العُمانية/ بناءً على التكليف السّامي لحضرةِ صاحبِ الجلالةِ السُّلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ورعاه - ترأس صاحبُ السُّمو السّيد أسعد بن طارق آل سعيد نائبُ رئيس الوزراء لشؤون العلاقات والتعاون الدولي والممثل الخاص لجلالةِ السُّلطان وفد سلطنة عُمان المشارك في أعمال القمة العربية العادية الثالثة والثلاثين التي بدأت أعمالها اليوم في العاصمة البحرينية المنامة بحضور عدد من قادة الدول ورؤساء الحكومات.

وكان في مقدّمة مستقبلي سُموّه لدى وصوله مقر انعقاد القمّة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين.

وقد ألقى صاحبُ السُّمو السّيد نائبُ رئيس الوزراء لشؤون العلاقات والتعاون الدولي والممثل الخاص لجلالةِ السُّلطان كلمة في افتتاح أعمال القمة العربية فيما يأتي نصها:

"بسم الله الرحمن الرحيم.

صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة ملك مملكة البحرين رئيس هذه الدورة الثالثة والثلاثين لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة.

أصحاب الجلالة والفخامة والسمو

معالي الأمين العام لجامعة الدول العربية

ضيوف القمة الكرام

الحضور الكريم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يشرفني في مستهل هذه الكلمة أن أعرب عن خالص تحيات أخيكم حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق سلطان عُمان، وتمنياته الطيبة بوافر التوفيق والسداد لجمعكم المبارك هذا، مثمنين عاليًا حفاوة الاستقبال، وكرم الضيافة، وحسن الإعداد والتنظيم لهذه القمة، على أرض البحرين الشقيقة، وبقيادة حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة - حفظه الله ورعاه -.

ولا يفوتنا أن نعرب عن تقديرنا للمملكة العربية السعودية الشقيقة لجهودها البنّاءة في إنجاح وإدارة القمة العربية السابقة برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود وولي عهده صاحب السمو الملكي الأخ الأمير محمد بن سلمان.

أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،

تنعقد هذه القمة في ظروف استثنائية، والأمة العربية في أحوج ما تكون إلى التمكين، في صَونِ وتطوير أمنها ومحيطها الجيوسياسي، ومكانتها بالتحديات والتعقيدات، التي لا يمكن تجاوزها والتغلب عليها منفردين، بل مجتمعين، ولو بالحدّ الأدنى من التوافق والتعاضد، والتعاون على ما يجمعنا من الاستراتيجية، ومقدراتها الاقتصادية، لتغدُو قادرةً على مواجهة عالم مثقل بتطلعات وأهداف وغايات.

إنّ الظلم التاريخي الواقع على الشعب الفلسطيني، يُحتّم علينا اتخاذ موقف عربي أكثر تأثيرًا وفعالية، بحيث يكفل للشعب الفلسطيني حق تقرير المصير، ونيل الاعترافِ الدَّوْلِيّ الشامل بالدولة الفلسطينية، وتأمين حل الدولتين المنشود، حسبما نصت عليه قرارات الأمم المتحدة، ومبادرة السلام العربية، وقواعد القانون الدَّوْلِيّ. فبدون ذلك، لن تهنأ منطقتنا بالاستقرار الدائم، والازدهار المستدام، اللذين يتوقُ إليهما، أبناء دول المنطقة والعالم أجمع.

وفي نفس الوقت، ومن منطلق المسؤولية التاريخية والأخلاقية التي تجمعنا، فإنَّنا نُنَاشِدُ المجتمع الدَّوْلِيَّ بضرورة التحرُّكِ الفوري في هذا الاتجاه، وممارسة التطبيق الفعلي لمعايير القانون الدَّوْلِيّ، لتحقيق وتثبيت العدالة للشعب الفلسطيني، وتأمين الأمن والاستقرار للجميع.

أصحاب الجلالة والفخامة والسمو

الحضور الكريم

إنَّنا نؤكد على أهمية احترام سياسة حُسنِ الجِوارِ، وسيادة الدول على أراضيها، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية لها، وصَوْنِ حَقَّ الشعوب، في العيش المشترك، بكرامة واستقلال.

وما دمنا ننشد العدالة، فإننا واثقون بأنّنا لن نُخْذَلَ أبَدًا بعونه تعالى..

نسأل الله العلي القدير، أن يُعيننا جميعًا فيما يُحِبُّه ويرضاه، إنه نعم المولى ونعم النصير،

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته".

وكان قد افتتح أعمال القمة العربية صاحب السمو الأمير محمد بن سلمان آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي رئيس الدورة العادية السابقة لمجلس جامعة الدول العربية، بكلمة أكّد خلالها أنّ المملكة العربية السعودية استضافت اجتماعًا أدان العدوان الإسرائيلي على غزة تحت أي ذريعة، داعيًا إلى ضرورة وقف الحرب على القطاع ووقف أيّ نشاط يؤثر على سلامة الملاحة البحرية.

من جانبه ألقى جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين رئيس الدورة الحالية للقمة العربية الـ 33 كلمة أشار فيها إلى أنّ القمة العربية تنعقد وسط ظروف إقليمية ودولية بالغة التعقيد من حروب مدمرة ومآس إنسانية مؤلمة وتهديدات تمسّ أمتنا في هويتها وأمنها وسيادتها ووحدة وسلامة أراضيها.

وأكّد ملك البحرين أن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة سيأتي بالخير على الجوار العربي بأكمله ليتجاوز أزماته وتتلاقى الأيادي من أجل البناء التنموي المتصاعد دعمًا للأشقاء الفلسطينيين جميعًا، داعيًا إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط.

