فى وصية «ربّانىّ الأمة» لتلميذه كميل بن زياد (قتل عام ٨٣ هجرية) حكمة بالغة، نحن أحوج ما نكون إليها فى زمن القيم الساقطة، زمن فقدنا فيه حكمة العقول وحكمة القلوب، وأخذنا بالحرف والعنوان دون الجوهر واللباب حتى خرج علينا الأفاكون من كل حدب وصوب، جعلوا من نقاء القلوب مجرّد أساطير خُرافية، فكانوا أساتذة فى أسطرة المعقول واللامعقول على السواء، كما جعلوا من حكمة العقول ظواهر برانيّة لا تلبث أمام أباطيلهم أن تتهافت، فلا منطق العقل مقبول لديهم ولا حكمة القلب، ناهيك عن بصيرة الذوق أو ذوق البصيرة، جعلوا أهدافهم حفنة من الأموال يُحصّلونها ليشبعوا شهواتهم وآفاتهم ومطامحهم التى تقام، فى زعمهم، على أنقاض الدين.
نحن أحوج ما نكون اليوم، وكل يوم، إلى تأمل وصية الإمام لتلميذه، لتعطى صورة صادقة وافية عن حقيقة الإمام من حيث نزوعه إلى الملأ الأعلى، ولتملأ النفس جلالاً وروعة، وليكون على الحقيقة هو أول فقيه للقلوب يمثل سلامتها من الدّغل والتعطيل.
يُقال، حسبما يروى المؤرخون، إنّ علياً أخذ بيد كميل بن زياد، وأخرجه إلى ناحية القبور، وتنفس نفساً طويلاً ثم تكلم عن القلوب، فقال: «يا كميل القلوب أوعية، فخيرها أوْعاها للعلم، أحفظ ما أقول لك: الناس ثلاثة: عالمٌ ربّانى. ومتعلمٌ على سبيل النجاة. وهمجٌ رعاعٌ أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق». ثم يمضى الإمام فى تفضيل العلم على المال، ويخبر تلميذه أن فى قلبه علماً يخشى أن يُلقنه للناس فلا يحسنون استخدامه، غير أنه لن يعدم حجج الله فى الأرض، إذْ لم تخلو الأرض مطلقاً من قائم لله بحجة، لكيلا تبطل حجج الله وبيناته، أولئك هم الأقلون عدداً - هكذا يقول الإمام - الأعظمون عند الله قدراً، بهم يحفظ الله حججه، حتى يؤدونها إلى نظرائهم ويزرعوها فى قلوب أشباههم. هجم بهم العلم على حقيقة الأمر، فاستلانوا ما استوعر منه المترَفون، وأنسوا بما استوحش عنه الجاهلون، صحبوا الدنيا بأبدانٍ أرواحها مُعلقة بالمنظر الأولى، أولئك خلفاء الله فى بلاده، ودعاته المخلصون إلى دينه، ثم يتنهد الإمام شوقاً إلى مشاهدة رؤيتهم.
حقاً.. إنّ الشبيه يدرك الشبيه كما كان يقول الفلاسفة قديماً؛ فالمُخلصون لله يدركون بعضهم بعضاً. وأصحاب المطامع والأهواء والمخازى أيضاً أشباه وأنداد يدركون أنفسهم ويعرفون أهدافهم ويجتمعون على الدَّنيّة. أولئك هم الهمج الرّعاع أتباع كل ناعق، يميلون مع كل ريح، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق، كما تقول الوصية.
هذه سنة الدنيا مذ قامت، ولن تجد لسنة الله تبديلاً: نسخٌ آدميّة مأجورة مستخدَمة، تتكرر فى كل زمن وفى كل عصر، وهى لا تعرف معنى لتحرير القلب ولا لحرية العقل.
وأهل الباطل فى كل جيل أشباه وأنداد. وأهل الحق كذلك هم من يتخذون من كنز العلم والتحقيق غاية نحو وَحْدَة قصد، ولا يخشون من أجل الحق فى الله لومة لائم.
