العُمدة والأسطى والمثقَّف: كيف فعلها صلاح السعدني؟
تاريخ النشر: 16th, May 2024 GMT
ذات يومٍ في مَطلع عام 1989م، وكنتُ قد جاوزتُ السادسة من عُمري بقليلٍ، ذهبتُ رفقة والدَيَّ للمرّة الوحيدة في حياتي إلى السينما، وكان ذلك بموجب دعوةٍ تلقّاها أبي لحُضور افتتتاح دار خَيَالة "نيو ستار" بمنطقة السيدة زينب، وعَرض فِلم "صراع الأحفاد" من تأليف كرم النجّار وإخراج عبد اللطيف زكي وبطولة نور الشريف وصلاح السعدني ونورا.
كانت هذه خبرتي الأولى بحُضور فِلمٍ داخل قاعة عرضٍ سينمائيٍّ، وخبرتي الأولى – من خلال أبي – بتأويل النصّ الفِلميّ بوَصفِه حكايةً رمزيّةً، ولقائي الأوّل مع صورة المثقَّف على الشاشة من خلال المرحوم الفنان الكبير صلاح السعدني. جسَّد فناننا الراحل في هذا الفِلم شخصية كاتبٍ مسرحيٍّ مهمومٍ بالقضايا الكبرى، يحوِّل مأساتَه العائليّة ولُغز وصيّة جَدّه بأن يرثه أنجحُ أحفادِه إلى مسرحيّةٍ مفعَمةٍ بالتساؤلات، ويُحبطه الواقع الثقافي المتردّي وتناوُل المُخرج -الذي جسّدَه السيد راضي- لنَصّه على نحوٍ هَزليٍّ لتحقيق إيرادٍ عالٍ على حساب القيمة. ورغم بقاء لوازم نور الشريف المرتبطة بدَوره في الذاكرة الجَمعية المصرية، وفي ذاكرتي بالتبَعية، إلا أنّ ما صاحبَني إلى الآن من الفِلم هو شخصية الكاتب (بُرهان نوح) التي أدّاها السعدني، تلك التي تعودُني تلقائيًّا كلّما اختمرَت في رأسي فكرةٌ مسرحيةٌ وهمَمتُ بالعُكوف على تنفيذها، حتى إنني أذكرُ أنني ذاتَ يومٍ منذ عشرة أعوامٍ كنتُ منهمكًا في كتابة ثاني نصٍّ مسرحيٍّ لي، وأغفيتُ، ورأيتُ في المنام أحدَ مَشاهد مسرحيّتي يُجسَّد على نحوٍ هزليٍّ على خشبة المسرح، على النَّحو المؤرِّق نفسِه الذي أزعجَ برهانًا/ السعدني في "صراع الأحفاد"، وإن كان أثرُه إضحاكيًّا في حالتي.
والأمرُ اللافتُ في مُنجز السعدني التمثيليّ أنّه ربما يكون واحدًا من أكثر من جسّدوا دور المثقَّف في الدراما المتلفَزة والسينما المصريتين، فهو الكاتب المسرحي في "صراع الأحفاد"، وهو المثقّف الماركسيُّ المُناضل في "فوزية البرجوازية"، وهو مدرِّس التاريخ المخلِص (نصر وهدان القط) الذي يكتشف مكان مقبرة الإسكندر الأكبر من خلال مخطوطةٍ في مسلسل "حلم الجنوبي"، وهو المهلهِل بن ربيعة في "ملحمة الحُبّ والرحيل"، وهو موظَّف الأوبرا الذي ينجذب تدريجيًّا إلى الموسيقى الكلاسيكية فيتمرّد على مجتمعه في "كونشرتو في درب سعادة"، وهو العالِم الطبيعيّ العبقريّ (عزيز محفوظ) في "الأصدقاء"، وهو الحسيني رضوان المثقّف المهتمّ بقضايا مجتمعه على خلفيّة العولمة في "رجُل في زمن العَولَمة"، وحتى في دور "كمال" في فِلم "انحراف" الذي يؤدي فيه شخصية ميكانيكيٍّ، نكتشف أنه ميكانيكيٌّ مثقَّفٌ مرهَف الحسّ على نحوٍ استثنائيّ.