وألقى معالي أحمد أبو الغيط أمين عام جامعة الدول العربية كلمة أكّد فيها أن العدوان الإسرائيلي على غزة أبرزَ أهمية الإنهاء الفوري للاحتلال، مشيرًا إلى أنّ إسرائيل تواصل عمليات التطهير العرقي في القطاع بقوة السلاح داعيًا إلى عقد مؤتمر دولي للسلام يجسد رؤية حلّ الدولتين.

من جانبه قال معالي أنطونيو جوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة: إنّ التغلب على التحدّيات العالمية يتطلب تكاتف الجهود، داعيًا إلى وضع حدّ للمأساة في غزّة فورًا، مشيرًا إلى أنّ ما يحدث في غزة أكبر صراع ألحق ضررًا بالمدنيين منذ عقود.

وأكّد أنّ الهجوم على رفح غير مقبول بأي شكل من الأشكال، مشيرًا إلى أن الحرب في السودان تُعرّض الملايين للمجاعة، داعيًا إلى وقف الحرب والتحوّل لعملية سياسية.

وألقى جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين ملك المملكة الأردنية الهاشمية كلمة قال فيها: إن المنطقة العربية تشهد واقعًا أليمًا وغير مسبوق بسبب ما يحدث في غزّة، وما يشهده القطاع من تدمير سيترك آثارًا سلبية للأجيال القادمة، داعيًا إلى وقف الحرب فورًا.

كما أكّد الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية أنّ إسرائيل تتهرّب من مسؤولياتها لإنهاء الحرب في غزة وتمضي قدمًا في العمليات العسكرية برفح.

من جهته أشار الرئيس محمود عباس رئيس دولة فلسطين إلى أنّ جرائم الحرب والإبادة الجماعية في غزة مستمرة منذ 7 أشهر أدت إلى سقوط أكثر من 120 ألف فلسطيني بين شهيد وجريح، وأكثرُ من 70 بالمائة من المنشآت دُمِّرت بالكامل.

وقال الرئيس الفلسطيني: إنّ أمريكا استخدمت "الفيتو" 4 مرات لمنع وقف الحرب في غزة وحصول فلسطين على عضوية أُممية، داعيًا إلى وقف الحرب على غزّة كأولوية في هذه المرحلة، والبدء الفوري في تنفيذ حلّ الدولتين.

وبحثت القمّة العربية العديد من الموضوعات والقضايا التي تهمّ الدول العربية، من بينها: متابعة تنفيذ القرارات والالتزامات التي اتُّخذت فيها، والقضية الفلسطينية، والشؤون العربية، والأمن القومي، والأوضاع غير المستقرة في عدد من الدول العربية، والتدخلات الخارجية في شؤون الدول العربية، إضافة إلى استعراض الشؤون السياسية الدولية التي منها القمة العربية الصينية الثانية، وإنشاء منتدى الشراكة بين جامعة الدول العربية ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، ومناقشة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية والإعلامية والقانونية، وقضايا التغير المناخي والاستراتيجية العربية لحقوق الإنسان المعدّلة (المراجعة الدورية الأولى لعام 2024)، والاستراتيجية الإعلامية العربية المشتركة لمكافحة الإرهاب، وصيانة الأمن القومي العربي ومشروعات القرارات المرفوعة من المجلس الاقتصادي والاجتماعي.

ودعا إعلان القمة العربية الـ 33 بالبحرين إلى التأكيد على ضرورة وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ورفع الحصار، وأدان سيطرة قوات الاحتلال الإسرائيلي على الجانب الفلسطيني من معبر رفح.

كما أكد الإعلان على مسؤولية مجلس الأمن في اتخاذ إجراءات لتطبيق حل الدولتين وضرورة إنهاء الأزمة السورية بما يحفظ سيادتها ووحدة أراضيها.

جدير بالذكر أنّ جمهورية العراق ستستضيف أعمال القمة العربية في دورتها الـ 34.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: جامعة الدول العربیة أعمال القمة العربیة الملک حمد بن عیسى الإسرائیلی على صاحب الجلالة داعی ا إلى وقف الحرب آل خلیفة بن سلمان ا إلى أن بن طارق ة صاحب فی غزة

إقرأ أيضاً:

نبوءة ميرشايمر.. هل اقتربت الحرب المدمرة بين أميركا والصين؟

في فبراير/شباط الماضي اتخذ الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب وإدارته قرارًا بفرض رسوم جمركية على جميع واردات الصلب والألومنيوم الصينية إلى الولايات المتحدة في أول استهداف من قبل إدارة ترامب لبكين خلال ولايته الجديدة.

وتعد بكين المنتج الأول للصلب عالميا، ورغم أن أميركا أصبحت تستورد القليل من الصلب مباشرة من الصين، منذ التعريفات التي فرضها ترامب خلال ولايته الأولى وأبقت عليها إدارة جو بايدن، فإن الصلب الصيني كان يشق طريقه إلى أميركا عبر أطراف أخرى، حيث يتم شراء بعضه من قبل دول أجنبية وإعادة شحنه إلى الولايات المتحدة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2تعلموا من الصين كيف تديرون ظهوركم لأوروبا وأميركاlist 2 of 2الصين وأميركا في 2025 والصراع الذي قد يغير شكل العالمend of list

وكما هو متوقع لم يتأخر الرد الصيني طويلا، حيث أعلنت بكين أنها ستفرض رسوما جمركية بنسبة 15% على الواردات الأميركية من الدجاج والقمح والذرة والقطن، وبنسبة 10% على اللحوم الحمراء ومنتجات الألبان، وهو ما ينذر بالمزيد من التوترات التجارية بين البلدين.

