أن يلتفت المسلم إلى نفسه ويراقبها ويسعى إلى تزكيتها لهو مطلب ملح وضروري في العصر الذي تموج فيه الفتن، ويتقارب فيه الزمان، وتكثر فيه ملهيات الحياة، وكثرة المشاغل والتسارع العجيب الذي مكن البشر من أن يصبح يومهم ممتلئًا، ويغلب عليه طابع السرعة لما أتاحته أدوات الاتصال والمواصلات من رتم سريع كيّف الناس عليه قوالب حياتهم، وأصبح من الصعوبة على الإنسان القدرة على إحصاء الأعمال التي عملها في اليوم والليلة، بسبب الغفلة وبسبب كثرة تلك الأعمال، وقد كان الصالحون في السابق، يحصون أعمالهم كلها قبل أن يخلدوا إلى النوم، فيحاسبون أنفسهم فيما عملوه وما لم يعملوه، تقربا إلى الله بذلك، والتفاتا إلى الحكمة الأولى والمهمة الأسمى التي وضعها الله لنا في هذه الأرض، وهي العبادة، ومن تلك العبادة قدرة الإنسان أن يكون عليه رقيب من نفسه، ومن الحكم المأثورة عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، فإن أهون عليكم في الحساب غدا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم".
والغفلة فخ عظيم من فخاخ الشيطان التي تقع فيه النفس البشرية، فالإنسان الذي يعتاد المعاصي ولا يطرق باب التوبة بعد كل إثم يقترفه، فيقسو قلبه وتفسد فطرته، ويغلف قلبه الران، فلا تؤثر فيه الآيات ولا المواعظ ولا المواقف ولا الأحداث، فهي تصطدم بالقسوة التي غلفت القلب فأصبح قلبا أسودا لا يدخله النور، فيصبح القلب أشبه بقلوب بني إسرائيل الذين رفضوا دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا بأن قلوبهم غلف، وهي دعوى باطلة فالله لعنهم وطردهم من رحمته بعد أن أصابهم الران، وأصبح إيمانهم قليلا لا ينتفعون به، فحكى عنهم الله عز وجل في سورة البقرة بقوله: "وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلا مَا يُؤْمِنُونَ"، ولو أن الإنسان جلس مع نفسه لمحاسبتها وما قامت به في اليوم والليلة من أعمال لكان أبعد عن الغفلة، لأنه سيبصر أخطاءه وخطاياه ويسعى إلى إصلاحها، وينظر إلى أعماله الصالحة ويسأل من الله قبولها ويسعى إلى إكثارها وتنميتها، لكان إلى الله أقرب، والذنوب جراحات القلب، فإذا لم يعالجها الإنسان بالتوبة وبالذكر أصبحت ندبا كبيرة قد تمتلئ بالصديد، وقد تكون جراحات مهلكة.
وكل معصية هي تشويه للفطرة السليمة، وكلما كانت هذه المعصية كبيرة من كبائر الذنوب كلما كان أثرها وتشويهها في قلب الإنسان أكثر، ولو تأملنا كبائر الذنوب كالشرك والقتل والزنى وشرب الخمر، والعقوق وغيرها من الكبائر لوجدنا أنها تتنافى مع الفطرة السلمية التي فطر الله الناس بها، ويتخلف أثر في قلب الذي يرتكبها قد لا تمحى آثاره.
وشؤم المعصية يلقي بظلاله على حياة الإنسان، فتجده وإن هيئ الله له أسباب الحياة الهانئة وأدواتها إلا أنه لا ينعم بالراحة ولا يشعر بالطمأنينة، وذلك لأن جوهره مشوه ومشوش ألا وهو القلب، فيحول تلك الأدوات والوسائل إلى أدوات إمعان في قتل هذا القلب وابتكار حلول شيطانة تؤدي به إلى الهلاك.