وبقراءةٍ سريعةٍ للأدوار التي جسّدها في مسلسلاته الأخيرة، نرى بوضوحٍ أنها تَميل إلى شخصيّة الرجُل المَهيب المرهوب الجانب الذي لا يخلو من نوازع شرّيرةٍ، والذي يصاحبه الزيُّ البلديُّ المصريُّ دائمًا، فهكذا يظهر في "القاصرات" و"الإخوة الأعداء" و"الباطنية" و"وجع البعاد" و"أهل الدنيا"، وصولًا إلى شخصية (نسيم) التي جسّدها في مسلسل "شارع المواردي" بجُزءيه بين عامَي 90 و95.
وصحيحٌ أنّ السعدني قد جسّد بخلاف هذه الأدوار شخصيّاتٍ أخرى مختلِفةً جذريًّا، فتاريخ الرجُل على الشاشة وعلى المسرح يبدأ منذ ما قبل منتصف الستينات، وحتى في العَقدين الأخيرين من حياته الفنّيّة خرجَ عن هذين القالَبَين، ومازال صوتُه يتردّد في وعيي، معادلًا لآخِر مسلسلٍ إذاعيٍّ تابعتُه، وكان اسمُه "قارئ الفنجان"، وكان هو البطل الدجّال الذي لا يخلو من سذاجةٍ مضحكةٍ، إذ كان يغنّي أغنية نهاية الحلقة التي تنبعث من المذياع بعد الإفطار كلَّ ليلةٍ في رمضان منذ قرابة عشرين عامًا، قائلًا بصوتِه الحبيب إلى النفس، الأجَشّ بحُكم إقبالِه المعروف على التدخين: "شخلل جيبك شخاليل. تلقى الفنجان قَوِّيل. أخرس لو كنت بخيل. ومقَربَط عَ الجنيهات هات هات هات جنيهات!" ناطقًا القاف فصيحةً (واسعةَ النِّطاق) – على حدِّ تعبير أمير الشعراء أحمد شوقي في قصيدته بلسان صديقه محجوب ثابت – في سياقٍ فكاهيٍّ هزليٍّ مرِح.
غير أنني أزعم أنّ لهذين التنويعَين السالفَي الذكر – أعني التنويع على شخصية المثقَّف والتنويع على شخصيّة المَهيب الشرّير – دلالةً، أرجو أن أكون موفَّقًا في النّفاذ إليها. وهي دلالةٌ مرتبطةٌ بما هو معروفٌ لجمهور السعدني من خلال لقاءاته المتَلفَزة، وما هو واضحٌ للعِيان. فالمعروف أنّه كان قارئًا مثقَّفًا في الحقيقة، تربّى في حلقات نِقاش المثقَّفين الكِبار، رُفقة شقيقه الأكبر الكاتب الكبير المرحوم محمود السعدني، ومَن يتابع حِواراته الإعلاميّة يجد متحدّثًا لبقًا لا يَعدَم الفكرة ولا تُعوِزه أدواتُ التعبير عنها بعامّيّةٍ متفصّحةٍ، تتخللها فِقراتٌ وأسطرٌ كاملةٌ من الفصحى المعيارية، وتُسعفه حافظتُه الشِّعريّة بأبياتٍ يستشهد بها على ما يريدُ قولَه بين حينٍ وآخَر. ولعلّ في لقاءَيه مع الإعلاميَّين الكبيرَين نجيب الخطّاب التونسي، ومروان صوّاف السوريّ، وفي لقائه مع صديقه الفنان الكبير نور الشريف أمثلةً واضحةً على ما ندّعيه.