وتعكس حرب التعريفات المحتدمة تلك مخاوف أميركية واضحة من الصعود الاقتصادي للصين بعد زهاء عشرين عاما من النمو المذهل والمستدام الذي جعل بكين منافسا حقيقيا للولايات المتحدة على صدارة الاقتصاد العالمي (17.8 تريليون دولار هي الناتج الإجمالي لبكين مقابل 27.7 تريليون دولار للولايات المتحدة وفق بيانات البنك الدولي لعام 2023).

إعلان

هذه المنافسة الاقتصادية تخفي بين طياتها صراعا سياسيا أكبر حول هوية من يهيمن على النظام العالمي خلال العقود القادمة. فمنذ سقوط الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات، انفردت الولايات المتحدة بالقرار العالمي بلا شريك، ولم ينازعها أحد هذه الهيمنة أو يقارب.

ولكن اليوم، تعترف إستراتيجية الأمن القومي الأميركية بأن الصين هي الفاعل الوحيد الذي لديه "الرغبة والقدرة" على تغيير النظام العالمي، وما يجعل الأمور أسوأ -من وجهة نظر أميركية- أن ذلك الفاعل يأتي من فضاء سياسي وثقافي مختلف تماما عن الفضاء الغربي الذي هيمنت قيمه وأنظمته على العالم خلال العقود الماضية.

بالنظر إلى هذه الحقيقة، لا يعد الصراع بين واشنطن وبكين اليوم مجرد صراع بين فيلين ضخمين يتحركان فوق الرقعة الدولية، بل منافسة تعيد تشكيل العالم الذي نعرفه، وهو ما يجعل الأمر مثار اهتمام لحقل دراسات العلاقات الدولية.

وبينما تتقدم الصين بخطى حثيثة لتصبح قوة عظمى على الصعيد العالمي يتزايد الاهتمام بنظرية دشنها في تسعينيات القرن العشرين، جون ميرشايمر عالم السياسة الأميركي الشهير، وتعرف باسم "الواقعية الهجومية" وهي تحمل تنبؤا متشائما لمستقبل النظام الدولي بشكل عام وللصراع الأميركي الصيني بشكل خاص.

الواقعية.. بين الدفاعيين والهجوميين

ينقسم منظرو العلاقات الدولية في الوقت الراهن تيارين رئيسيين، التيار الواقعي والتيار المثالي. ويعتقد أن التيار المثالي "الليبرالي" -الأحدث- نشأ من رحم حركة التنوير الأوروبية، وتقوم نظريته على عدة افتراضات على رأسها رفض الاعتراف بأن التنافس على القوة أو الصراع حالة طبيعية للعلاقات بين الدول، وفي المقابل اعتقاد أن الغاية النهائية للجميع هي تحقيق الاستقرار والسلام العالمي.

وقد تلقى أنصار هذا التيار دفعة قوية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي وهيمنة أميركا وحدها على العالم وسقوط جدار برلين الذي كان إيذانا بانضمام شرق أوروبا إلى قافلة الديمقراطية الليبرالية.

إعلان

ساعتها، سرت موجة من التفاؤل بشأن مستقبل النظام العالمي، إثر انتهاء الصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب بانتصار الليبرالية بشقيها السياسي المتمثل في "الديمقراطية التمثيلية" والاقتصادي المتمثل في الرأسمالية والسوق الحرة، وظهرت تنظيرات تعكس هذا الطابع المتفائل مثل نظرية "نهاية التاريخ والإنسان الأخير" لعالم السياسة الأميركي فرانسيس فوكوياما الذي توقع متفائلا نهاية الصراعات بين الدول باعتناق العالم كله للديمقراطية الغربية.

ولأن الديمقراطيات لا تتقاتل (كما اعتقد المثاليون وقتها) فالأمل قائم في أن حالة الحرب ستكون من التاريخ وأنه لن يكون هناك حاجة للاقتتال مستقبلا.

وقد امتد هذا التفاؤل ليشمل العلاقات بين الغرب والصين، مفترضا أن التطور الاقتصادي في بكين سيقوّي الطبقة الوسطى التي ستحول الصين في نهاية المطاف إلى دولة ديمقراطية باعتبار أنه "لا ديمقراطية بدون طبقة وسطى" حسب ما انتهى إليه بارينغتون مور، عالم الاجتماع والفيلسوف والمؤرخ الأميركي، في عمله الكبير "الأصول الاجتماعية للديمقراطية والدكتاتورية".

على الجانب الآخر، يؤكد أنصار النظرية الواقعية على الطبيعة التنافسية والصراعية للنظام الدولي، ويرون أن القوة شيء لا بد منه في العلاقات الدولية، ويشككون في دور الأخلاق وتأثيرها في مجال السياسة الدولية.

وبغض النظر عن مسماه الأكاديمي وتطور رؤاه النظرية، فإن ذلك التيار هو الذي ساد فعليا خلال معظم فترات التاريخ البشري، حيث تعود جذور النظرية الواقعية إلى أعمال ثوقيديدس، وهو مؤرخ وجنرال يوناني اشتهر بأفكاره حول الحرب البيلوبونيسية بين أثينا وإسبرطة، التي رأى أنها نشبت جراء مخاوف إسبرطة من الصعود الكبير لقوة أثينا، ومنه استقى عالم السياسة الأميركي غراهام تي أليسون مصطلح "فخ ثوقيديدس" لوصف النزعة الواضحة للحرب عندما تشعر قوة عظمى بالتهديد من قبل قوة جديدة صاعدة.

إعلان

على مدار التاريخ، طرح الواقعيون أفكارهم حول دور القوة في تشكيل النظام الدولي والدور الهامشي للأخلاق في هذا السياق، وقد تفاوتت تلك الأفكار في مدى تماسكها وحتى "تطرفها" كما فعل نيقولا ميكافيللي الفيلسوف الإيطالي الشهير الذي انتقد النزعة الأخلاقية في السياسة، وتوماس هوبز، فيلسوف السياسة الإنجليزي الذي طرح أفكاره حول حالة "الفوضى الطبيعية" التي وصفها بأنها "حرب الكل ضد الكل".