ولأن الصالحين في السابق أحصوا أعمالهم فكانت حسناتهم هي الأغلب الأعم في أعمالهم، وكانت ذنوبهم نزرة يسيرة، إذا أصابهم بلاء من الله ليؤدبهم به ويمحص قلوبهم علموا أن هذا البلاء ناتج من ذنب يعلمونه فلذلك يعلمون الثغرة التي من خلالها أراد الله أن يؤدبهم عليها فلذلك قالوا علمنا من أين أتينا، وكانت الأشياء من حولهم تتأثر من شؤم المعصية، فكما يروي أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "صيد الخاطر" عن الفضيل بن عياض قوله "إني لأعصي الله فأرى ذلك في خُلُق دابتي وجاريتي" وما هي معاصي العابد الزاهد الفضيل بن عياض مقارنة بمعاصي الناس، فمعاصيهم هي أعمال مباحة عند العامة، ولكن كلما اقتربوا من الله وراقبوا الله في أعمالهم وأقوالهم، أصبحت المكروهات ذنوبا، وأصبحت المستحبات فروضا في نظرهم، فربما عد الفضيل بن عياض نومه عن قيام ليلة من الليالي معصية في حق خالقه، في حين أن الإنسان العادي لا يرى فيها إثما ولا حرجا ولا يعبأ بها أصلا، ولكن نحن في هذا العصر لكثرة ما اختلطت علينا أعمالنا، ولعدم مراقبتنا لأنفسنا أصبحنا لا ندري لم ولماذا يصيبنا ما يصيبنا. وكما أن للمعصية شؤم فإن للطاعة ثمرة، فإن الطاعة موصلة إلى رضى الله وحبه، فإذا رضي عنك بعد أن أطعته، وأحبك بعد أن تقربت إليه بالنوافل، فسوف يكون سمعك وبصرك ويدك ورجلك وإن سألته أعطاك وإن استعذت به أعاذك.
بل وإن حفظ الله يمتد إلى أن يمتعك بجوارحك ويحفظك بعين عنايته ورعايته فمما يرويه الحافظ ابن رجب في كتابه "الجامع المنتخب عن العالم أبو الطيب الطبري الذي قد جاوز المائة سنة وهو ممتَّع بعقله وقوته، فوثب يومًا من سفينة كان فيها إلى الأرض وثبة شديدة، فتعجب من كان بالسفينة من الشباب وقالوا له كيف فعلت ذلك يا شيخ؟ فقال: هذه جوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر، فحفظها الله علينا في الكبر. ولو لم يكن لك من الحفظ إلا أن يحفظ الله لك دينك واستقامتك ويختم لك بالخاتمة الطيبة أعمالك في هذه الحياة لكفاك هذا الحفظ.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مجدي أبوزيد يكتب.. رمضان فرصة الجميع لإصلاح النفس والتغيير
هل علينا شهر الصيام الذى يجمع اللحظات والليالي والأيام المعدودات التي ينتظرها المؤمنين ليتزودوا من خيرها وأجرها في الدنيا لتكون لهم مشعل يُنير طريقهم يوم القيامة بين جموع الخلق بالصبر والالتزام بأوامر الخالق سبحانه وتعالى.
ومن بين أسمى الغايات التي يجب أن يسعى المسلم لتحقيقها في هذا الشهر الكريم إصلاح النفس وتغيرها نحو الأفضل، فكل ما في رمضان يتغير، سلوك وعبادة وخلق، فهو يمضي بنا وتتغير فيه بعض أحوالنا، ونسعى جاهدين إلى تغيير أنفسنا.
شهر رمضان فرصة من أعظم فرص التغيير في كل المجالات لمن أراد التغيير، حيث الجو الملائم والتهيئة الربانية، والقرب من الله تعالى والمعينات في هذا الشهر كثيرة، فرمضان فرصة الجميع للتغيير.
شهر رمضان فرصة للتوبة والرجوع إلى الله تعالى: فالله - عز وجل- قد هيأ لعباده هذا الشهر للتوبة والرجوع، ولأجل هذا يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "خاب وخسر من أدرك رمضان ولم يغفر له".
شهر مضان فرصة لتفقد النفس ومحاسبتها وحثها على الخير، والتغيير يبدأ عند محاسبة النفس وتصحيح أخطائها، وهذا ما يجب أن تكون عليه، عادة مستمرة يترقى بها المسلم إلى أفضل درجات السمو والرفعة.
شهر رمضان فرصة للإقبال على الله والإكثار من العبادة : فالله - عز وجل- قد فضل شهر رمضان على سائر الشهور، وجعل أيامه من خير أيام العام، ولذلك يُعد فرصة عظيمة لمن أراد الإقبال على الله تعالى والاستزادة من العبادة.
شهر رمضان فرصة للتغيير الأخلاقي، فرمضان بطبيعته يغرس في المسلمين الأخلاق الحميدة، ويربي في الأفراد معنى الوحدة والترابط والتآخي والشعور بالآخرين.
ورمضان فرصة عظيمة لكظم الغيظ والعفو على الناس، لأنه يعود المسلم على الصبر والتحمل، فمن يستطع الصبر على الجوع والعطش، يستطيع أن يكظم غيظه ويصبر على أذى غيره
وأؤكد أن التغيير لا يحصل بالتمني، ولكن لابد أن يتحرك دافع التغيير الكامن في النفس من خلال الإرادة والعزيمة والعمل الجاد على التغيير، وتكون نتيجته هي الباقية حتى بعد رمضان، وهذا هو التغيير الحقيقي.