانت أحكامها بالجلد والقطع والقطع من خلاف والتغريب تذاع يومياً عند الثامنة مساء على جمهور عطش للعدل بغض النظر.

أهمية البحث في ظرفنا

يأذن لنا تنزيلنا عدالة النميري الناجزة إلى محاضنها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بنظر يتجاوز فنطازيا الصفوة لها: نطاح التقليد والحداثة. فغفلة تلك الصفوة، المحصنة في ثنائياتها المستوهمة، عن تلك المحاضن صور لها أن الأمر إما أمر دين أو تقدم. ولم يطرأ لها أن الواقع أخضر من ذلك بكثير. فبالوسع النظر إلى فرار العامة لدينها، العمدة في علم سياستها، كتقوى التي هي حساسية للدين كحاكم وليس كحكومة. ولم يكن عسيراً إنفاذ العدل بإصلاح القضائية القائمة إصلاحاً حالت دونه ثنائيتها المتباغضة. فبقي الشرخ وتراخى العدل. وكانت تلك سانحة اهتبلها ديكتاتور شعبوي ماكر. وربما انتفعنا في حروب الربيع العربي الثقافية بهدنة فكرية ترد نجوى مطلب العدل الحقوقي والاجتماعي وتقواه إلى محاضنه الاقتصادية الاجتماعية قبل الخندقة والإسراف.

IbrahimA@missouri.edu

لرد الاعتبار لمحاكم نميري للعدالة الناجزة: بيتر نيوت كوك وإشكالية التشريع في السودان

الوسومالاستعمار الدين السودان العدالة الناجزة د. عبد الله علي إبراهيم قانون القضائية نميري

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الاستعمار الدين السودان العدالة الناجزة د عبد الله علي إبراهيم قانون القضائية نميري العدالة الناجزة رد الاعتبار

إقرأ أيضاً:

قائد عسكري إسرائيلي: الضغط العسكري لم ولن ينجح في إعادة الأسرى من غزة

#سواليف

دعا اللواء (احتياط) في #جيش_الاحتلال #نوعام_تيبون، القائد السابق لفرقة يهودا والسامرة (الضفة الغربية) والفيلق الشمالي، إلى العودة إلى اتفاق وقف إطلاق و #تبادل_الأسرى مع حركة ” #حماس “.

وقال تيبون في مقابلة مع إذاعة /اف ام 103/ العبرية اليوم الأحد: لقد أخبرونا لمدة عام ونصف أن الضغط العسكري فقط هو الذي سيحرر #الرهائن (الأسرى) – وهذا لا يعمل”.

وأشار أيضاً إلى تصريح رئيس وزراء الاحتلال بنيامين #نتنياهو بأن الجيش الإسرائيلي بدأ بشق طريق جديد بين رفح وخان يونس يصل إلى شاطئ البحر، وهو “محور موراج”.

مقالات ذات صلة ارتفاع  تركيز الغبار في الأجواء وسحب رعدية ترصدها صور الأقمار جنوب فلسطين والبحر الميت 2025/04/06

وشدد على أنه من المهم التأكيد على أن المهمة النهائية هي إعادة جميع الأسرى، لكن ولمدة عام ونصف، أخبرونا أن الضغط العسكري وحده كفيل بإعادة الأسرى. في هذه الأثناء، قُتل 41 أسيرا بقصف الجيش الإسرائيلي، وفي النهاية، ما أعادهم هو صفقة.

وتابع قائلا: أذكركم جميعا بأن هذه الصفقة كانت لها أيضا مرحلة ثانية، قرر نتنياهو، لأسباب سياسية، واعتبارات ائتلافية، واعتبارات تتعلق بالميزانية، عدم تنفيذها. ورأينا أيضاً في المرحلة الأولى من الصفقة أن حماس، أطلقت في النهاية سراح الأسرى.

إذا كنت تريد إرجاع الأسرى، فهذا هو الطريق وهذا هو المكان الذي يجب أن تسعى إليه. “هذه التصريحات حول الضغط العسكري، وأنه سيعيد الأسرى، رأينا بالفعل أنها لا تجدي نفعاً”.

وفيما يتعلق بتصريح نتنياهو بشأن محور “موراج”، قال: “من المهم التأكيد على أنه عندما قال ذلك، عرّض جنود الجيش الإسرائيلي للخطر. وكان من المفترض أن تكون هذه عملية سرية”. قال هذا لأنه أراد أن يضفي طابعا جديدا على الأمر، ويريد أن يصرف انتباه وسائل الإعلام عن القضايا التي تزعجه. هذه المحاور عرضية تعبر الشريط. لا يوجد أي منهم ضروري. إنها عادة ما تأتي بين تجمعات سكانية كبيرة. لا يستحق أي محور من هذا القبيل، لا فيلادلفيا ولا نتساريم ولا محور موراج الجديد، حتى حياة رهينة واحدة. يجب إعادتهم وهناك طريقة لاستعادتهم. نحن بحاجة إلى العودة إلى الصفقة، وإبرام صفقة”.

وفي الـ18 من الشهر الماضي، تنصلت قوات الاحتلال من اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى الساري منذ 19 كانون الثاني/يناير الماضي، واستأنفت حرب الإبادة الجماعية على القطاع المدمر.

وبدعم أميركي مطلق ترتكب قوات الاحتلال منذ الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر 2023 إبادة جماعية في القطاع الفلسطيني المحاصر، خلفت أكثر من 165 ألف شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود.

مقالات مشابهة

  • نقاط التحول
  • محاكم دبي والمعهد القضائي يتعاونان لتحقيق العدالة الناجزة
  • بولسونارو يتهم القضاة بمحاولة قتله ويجمع أنصاره في ساو باولو
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • قائد عسكري إسرائيلي: الضغط العسكري لم ولن ينجح في إعادة الأسرى من غزة
  • علي جمعة: الطاعة أن تعبد الله كما يريد بعيدا عن العقل والهوى
  • «ملف الذاكرة».. هل ينجح في تحريك المياه الراكدة بين فرنسا والجزائر؟
  • عبدالله فلاته: النصر لعب كما أراد.. والهلال بات كتابًا مفتوحًا.. فيديو
  • ‏⁧‫رسالة‬⁩ من نوع آخر إلى ( ⁧‫صدر الدين الگبنچي‬⁩) الذي يريد يقاتل أمريكا من العراق دفاعا عن ايران !
  • إصابة 5 اشخاص يعملون بمكتب احد النواب في الانبار