ورغم أن اهتمام هوبز تركز في المقام الأول على العلاقة بين الأفراد والدولة فإنه أشار إلى أنه بمجرد قيام الدول، يصبح التحرك نحو القوة والسلطة أساسا لسلوكها؛ مما يدفعها إلى محاولة استغلال الدول والشعوب الأخرى.

صورة لكتاب "لفايثان" للفيلسوف الانجليزي توماس هوبز (الجزيرة)

غير أن أفكار الواقعيين القدامى (التقليديين) من أمثال هوبز وميكافيللي تعرضت لنقد شديد بسبب اختزالها للعوامل المؤدية للصراع في النزعات الشخصية والطبائع الشريرة للبشر وبقدر أقل في الموقع الجغرافي للدول وطبيعة نظامها السياسي، وهو ما تطلب ظهور جيل جديد من الواقعيين يقدم إطارا نظريا أشمل وأقدر على تفسير الصراعات الدولية.

في مقدمة هؤلاء يجيء اسم كينيث والتز الذي وضع في كتابه الصادر عام 1979 بعنوان "نظرية العلاقات الدولية" حجر الأساس لما باتت تُعرف بـ"الواقعية الجديدة" أو البنيوية، وإسهامها الأهم حول "الطبيعة الفوضوية للنظام الدولي".

يرى والتز أنه بخلاف الدول، بمختلف هياكلها السياسية، التي تكون غالبا منظمة في صورة هيراركية فإن النظام الدولي "فوضوي" بطبعه بغض النظر عن هوية الفاعلين الأساسيين فيه. وداخل هذا النظام الدولي الفوضوي فإن جميع الدول لديها وظائف متشابهة تقريبا وهي تختلف فقط من حيث تفاوت "القدرات" وليس الأدوار، وعلى رأس هذه الوظائف مسألة "ضمان البقاء والسعي للأمن".

إعلان

وفي مسألة الأمن، ينقسم الواقعيون على الأغلب إلى شطرين: الشطر الأول، الأكثر تفاؤلا، هم أنصار ما تُعرف بـ"الواقعية الدفاعية" أمثال ستيفن والت وباري بوزان ممن يرون أن الدول سرعان ما ستدرك أن تكاليف الحرب تتجاوز فوائدها بشكل جلي، وأنه في غياب أي تهديد واضح فإن الدول لا تمتلك حافزا واضحا لاعتناق نظرة أو تبني سياسة ذات طابع توسعي.

يعد الأمن إذن من وجهة نظر الواقعيين الدفاعيين مسألة "دفاعية بحتة"، وبالنسبة لهؤلاء فإن التعاون بين الدول يظل أيسر وأكثر قابلية للتحقق في معظم الحالات من الصراع بينها، وأن تكاليف الدفاع "بما يشمل حوز الأسلحة الدفاعية" أقل من تكاليف التوسع.

وفي مقابل هذه النظرة المتفائلة، تبرز نظرة قاتمة يرى أنصارها أن الدول لا تسعى إلى الأمن بمعناه السلبي أو الدفاعي، بل تسعى إلى مراكمة القوة وتوسيع الفوارق بينها وبين الدول الأخرى، وأن السبيل الوحيد لبقاء الدول هو أن تصبح دائما "أكثر قوة"؛ مما يقودها لخوض صراع لا يمكن لجمه على النفوذ، وتبنّي رؤية توسعية على حساب الآخرين.

يرسم الواقعيون الهجوميون رابطة مباشرة بين مراكمة القوّة وبين الأمن، فضمان الأمن يفرض على الدولة مضاعفة قدراتها باستمرار وتحقيق الأفضلية على الخصوم، ولن يتأتى لأي دولة أن تتمتع بالأمن المطلق إلا إذا امتلكت وضعا مهيمنا في النظام الدولي أو على الأقل في محيطها الإقليمي.

وفي هذه الحالة فإن تلك القوة العظمى أو المهيمنة سوف تتمكن من ردع خصومها المحتملين وإرغامهم على تقديم تنازلات؛ مما يساعدها على تقوية وضعها، وفي حال إخفاقها في تحقيق هذه الأفضلية فإن الخصوم سوف يمتلكون الفرصة لتقوية أنفسهم على حسابها، وهو ما يحولهم بمرور الوقت إلى مصدر تهديد لها، وساعتها تصبح الحرب أو الصراع مسألة وقت لا أكثر.

مأساة سياسة القوى العظمى

يعد جون ميرشايمر، عالم السياسة الأميركي أبرز منظري الواقعية الهجومية، وقد طرح أفكاره حول ذلك الأمر في كتابه "مأساة سياسة القوى العظمى" مشيرا إلى أن النظام الدولي يتمتع بخمس خصائص أساسية تعمل مجتمعة لتجعل الصراع على القوة هو المحرك الأساسي لسياسة الدول، التي تسعى دائمًا إلى زيادة قوتها على حساب خصومها ومنافسيها.

إعلان

أول هذه الخصائص هي فوضوية النظام الدولي التي تعد حجر الأساس الذي تنطلق منه رؤى الواقعيين، وتعني باختصار أن النظام الدولي يخلو من سلطة عليا تمنع اعتداء أي دولة على أخرى وتلجأ إليها الدول الأكثر ضعفا لحمايتها من تغول الدول الأقوى، وبالتالي لا سبيل سوى اعتماد كل دولة على نفسها في حماية وجودها.