وربّانيُّ الأمة هو على التحقيق المثل الأعلى للولى العالم العامل، الجامع بين علوم العقل وعلوم التصفية، وربما وجدنا من مؤرخى التصوف (أبو نعيم صاحب حلية الأولياء) من يضع على لسان عبدالله بن مسعود حديثاً مسنداً: «إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرفٌ إلا له ظهر وبطن، وإنّ علياً بن أبى طالب عنده علم الظاهر والباطن». أو يذهب صاحب نهج البلاغة إلى أن علياً يعلن أنه اندمج على مكنون علم لو باح به للناس لاضطربوا اضطراب الأرشية فى الطوى البعيدة. أى أنه، عليه السلام، أنطوى على علم لم يعلمه أحد لو أظهره لاضطرب الناس مثل اضطراب الحبال فى البئر العميقة.
حقيقة، لن تضام أمة وفيها الأمثلة العليا من كبار العقول وكبار القلوب، فإذا ظهر فيها اليوم، كما ظهر فيها فى السابق، من يقدح فى ثوابتها أو يطعن فى أصولها، تحت دعاوى لقيطة، فحكمه حكم من سبقه عبر تطاول الأزمنة والدهور: فى مزبلة التاريخ.
ولن تخلو أمة التوحيد من قائم لله بحجة، كما صحّ عن الإمام.
(وللحديث بقيّة)
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: د مجدى إبراهيم
إقرأ أيضاً:
مفتون ووزراء وكبار علماء يشاركون في احتفالية البيت المحمدي بذكرى الإمام الرائد
يحتفي البيت المحمدي للتصوف غدًا الأربعاء بعد صلاة المغرب بالذكرى ٢٧ للإمام الرائد الشيخ محمد زكي إبراهيم مؤسس العشيرة المحمدية ورائد التصوف في العصر الحديث
تقام الاحتفالية بعنوان (بناء الإنسان فى فكر الإمام الرائد).
جاء ذلك برعاية الأستاذ الدكتور محمد مهنا أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر وخادم البيت المحمدي، وحضور : الأستاذ الدكتور أحمد عمر هاشم - عضو هيئة كبار العلماء، والأستاذ الدكتور/ شوقى علام - مفتى الجمهورية السابق، والأستاذ الدكتور/أسامة الأزهري - وزير الأوقاف، الأستاذ الدكتور/ محمد عبدالرحيم بيومي - أمين عام المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، والأستاذ الدكتور/محمود حامد عثمان - عضو مجمع البحوث الإسلامية، وفضيلة الشيخ /على صالح - من علماء الأزهر الشريف، والأستاذ الدكتور عبدالفتاح العواري - العميد الأسبق لكلية أصول الدين بالقاهرة، الأستاذ الدكتور يسرى جبر وشيوخ الإنشاد معاذ الجعفري، وأحمد الأنصاري، ومنصور زعيتر.
يذكر أن الشيخ محمد زكي إبراهيم رحمه الله أسس جمعية العشيرة المحمدية رسمياً سنة 1930 م، التي صار نائبه فيها فيما بعد الشيخ عبدالحليم محمود شيخ الأزهر، لتكون وسيلته للدعوة الإصلاحية الإسلامية الصوفية ، وجعل من مبادئه الاهتمام بالفرد والجماعة، وهذا الأثر بقي للشيخ بعد وفاته فانتشر ذكره في بلاد عده خاصة في جنوب شرق آسيا بإندونيسيا، وكان الشيخ رحمه الله طموحا مجتهدا مجدًّا، يجيد اللغات: الإنجليزية، والألمانية، و الفارسية ، وقد مكنت هذه الثقافة العالية من خوض غمار الترجمة فترجم الشيخ إلى العربية بعض قصائد الشاعر الألماني هايني رش هايني، وتعلم الفارسية على يد الشيخ محمد الأعظمي، وترجم عددًا من قصائد الشاعر الصُّوفي محمد إقبال إلى العربية وقد نشرت بمجلة أبولو.
و كان له حلقة شعرية إسلامية ألفها من كبار الشعراء الإسلاميين منهم : الدكتور حسن جاد ، والأستاذ قاسم مظهر ، والأستاذ محمود الماحي ، والأستاذ عبد الله شمس الدين ، والدكتور سعد ظلام ، والأستاذ ضيف الله ، والأستاذ الربيع الغزالي ، والأستاذ شاور ربيع ، والأستاذ محمد التهامي ، والأستاذ أحمد عبد الخالق ، واللواء رائف المعري ، وغيرهم .