وأزعمُ أنّ التنويع على شخصيّة المثقّف يعبِّر عن قَناعةٍ متبادَلةٍ بين فناننا الراحل ومَن تعامل معهم من المُخرجين، بأنّه حين يجسّد مِثل هذا الدَّور فإنما يكون في أرضه، بل في جِلدِه الذي لا يفارقُه، فهو في شخصية المثقَّف يتحرّك ويتكلّم ببساطةٍ كما يتكلّم في أحواله الطبيعية، غير متكلِّفٍ نسقًا سلوكيًّا أو لفظيًّا غريبًا عليه.
أمّا التنويع على شخصيّة المَهيب الشرّير فأظنُّ بواعثَه تعود إلى خصائصه الجسديّة في مراحله العُمرية الأخيرة، بحُكم مَيله إلى البدانة وغِلَظ صوته، ما يوحي تلقائيًّا بأننا أمام رجُلٍ باطش اليد، اعتادَ إلقاء الأوامر وألّا يعارضَه أحد. فهو في ذلك يتحرّك ويتكلم بالبساطة نفسِها التي تحدثنا عنها، وإن يكُن قد نحّى فيها جانبًا مُعجَم المثقَّفين وطرائقهم في التعبير.
لكنني أتأمّل هذه البساطة الآن، فأقع على سرّ تردُّدي في كتابة هذا المَقال، إذ شرَعتُ في كتابته بعد أن اقتُرح عليَّ ورحَّبتُ به لحبّي الجارف لصلاح السعدني، لكنّي وجدتُ أنّني متى طرقتُ بابًا للحديث عنه أُرتِجَ علَيَّ، فلا مهرب من الحديث عن العُمدة سليمان غانم في "ليالي الحلمية" و"حسن أرابيسك" في "أرابيسك"، أشهر دورَين للسعدنيّ عرَبيًّا بلا مُنازع! وكان ذلك يقودُني إلى نتيجةٍ مُفادُها أنّ ما سأقولُه مكرَّرٌ بالضرورة ويعرفه الجميع مسبَّقا! فلماذا كان ذلك؟!
أظنُّني مررتُ بذاكرتي على ما شاهدتُه من أدوار السعدني بخلاف هذين الدورَين، فوجدتُ أداءه فيها بسيطًا منسابًا كالماء الجاري، كأنه فعلًا لم يبذل جهدًا في رسمها على النحو الذي خرجَت به! فماذا يمكنني أن أقول عن البساطة؟
أهرب إلى كتاب "التمثيل للسينما والتليفزيون" للممثِّل الأمريكيّ وأستاذ التمثيل توني بار Tony Barr الذي ترجمَه أستاذنا أحمد الحضريّ في مَطلع التسعينات، فأجد تقديمًا بقلم الممثِّل إدوارد آسنر Edward Asner يقول فيه: "وعندما كان سير جون غيلغود John Gielgud يمثّل في مسرحية "الأعمال السبعة للإنسان" Ages of Man سأله أحدُهم عمّا هو أصعب شيءٍ في التمثيل، فأجاب: أن أجعلَه يبدو بسيطا". ثمّ أوغِل في الفصل الأول بقلم المؤلِّف فأجده يتحدث عن نهاية الثلاثينات في هوليوود فيقول: "وتطلَّبَت الكتابةُ الجيّدة تمثيلًا أفضل من المؤدّين، وأصبحَت الأفلام تضمُّ نجومًا مثل هنري فوندا وجيمس ستيوارت وكلارك غيبل ووو....، ممثِّلين ممتازين يعملون ببساطةٍ وإخلاصٍ، يُبرزون صفاتِهم الشخصية في العمل أكثر ممّا يحاولون أن يصبحوا شخصيّاتٍ أخرى."