بعد ذلك تأتي الخصيصة الثانية وهي امتلاك ما تُعرف بـ"الدول العظمى" دون غيرها قوة عسكرية هجومية كبيرة؛ مما يمنحها موقعا أفضل في النظام الدولي ولكنه يزيد في الوقت نفسه من التنافس فيما بينها.

يزداد هذا التنافس حدة في ضوء الخصيصة الثالثة للنظام وهي عدم وجود طريقة تتأكد عبرها الدول من نيات بعضها؛ مما يجعلها في حالة شك دائم، واستعداد لاحتمال تعرض مصالحها للاعتداء، خاصة أن خريطة التحالفات الدولية دائمة التبدل والتغير.

فمثلا الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي تحالفا معًا ضد ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، ولكن سرعان ما بات العداء بينهما هو السائد بعد زوال الخطر المشترك الذي كان يهدد كلا منهما.

في خضم هذا الوضع الدولي الملبد بالغيوم، يعد البقاء هو الهدف الأسمى للدولة، والبقاء يستند إلى الأمن وتعد الدول المنافسة هي التهديد الرئيسي للأمن وهذه هي السمة الرابعة للنظام الدولي، أما السمة الخامسة فهي أن الدول التي تتصرف في هذا المناخ هي فواعل "عقلانية" إجمالا، أي أن تصرفاتها يمكن أن تفسر في أغلب الأحيان وفق حسابات المكسب والخسارة وليس بناء على العواطف كما يفعل البشر عادة.

تعمل هذه الخصائص الخمس، بحسب ميرشايمر، على جعل الدول تتصرف بعدوانية اتجاه الدول الأخرى متى شكّت في نياتها، أو حتى بمجرد ارتفاع مكانتها في النظام الدولي؛ مما يجعلها تمثل تهديدا لموقع القوة المهيمنة.

ويخبرنا التاريخ القريب عن الطريقة التي تعمل بها هذه الدينامية، فخلال حقبة الحرب العالمية الثانية وما بعدها، مثلت الولايات المتحدة أكبر قوة عسكرية عالميا، وكانت هي مصدر التسليح لدول الحلفاء بعد انخراطها في الحرب، وكانت أول البلدان حصولا على القنبلة النووية واستخدامًا لها عندما قصفت هيروشيما وناغازاكي، وظلت تحرص دائما على أن تكون لها يد السبق على خصومها.

إعلان

بيد أنه حين امتلكت الولايات المتحدة القنبلة النووية، أشعلت التنافس النووي الذي كانت شرارته حاضرة بالفعل خلال الحرب، التي كان طرفها الآخر، وهو الألمان، يسعى بدوره لامتلاك السلاح الأقوى الذي سينهي كل الحروب.

وداخل معسكر الحلفاء أنفسهم، عقد السوفيات العزم على امتلاك ترسانتهم النووية الخاصة ونجحوا في إجراء أول تجربة نووية ناجحة عام 1949، فاقت توقعات الأميركيين الذين اعتقدوا أن السوفيات لن ينجحوا في تصنيع قنبلة نووية قبل منتصف الخمسينيات.

منذ ذلك الحين، غذت الشكوك المتبادلة سباق تسلح نووي ظل قائما طوال الحرب الباردة واستمر إلى ما بعدها، فحين صنع الأميركيون القنبلة الهيدروجينية 1951 سار السوفيات على خطاهم وصنعوا قنبلتهم بحلول عام 1955.

وعلى إثر ذلك التنافس كاد العالم يشهد حربًا نووية في أزمة الصواريخ الكوبية 1962 عندما علمت الولايات المتحدة أن الاتحاد السوفياتي نشر منظومة صواريخ قادرة على حمل رؤوس نووية في كوبا، فسارعت إلى التصعيد، قبل احتواء الأزمة بإلغاء السوفيات خطتهم.

في نهاية المطاف، اقتنع الأميركيون والسوفيات بأن أيا منهم لن يكون بمقدوره فرض الهيمنة على الآخر من خلال السلاح النووي لأن كل طرف يملك منه ما يكفي تماما لتدمير الآخر، بل وإفناء الحضارة البشرية عن بكرة أبيها؛ مما أدى إلى سيادة حالة من "السلام النووي" فرضتها الحسابات العقلانية للمكسب والخسارة.

وفي نهاية المطاف، كانت الحرب الباردة بمنزلة سلام ممتد أوجده التوازن بين القوتين الكبيرتين، وإن جادل بعض المفكرين من العالم الثالث بأنها لم تكن سلاما إلا في الكتلتين الغربية والشرقية وليس في دول الجنوب العالمي.

سياسات الهيمنة

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات، بدا أن الولايات المتحدة في طريقها إلى الهيمنة المطلقة على العالم في غياب قوة منافسة.

إعلان

ورغم أن هذا صحيح نسبيا فإنه سرعان ما ثبت أن الهيمنة المطلقة مهمة مستحيلة حتى في غياب المنافسين لأن العالم كبير جدا، تغطي المياه مساحة شاسعة من سطحه، بحيث لا تمتلك أي دولة بمفردها إمكانيات وموارد تكفي لفرض السيطرة الفعلية على سائر العالم.

لذلك فإن الولايات المتحدة وحتى في ذروة قوتها لم تهيمن على كل مناطق العالم وذلك بسبب ما يسميه ميرشايمر "القوة المانعة للمياه"، أي وجود مساحة شاسعة من المياه تفصلها عن العالم.

ونتيجة لذلك، تعين على الدول العظمى أن ترسم أهدافها ومجالات نفوذها تباعا، ففي البداية يتعين عليها أن تسيطر على محيطها الإقليمي، بحيث تأمن أنه لن يصبح أبدا هدفًا لهجوم من جيرانها، ويتطلب ذلك أن تكون أقوى من جيرانها بفارق واضح لا يمنحهم هامش المناورة لمعاداتها.