وقد أهداه الرئيس جمال عبد الناصر (وشاح الرواد الأوائل ونوط التكريم)، وأهداه الرئيس السادات (نوط الامتياز الذهبي) من الطبقة الأولى، وأهداه الرئيس حسني مبارك (وسام العلوم والفنون) المخصص لكبار العلماء والأدباء، ثم أهداه (نوط الامتياز الذهبي) من الطبقة الأولى أيضًا، وأهداه الرئيس اليمني عبد الله السَّلَّال (وشاح اليمن والخنجر).
وكان أمينًا ورائدًا دينيًّا لـ (جمعيات الشبان المسلمين العالمية)، و(المؤتمر القرآني) برئاسة نائب رئيس الجمهورية السيد حسين الشافعي وعضوًا بلجنة(الهيئة العليا للدعوة بالأزهر) برئاسة الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود، وكان خبيرًا باللجنتين التاريخيتين لإصلاح التصوف برئاسة السيد وزير الداخلية، ثم برئاسة الشيخ الباقوري وزير الأوقاف وقتئذ رحمه الله، وعلى مجهود هاتين اللجنتين صدرت اللائحة الصوفية الحالية، وقد كان له عليها عدة مآخذ، لولا أنها كانت الخطوة الأولى في سبيل إصلاح التصوف بمصر، وتعتبر نواة لما بعدها.
كما كان للشيخ محمد زكي الفضل في إنشاء مكتب رعاية المهتدين إلى الإسلام بالأزهر الشريف في عهد الدكتور عبد الحليم محمود رحمه الله ، وشارك في نشاط هذا المكتب ، و أسلم على يديه عدد غير قليل ممن شرح الله تعالى صدورهم لدينه، وما زال مكتب رعاية المهتدين إلى الإسلام بالأزهر يؤدي مهمته إلى الآن بصورة أو بأخرى خير قيام
وللشيخ محمد زكي عدة مؤلفات منها: (أبجدية التصوف) وهو كتاب مهم لمن يود التعرف على التصوف، ومن أعماله الصحفية ( مجلة المسلم) وكان من جيل الرواد الأوائل من شعراء هذا العصر، فقد عاصر شوقي وحافظ والعقاد والرافعي والزيات، وكان له معهم صولات وجولات، وقد ألف خمسة دواوين شعرية في نحو خمسة عشر جزءاً من الشعر العمودي المقفى، في أغراض الشعر المختلفة لعل أشهرهم ديوانه الشهير (ديوان البقايا) و(ديوان المثاني) وكان يدعوا إلى إنشاء أكاديمية للتصوف وقد تحققت على يد تلميذه بعد وفاته الدكتور محمد مهنا أستاذ الشريعة والقانون بجامعة الأزهر.
ومن أشهر كتبه أصول الوصول : أدلة أهم معالم الصوفية الحقة من صريح الكتاب وصحيح السنة .
الخطاب : خطاب صوفي جامع من الإمام الرائد إلى أحد كرام مريديه .
فواتح المفاتح : الدعاء وشروطه وآدابه وأحكامه .
الأربعون حديثاً الحاسمة ردعاً للطوائف المكفَّرة الآثمة .
مراقد أهل البيت في القاهرة : يحقق أن رأس الإمام الحسين رضي الله عنه وجثمان السيدة زينب وغيرهما من آل البيت بالقاهرة ، تاريخا وواقعاً .
أمهات الصلوات النافلة : الصلوات النافلة ومسائلها وأحكامها من الكتاب والسنة .
ليلة النصف من شعبان : قيامها ، فضلها ، الدليل الحاسم على إحيائها .
بركات القرآن علي الأحياء والموتى : من الحديث النبوي .
معالم المجتمع النسائي في الإسلام : أحكام وقضايا النساء المختلفة بأسلوب علمي ميسر .
كما كتبت عنه عديد من المؤلفات والرسائل العلمية في جامعات الأزهر، القاهرة، عين شمس، قناة السويس.