هنا أدركتُ أنّ ما جعلني أكُفُّ قلمي في المرّة الأولى هو شعوري بهذه البساطة الطاغية. وتقفز إلى ذهني استنتاجاتٌ ربما أكون متعجّلًا فيها، لكنّي لا أستطيع إلا أن أُثبِتها. منها أنّ إقلال صلاح السعدني من العمل المسرحيّ – بعد بدايته التي كانت بطبيعة الأمور مسرحيّةً – قد يعود في جزءٍ منه إلى أنّ التمثيل المسرحيّ ينطوي ضرورةً على قَدرٍ من المبالَغة في الاستجابات ورُدود الفعل والأداء، ما قد لا تُسيغُه ذائقتُه الفنية ولا طبيعتُه الإنسانية. ومنها كذلك إقلالُه من المشارَكة في الأعمال الدرامية الناطقة بالفصحى، رغم ما أتصوّرُه من إتقانِه إيّاها، ربما لأنها لا تتوافَق وما كان يحبِّذه من أن يتكلّم على طبيعته، بعامّيّةٍ متفصّحةٍ، تتخللها الفصحى بين الفينة والفينة، دون تكلُّفٍ ودون استعراض.
هكذا، يَبرز دور (سليمان غانم) من بين أدواره، خارجًا على مألوفها وبساطة أدائه فيها، فقد حشدَ لهذه الشخصية سِجِلًّا عريضًا من اللوازم والمبالَغات المحسوبة التي حفرَتها في الذاكرة العربيّة الجَمعيّة، وخرجَ بها في بعض اللحظات إلى فنّ الصورة الهزلية (الكاريكاتير) المجسَّدة، أو إلى المسرح داخل المحترَف التلفازيّ. ويَبرز كذلك دور (حسن أرابيسك) على نحوٍ أوفرَ حظًّا من الإنسانيّة، بمجموعةٍ من الإزاحات الأدائيّة التي قام بها السعدني، لا ليَخرُج من جِلدِه الذي يستريح فيه، وإنما ليبدل فيه بعض العلامات، فالجوهر واحدٌ في شخصيات حسن أرابيسك وبرهان نوح والحسيني رضوان ومنصور وهدان القط. إنه جوهرُ المصري العربي الأصيل الذي يَحمل همّ مجتمعه، وقد تُثقلُه أخطاؤه فيَسقط تحت نَيرها، لكنه لا يلبث أن يستعيد توازُنَه لينهض مُجدَّدا.
لكنّ العلامات مختلِفةٌ، فقاموس حسن أرابيسك متخفِّفٌ من مفردات المثقَّفين بعامّةٍ، وحركاتُه وإيماءاتُه ونظراتُ عينيه فيها آثارٌ لا تُجحَد من بيئته الشعبيّة وإدمانه الحشيش وغير ذلك من المؤثِّرات.
وأخيرًا، فالمؤكَّد أنّ ما تركه صلاح السعدني –رحمه الله- من بصماتٍ في دفتر الدراما العربية لا يُمحى، وليس هذا المقال القصير إلا محاولةً متواضعةً لمناهَزة منجَزه الضخم.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي تقارير صلاح السعدني المصرية المسرح مصر المثقف المسرح صلاح السعدني سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة صلاح السعدنی حسن أرابیسک من خلال على نحو شخصی ة من الم الذی ی
إقرأ أيضاً:
ما الذي تفتقده صحافتنا اليوم؟
د. يوسف الشامسي **
لربما يُوحي طرح السؤال بهذه الصيغة أني بصدد تقييم مُفصَّل للموضوع بناءً على تصوُّر معياري حول الصحافة ودورها، وبالتالي يمكن تحديد المفقود بالتعرّض للموجود؛ لكن الاستماع لأصوات الصحفيين والمختصّين بالشأن الإعلامي اليوم قد يجعلني أعيد التساؤل السالف ذكره بتساؤل لا يخلو من مفارقة ساخرة بلسان ذوي الشأن أنفسهم: ما الذي لم تعُد تفتقده صحافتنا اليوم؟!