الولايات المتحدة وحتى في ذروة قوتها لم تهيمن على كل مناطق العالم وذلك بسبب ما يسميه ميرشايمر "القوة المانعة للمياه"، أي وجود مساحة شاسعة من المياه تفصلها عن العالم. (الجزيرة)

ثم بعد ذلك، على كل دولة عظمى أن تمنع منافسيها المباشرين من ممارسة دور مهيمن في محيطها ذلك، لأن تلك الدولة أو الدول المنافسة متى أمنت جانب محيطها ستحاول أن توسع نفوذها، وساعتها من الممكن أن تسعى لاختراق الحديقة الخلفية لمنافسيها.

بعد ذلك يأتي دور بسط الهيمنة إلى بقية العالم ومحاولة اختراق المحيط الإقليمي للمنافسين بما يبقيهم دائما مشغولين بتأمين أنفسهم وجوارهم الإقليمي عن التوسع في بقية العالم.

يجادل ميرشايمر بأن تلك المبادئ تفسر سلوك الولايات المتحدة الأميركية منذ نشأتها حتى الآن، وستفسر تبعا لذلك سلوك أي قوة عظمى في العالم، لقد نشأت الولايات المتحدة كمستعمرات صغيرة أخذت في التوسع حتى وصلت إلى المحيط الهادي غربا، واستولت على تكساس من المكسيك، واشترت ألاسكا من روسيا ولويزيانا من فرنسا وغزت كندا سعيا لضم أجزاء منها.

إعلان

وعندما أمنت الولايات المتحدة جوارها الإقليمي، تدخلت في العالم القديم لأجل فرض التوازن والحيلولة دون هيمنة الدول العظمى الأخرى على مناطقها، كما فعلت بدخولها الحرب العالمية الأولى عام 1917 إلى جانب كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا ضد ألمانيا والنمسا والدولة العثمانية.

وفي الحرب العالمية الثانية دخلت الولايات المتحدة الحرب على جبهتين، الأولى في أوروبا إلى جانب بريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفياتي ضد ألمانيا لإنهاء سيطرة الألمان على أوروبا بعد هزيمة فرنسا وبريطانيا عام 1941.

وبعد الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر، أعلنت الحرب ضد اليابان وكرست جانبا كبيرا من قواتها لمحاربة الإمبراطورية اليابانية التي كانت تسيطر على مساحات شاسعة من محيطها الإقليمي الخاص على اليابسة الآسيوية في كوريا والفلبين وإندونيسيا والصين، وانتهت الحرب باستسلام اليابان في أغسطس/آب 1945.

وبعد هزيمة فرنسا في معركة ديان بيان فو الشهيرة على يد الثوار الفيتناميين الشيوعيين بقيادة هوشي منه عام 1954، خشيت الولايات المتحدة من انتشار الشيوعية الذي سيعني امتداد الهيمنة السوفياتية إلى جنوب آسيا؛ مما دفعها إلى إرسال قواتها لدعم حكومة فيتنام الجنوبية الحليفة ضد الفيتكونغ (الشيوعيين) في الشمال واستمرت الحرب لمدة 18 عامًا.

وفي ثمانينيات القرن العشرين دعمت الولايات المتحدة المقاتلين الأفغان الذين كانوا يحاربون القوات السوفياتية التي دخلت أفغانستان لدعم الحكومة الشيوعية، وفي التسعينيات قادت الولايات المتحدة تحالفا دوليا ضد العراق لوأد طموحاته المزعومة للهيمنة على منطقة الخليج والشرق الأوسط.

الصين ضد أميركا

يرى ميرشايمر أن الصين، بوصفها قوة عالمية صاعدة، تسير على نفس الخطى التي سارت عليها أميركا قبل عقود.

في البداية، تسعى بكين لتكون القوة المهيمنة في محيطها الإقليمي، لكنها تجد أن ذلك المحيط ليس خاليا وأن عليها أن تشتبك مع النفوذ الأميركي فيه، بداية من تايوان التي تعتبرها الصين جزءًا من أراضيها والتي تحظى بحماية أميركية واضحة، وصولا إلى كوريا الجنوبية واليابان، وهما خصمان رئيسيان للصين وحليفان رئيسيان للولايات المتحدة يستضيفان العشرات من القواعد العسكرية الأميركية وعشرات الآلاف من الجنود الأميركيين.

إعلان

لذلك مثلما تمثل الصين تحديا للولايات المتحدة، فإن أميركا هي أكبر تحدّ للصين لأنها توجد في حديقة الصين الخلفية، مانعة إياها من امتلاك الهيمنة المطلقة في محيطها الإقليمي.

تاريخيا مرت العلاقات الصينية الأميركية بمنعطفات عدة، منذ انتصار الشيوعيين في الحرب الصينية الأهلية، وقيام جمهورية الصين الشعبية 1949، دعمت الولايات المتحدة القوميين الصينيين الذين انتهت الحرب بهزيمتهم وفرارهم إلى جزيرة تايوان، ومنذ ذلك العام انقسمت الصين إلى دولتين، الأولى في البر الرئيسي وهي جمهورية الصين الشعبية، والثانية في جزيرة تايوان يحكمها القوميون وتتحالف مع الولايات المتحدة.

خريطة لتايوان والبر الرئيسي للصين و"خط الوسط" بينهما (الجزيرة)

في البداية، لم تعترف الولايات المتحدة بجمهورية الصين الشعبية وظلت علاقة العداء تحكم البلدين حتى شعرت واشنطن بأنها بحاجة إلى الصين لاحتواء الاتحاد السوفياتي؛ مما دفع نحو تحول تاريخي بإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين مطلع السبعينيات. ومنذ ذلك الحين بدأت بكين تخوض تحولا اقتصاديا خاصا، وحققت منذ ذلك الحين معدلات نمو إعجازية.