أزعمُ أنَّ النقاش في هذا السياق لا يستدعي بحثًا وتحليلا معمقًا؛ بل مجرد الاستماع لذوي الاختصاص من جهة ووجود إرادة حقيقية من قبل الجهات المسؤولة من الجهة الأخرى كفيل بإعادة إنعاش هذا القطاع ليتبوأ دوره المؤمل في العلاقة بين المجتمع والسياسة، وسأكتفي باختزال الإجابة في مفقودَيْن اثنيْن جديرَيْنِ بدفع صحافتنا المحلية لمسارها المنشود، وأجزم أن أغلب المهتمين بهذا الحقل يجمعون على هذين المطلبين: مزيدًا من الحماية القانونية والتمكين، ومزيدًا من الدعم المادي والتحفيز.
تُعد الصحافة أداة حيوية لتعزيز الحوكمة، والتماسك الاجتماعي، والمشاركة العامة، وتمكين الفئات الأقل حظًا في المجتمع، ولئن كانت مهمة الصحافة وجوهرها "نقل الحقيقة"، فإن ذلك لن يتأتى إلّا عبر بوابة الحرية، في مناخٍ ضامن لأمن الصحفي وأحقيّته في الوصول للمعلومة الصحيحة والتحقق منها، لذلك وقبل كل شيء، صحافتنا بحاجة إلى قوانين تدعم الشفافية والتمكين لاستقصاء المعلومات ومراقبة الجهات المُرتبطة بمصالح المواطنين. وغياب قانون حق الحصول على المعلومات هو حكم على الصحافة بالبقاء تحت وصاية الجهات الرسمية وغير الرسمية لتزويدها بالمعلومة، وبالتالي تضعف جودة التغطية الإعلامية وتغيب التنافسية بين المؤسسات الصحفية، ناهيك عن المخاطر القانونية التي قد تورِّط الصحفي جراء نشره معلومة ما دون إذن من الجهات الرسمية نتيجة لغياب قانون ينظّم له ذلك الحق. ورغم إقرار قانون الإعلام الصادر قبل أشهر- والذي ما يزال يثير تساؤلات المختصين- بهذا الحق في مادته الثالثة، إلّا أنه يظل قاصرًا عن منح الصلاحيات الكاملة للصحفي لينطلق بحرية في ميدانه. ولعلَّه من الجدير أن أشير هنا لجهود مجلس الشورى وطرحه لمقترح مشروع قانون حق الحصول على المعلومات قبل قرابة عقد من الزمن؛ ولكن لا أدري إذا ما سقط المقترح خلال دورته التشريعية آنذاك، أو أنه ما يزال يراوح مكانه في أروقة المجلس.
ولسنا بحاجة للوقوف كثيرًا حول أهمية هذا القانون؛ إذ يكفي أنه يعمل بمبدأ تعزيز الثقة وحُسن الظن في القائم على الرسالة الإعلامية، عكس تلك القوانين التي تحدّه بالعقوبات وتُكرِّس مبدأ سوء الظن في الصحفي، فيقبع يستظهر النصوص القانونية خوفًا من الوقوع في شيء من المحظورات، ويتجنب- من ثمّ- تغطية القضايا التي قد تشغل الرأي العام هروبًا من كل ما قد يأتيه بتبعات ومساءلة.
اليوم.. ثلاثة أرباع دول العالم تبنَّت قانون الحصول على المعلومات، 50% من هذه الدول أقرّت القانون فقط خلال العشر سنوات الماضية، لذلك لا ينبغي أن نتأخر كثيرًا عن الركب، خصوصًا وأن مثل هذه القوانين ذات تأثير مباشر على الأداء في مختلف المؤشرات الدولية. فليس بغريب أن نجد أغلب دول المنطقة العربية اليوم- وللأسف- مُصنَّفة في مراتب مُتدنية في مؤشرات حرية التعبير والصحافة العالمية، كتقرير "مراسلون بلا حدود"، و"بيت الحرية"، وغيرها. هنالك بالطبع من يُشكِّك في نزاهة هذه المؤشرات ويعيب مثل هذه التقارير الدولية بحُجة أنها ذات نزعة غربية تُحابي دول "المركز" في تقييمها وتُهمِّش "الهامش"، وهذا جزئيًا لا يُمكن إنكاره؛ كما لا يصحّ قبوله بالمُطلق؛ فبعض المؤسسات إذا ما تقدمت في أحد المؤشرات الدولية أذاعت بذلك في كل محفل، وإن تراجعت في التصنيفات انتقدتْ التقارير ورمتها بالتحيز وما شاءت من التّهم!