ووفقا لنبوءة ميرشايمر، فإن الثروة تعد بمثابة "قوة كامنة" بمعنى أن أي دولة تمتلك فائضا كبيرا منها سوف تتحول إلى قوة عسكرية كبيرة بمرور الوقت.

ورغم أن الولايات المتحدة لا تزال صاحبة اليد العليا عالميا على صعيد القوة العسكرية، فإن الصين تعتبر ثاني أكبر مُصنِّع عسكري في العالم، وتسود الآن حالة من القلق الشديد في واشنطن من احتمال تفوق الصناعات العسكرية الصينية على نظيرتها الأميركية في المستقبل القريب في حين يشتكي البنتاغون من أن الصناعة العسكرية الأميركية تكافح للحاق بمعدل تقدم الصناعات العسكرية الصينية، وأنها لا تزال تفكر بعقلية عصر السلم، في الوقت الذي تعمل فيه الصناعات العسكرية الصينية بمنطق زمان الحرب.

إعلان

على صعيد الإنفاق العسكري لا تزال الولايات المتحدة في المركز الأول بفارق كبير عن باقي منافسيها، بل تكاد تمثل نصف الإنفاق العسكري العالمي كله، بحوالي 883 مليار دولار في عام 2024، لكن هذه الفجوة تضيق إذا أخذنا بالاعتبار مسألة تعادل القوة الشرائية والنفقات غير المعلنة للجيش الصيني.

لا تزال واشنطن كذلك في المرتبة الأولى على صعيد نسبة الإنفاق العسكري إلى الناتج القومي الإجمالي بنسبة 3.4% رغم أن هذه النسبة انخفضت كثيرا مقارنة بنسبة 7% في منتصف ثمانينيات القرن الماضي.

في المقابل نما الإنفاق العسكري الصيني بشكل كبير خلال العقود الماضية، وحسب الأرقام الرسمية تنفق الصين نحو 219 مليار دولار مقارنة بـ25 مليارا تقريبا في عام 1995، وهناك بعض التقديرات التي ترى أنه بأخذ مسألة تعادل القوة الشرائية في الاعتبار فإن هذا الرقم يرتفع إلى ما بين 500 و700 مليار دولار، وهو ما يجعله يقترب جدا من السقف الأميركي.

وبالطبع يوجه الجزء الأكبر من هذا الإنفاق لتقوية الترسانة العسكرية الصينية، في نطاقات مختلفة، جميعها مخصص لزيادة قدرة الصين على فرض نفوذها في محيطها الإقليمي ومواجهة الحصار الذي تفرضه عليها الولايات المتحدة.

بادئ ذي بدء، تسير الصين بخطى حثيثة في طريقها إلى أن تصبح القوة البحرية الكبرى في العالم عام 2035، بل يعتقد أنها حققت ذلك بالفعل (على الصعيد الكمي المتعلق بعدد السفن وليس النوعي الذي تتفوق فيه الولايات المتحدة حتى الآن).

وفيما بين عامي 2014 و2018 أنزلت الصين إلى المياه عدد سفن أكبر من مجموع ما لدى ألمانيا والهند وإسبانيا وبريطانيا مجتمعة، ويعد الأسطول البحري الصيني أداة رئيسية لفرض هيمنة بكين ومنافسة الولايات المتحدة في البحار الإقليمية المحيطة بالصين، ولاحقا في المياه البعيدة منها إذا لزم الأمر.

إعلان

وبالتزامن، شرعت الصين في تقوية سلاحها الجوي بما يخدم الغرض ذاته. فمثلا تشير التقديرات إلى أن مدى الطائرة "إتش-20″، وهي قاذفة صينية يعتقد أنها ستصدر خلال سنوات قليلة، يبلغ حوالي 8500 كلم، ومن المتوقع أن تسع القاذفة حمولة لا تقل عن 10 أطنان، تستوعب الأسلحة التقليدية والنووية.

وفي ضوء ذلك، سيعزز إدخال القاذفة بشكل كبير مدى الصين الإستراتيجي؛ مما يسمح لها بتهديد أهداف داخل وخارج سلسلة الجزر الثانية، بما فيها القواعد العسكرية الأميركية الرئيسية في غوام وهاواي.

والواقع أن ذلك كان دائما هدف الصين، سواء أثناء تطويرها للقوة البحرية المتنامية أو ترسانتها الصاروخية بما في ذلك الصواريخ الفرط صوتية، وأحدثها "دونغ فينغ-27″، وهو الأخير ضمن سلسلة صواريخ تحمل الاسم نفسه الذي يعني "رياح الشرق"، ويُعتقد أن مداه يقترب من 8000 كلم، وهو مدى الصواريخ الباليستية العابرة للقارات.

الصاروخ الصيني الفرط صوتي "دونغ فينغ -26" (أسوشيتد برس)

وقد ذكر تقرير صيني تسرب في فبراير/شباط 2023، أن هذا الصاروخ مُصمَّم لتعزيز قدرة الصين على الإبقاء على أهداف أميركية معرضة للخطر خارج سلسلة الجزر الثانية، التي تمثل الحدود البحرية الشرقية لبحر الفلبين، وتمتد بشكل شبه خطي من جزر بونين اليابانية وجزر البركان، مرورا بجزر ماريانا وكارولين الغربية وصولا إلى غرب غينيا الجديدة.

تعد الصواريخ الصينية تحديدا مصدر خطر كبير لأنها ببساطة يمكن أن تغير قواعد اللعبة تماما، فهذه الصواريخ، إلى جانب أنظمة المراقبة والاستهداف المحدثة، ستسمح للصين بمهاجمة حاملات الطائرات الأميركية أو سفن حلفائها الضخمة في غرب المحيط الهادي. كما تمكن الصواريخ بكين من فرص إستراتيجية "حظر الوصول" التي تعني منع منافسيها وفي مقدمتهم الولايات المتحدة من نشر قطعهم في مناطق الصراع منذ البداية.

إعلان

تركز الصين حاليا على استخدام صواريخها الباليستية المضادة للسفن، وغيرها مثل صواريخ كروز للدفاع الجوي، وسفنها المتنوعة خاصة النماذج المحدثة جدا من المقاتلات السطحية والسفن البرمائية وأنظمة المراقبة البحرية الخاصة بها، في بناء منطقة حظر وصول صارمة تمتد إلى حدود "سلسلة الجزر الأولى"، وهي أول مجموعة من الأرخبيلات في المحيط الهادي التي تقابل شرقي آسيا، وتبدأ من شمالي إندونيسيا لتمر بالفلبين وصولا إلى اليابان.

وبهذه الوتيرة، يعتقد الخبراء أن الصين ستتمكن بحلول عام 2030 من إحكام السيطرة على هذه المنطقة، وستتحرك سفن البحرية الصينية فيها بحرية تامة، وستُمنع القوات الأجنبية أيًّا كانت من التصرف بحرية فيها.

تصادم حتمي؟

منذ عام 2008 لم تقترب أية حاملة طائرات أميركية بالفعل من جزيرة تايوان. يعطينا ذلك لمحة إضافية عن خطط الصين البحرية، فعلى الرغم من أن قدراتها أقل من الولايات المتحدة حتى الآن، فإنها تمتلك نقطة تميز واضحة وهي "محدودية الأهداف".

خريطة الصين (الجزيرة)

ففي حين أن قطع البحرية الأميركية تنتشر في كل العالم تقريبا، تركز الصين حتى الآن على هدف واحد هو السيطرة على المياه الدولية المحيطة بها، التي تعتبرها، بشكل أو بآخر، باحتها الخلفية.

غير أن بكين لن تتمكن من تحقيق مراميها في السيطرة الإقليمية، التي تكفل تحقيق الهدف النهائي للدولة (أي دولة) في النظام الدولي وهو الأمن، إلا بالصدام مع الولايات المتحدة التي تفرض عليها حصارا في محيطها الإقليمي.

وبمجرد أن يتسنّى لها فعل ذلك يمكننا توقع ما سيحدث لاحقا: انتشار واسع على مختلف المسارح العالمية ثم منافسة للولايات المتحدة في باحتها الخاصة كما تقول نبوءة ميرشايمر.

تعد تلك وصفة مضمونة لحرب مدمرة، حتى من منظور الواقعيين القدامى من أمثال ثوقيديدس الذين وصفوا تلك النزعة الواضحة للحرب عندما تشعر قوة عظمى بالتهديد من قبل قوة جديدة صاعدة، بما يعني أن مستقبل العالم كله ربما يتوقف على طبيعة الخيارات التي يتخذها القادة الأميركيون والصينيون خلال السنوات القادمة.

إعلان

ومع ذلك فإن هناك من يقللون من ذلك الاحتمال ويجادلون بأن نظرية ميرشايمر تبالغ في التعويل على القدرات العسكرية وتتجاهل الطرق الأخرى التي يمكن من خلالها للدول أن يمارس بعضها الضغوط على بعض.

تفشل نظرية ميرشايمر كذلك في اعتبار احتمال أن الصين ربما تسعى للالتفاف على الوجود الأميركي مستغلة عامل الزمن دون الدخول في صدام مباشر، حيث ستعمل على تعظيم قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية وتستمر في اتباع مقاربة دفاعية خاصة في محيط إقليمي مليء بالكبار أمثال الهند واليابان وبدرجة أقل إندونيسيا.

كما أن الردع النووي قد يؤدي الدور الكابح الذي مارسه إبان الحرب الباردة، بالنظر إلى امتلاك كل من واشنطن وبكين أسلحة دمار شامل.

في النهاية، إذا تمكنت الصين من تعظيم قدراتها خلال العقود المقبلة من خلال تفادي الصدام مع الولايات المتحدة فلربما ينشأ نظام عالمي جديد ثنائي القطب شبيه بالحقبة السوفياتية، وهو ما يعني عالما أكثر استقرارا وإن بشكل نسبي.

أما إذا تحققت نبوءة ميرشايمر ووقع الصدام "الحتمي" فإننا سوف نودع العالم الذي نعرفه إلى الأبد.

مقالات مشابهة

  • رئيس جامعة كفر الشيخ يترأس لجنة اختيار عميد كلية الصيدلة
  • الدول العربية الأكثر ضرراً من الرسوم الجمركية الأميركية
  • نبوءة ميرشايمر.. هل اقتربت الحرب المدمرة بين أميركا والصين؟
  • رئيس جامعة كفر الشيخ يترأس لجنة اختيار عميد كلية الصيدلة بالجامعة
  • الجامعة العربية تعلن عن إطلاق المؤتمر الدولي لمكافحة كراهية الإسلام
  • نيابة عن خادم الحرمين وأمام ولي العهد.. السفراء المعينون حديثاً لدى عدد من الدول يؤدون القسم
  • رئيس الوزراء يترأس اجتماع مجلس إدارة وكالة الفضاء المصرية
  • جامعة الدول العربية تنظم مؤتمرًا دوليًا لمكافحة كراهية الإسلام
  • الاتحاد الأوروبي يمدد العقوبات على روسيا
  • قمة طرابلس.. تنسيق إقليمي في مواجهة التحديات الأمنية والتنافس الدولي