وللإنصاف، علينا أن نتساءل: هل صحافتنا اليوم أفضل حالًا مما كانت عليه قبل عقدين أو ثلاثة عقود؟ هل فعلًا نستحق ترتيبًا أفضل؟ وهل توجد مؤشرات وطنية أو إقليمية لنعتمدها فيما يخص حرية الصحافة في بلداننا؟ هل تقدّمنا فيها؟ وهل يعتدّ بها لدى المكتب الوطني للتنافسية؟ هذه التساؤلات ضرورية قبل انتقاد التقارير "الغربية" خاصة بعدما أضحت هذه المؤشرات الدولية شريطًا متريًا بخارطة مستقبل عمان لقياس مدى تقدمنا في مستهدفات رؤية "عُمان 2040".
وتفتقد المؤسسات الصحفية اليوم للدعم المادي، وهذا ما ليس يخفى على المهتمين، فضلًا عن العاملين بهذا القطاع، فأغلب المؤسسات الصحفية قائمة على الدعم الحكومي والإعلانات، واليوم وفق تعبير رئيس جمعية الصحفيين العُمانية، فإن أغلب الصحف الخاصة "تحتضر"، وبالتالي سيفقد المجال العام منابر ضرورية وُضِعَت لتُسهم في تحريك المناخ الثقافي والسياسي وذلك بخلق تعدُّدية في الآراء عند معالجة قضايا الشأن العام.
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإنَّ الكثير من العاملين في هذا القطاع يشكون ضعف المُحفِّزات المادية للبقاء فيه، ناهيك عن غياب النظرة التكاملية بين المُخرجات وسوق العمل. وعلى المعنيين بسياسات هذا القطاع دراسة هذه القضية بشفافية والتساؤل: ما تأثير غياب الدعم المادي المُستدام على جودة المحتوى الصحفي واستقلاليته؟ وإلى أي مدى يعكس سوق العمل احتياجاته الفعلية في عدد الخريجين الجدد من كليات الإعلام والصحافة بالسلطنة؟ وما السياسات التي يُمكن أن تُعتمد للحد من الفجوة بين المخرجات الإعلامية وسوق العمل؟ أيضًا كيف يمكن مُعالجة الفجوة بين الجنسين في فرص العمل داخل المؤسسات الصحفية؟ وأخيرًا هل هناك تجارب ناجحة في دول أخرى يمكن الاستفادة منها لدعم المؤسسات الصحفية الخاصة؟
هذه التحديات لربما باتت مصيرية وستتطلب إصلاحات جذرية إن تأخرنا في مُعالجتها؛ فبدون بيئة قانونية داعمة، وتمكين اقتصادي يحفظ للمؤسسات الصحفية استقلالها واستدامتها، سيظل هذا القطاع يُعاني من التراجع والقيود.
إنَّ تعزيز حرية الوصول إلى المعلومات، وزيادة التحفيز والدعم للمؤسسات الصحفية الخاصة، أصبحا من الضرورات لضمان دور الصحافة في تحقيق أهداف التنمية وتعزيز الحوكمة. فهل سنشهد تحركًا جادًا لإعادة إنعاش هذا القطاع وتمكينه، أم ستظل هذه المطالب مجرد أصوات في مهب الريح؟
** أكاديمي بقسم الاتصال الجماهيري- جامعة التقنية والعلوم التطبيقية في نزوى