سودانايل:
2025-02-08@16:37:34 GMT

السودان في مهبّ حربٍ شاملة

تاريخ النشر: 16th, May 2024 GMT

عائشة البصري

يعيش السودان على وقع معارك مشتعلة على عدة جبهات من الخرطوم وأم درمان إلى دارفور وكردفان. عقب معركة طاحنة في ولاية شمال كردفان، وسط البلاد، سقط خلالها مئات من مقاتلي الجيش وقوات الدعم السريع في السادس من مايو/ أيار الجاري، قال قائد الجيش السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، إنه "لا مفاوضات ولا سلام ولا وقف إطلاق نار إلا بعد دحر قوات الدعم السريع والخلاص منها".

اختزال الحرب في مواجهة بين الجيش و"الدعم السريع" تشخيص خاطئ، بل ومضلّل، فقد تجاوزت الحرب الطرفين بعدما أقحما فيها قبائل بأكملها وحركات مسلحة ومليشيات قبلية وأخرى جهادية، حتى أصبح الحديث عن القضاء على "الدعم السريع" يعني حتما شن حرب أهلية ضد حواضن قواته القبلية، خاصة في دارفور وشمال كردفان. ولربما هذا ما قصده الفريق أول ياسر العطا بقوله إن الجيش لن يركع لـ"قوى الشر" و"عرب الشتات" حتى لو استشهد 48 مليون سوداني، في إشارة إلى التضحية بالشعب السوداني بأكمله من أجل القضاء على "الدعم السريع".

تتّضح في إقليم دارفور صورة تعقيدات هذه الحرب. وفي مدينة الفاشر تحديدا، عاصمة شمال دارفور، يحبس اليوم أزيد من 1.5 مليون مدني أنفاسهم أمام الحصار الذي يفرضه عليهم تحالف يضم آلافاً من مقاتلي الدعم السريع وقبائل عربية مدجّجة بالسلاح تتأهب لاجتياح المدينة لاستكمال السيطرة على آخر ولايات دارفور الخمس، وأكبرها. يجد المدنّيون أنفسهم محاصرين مرّة أخرى بين مطرقة تحالف الدعم السريع وسندان تحالف الجيش مع حركات مسلحة ومليشيا "مجلس الصحوة الثوري" وقبائل غير عربية تستعد بدورها داخل المدينة لمنع سقوطها الذي قد يسقط معه الجيش وحلفاؤه.

في تقرير صدر عن فريق الخبراء المعني بالسودان في 15 يناير/ كانون الثاني 2024 (S/2024/65)، عملاً بقرار مجلس الأمن 1591 لعام 2005، القاضي بمراقبة حظر الأسلحة في دارفور، رصد الخبراء ما سمّوها "ملشنة" القبائل عبر تسليح أبنائها وتجنيدهم على أساس "عرقي" من القوات المسلحة والدعم السريع في دارفور. ولكن تسليح المجتمع السوداني ليس أمراً جديداً، بل يقترن بعقود من تفويض قادة الدولة ممارسة العنف الشرعي إلى مواطنين ومليشيات أنشأوها على أساس إثني أو أيديولوجي، ورعوها حتى تغوّلت (أقواها الدعم السريع)، على الدولة ذاتها، فإذا كان وجود الدولة، بحسب عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، يقترن، في جوهره، باحتكار أجهزتها استخدام القوة الشرعية في منطقة ما، فقد بدأت الدولة السودانية في التآكل في مطلع الثمانينيات، حين زرعت حكومة جعفر النميري بذور تسليح القبائل العربية بتسليحها قبيلة المسيرية (المراحيل)، بدعوى حماية ماشيتهم خلال ترحالهم شمالاً وجنوباً، وتواصل تسليح المواطنين للدفاع عن أنفسهم ضد هجمات الحركة الشعبية مع حكومة الصادق المهدي، إلا أن تسليح القبائل العربية تحوّل في عهد عمر البشير إلى استراتيجية تقوم على تجنيد المليشيات على أساس انتمائها القبلي والعرقي والأيديولوجي لخوض حروب بالوكالة ضد المواطنين (المتردّدين)، على نحو انتهى بإضعاف الجيش النظامي، حتى أصبح جيشاً بلا مشاة، وتغوّلت مليشيا الدعم السريع على القوات المسلحة والدولة بعد أن أصبحت جيشاً موازياً.

لم تتعظ المؤسّسة العسكرية من عواقب ملشنتها المجتمع التي تسبّبت في حروب أهلية لا نهاية لها طوال حكمٍ ما زال يدوم منذ أزيد من نصف قرن، فيما لم يتعدَّ الحكم المدني عشر سنوات. ويؤكّد تقرير الخبراء أنه منذ ظهور توترات بين الجيش والدعم السريع في مطلع 2023، جنّد الجيش آلاف المقاتلين من قبائل الزغاوة والفور والمساليت والبرتي غير العربية لتدافع عن نفسها "ضمنيا ضد العرب والدعم السريع". وأعلنت حركة تحرير السودان فصيل مني مناوي، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، انحيازهما أيضا للجيش في تطوّر اعتبره كثيرون دفاعا عن قبيلة الزغاوة التي تتحدر منها الحركتان اللتان لم تحرّكا ساكنا حين كانت قوات "الدعم السريع" ترتكب أبشع المجازر في مدينتي الجنينة وزالنجي ضد أبناء قبيلة المساليت غير العربية. وفي حشد قبلي آخر، أعلن رئيس "مجلس شورى قبيلة الزغاوة" صالح عبد الله أحمد بحر الانضمام إلى الجيش، داعيا أبناء قبيلته إلى "دحر مرتزقة عرب الشتات" ضد من سماهم "الخونة والمحتلين". وانتشار مثل هذا الخطاب الذي يصوّر الصراع حرباً بين العربي "الدخيل" والسوداني "الأصيل"، مؤشّر خطير إلى خروج الحرب من دائرة القتال بين الجيش و"الدعم السريع" إلى اقتتال قبلي على أساس إثني.

اللافت أيضا أن تحالف الجيش مع قبائل غير عربية لقّبت بـ"الزرقة"، في وصف تمييزي يشير إلى شدّة سواد بشرة أبنائها، يبدو "غير طبيعي" بالنظر إلى تحالف الحكومات التي تعاقبت على السودان منذ الثمانينيات مع قبائل عربية بالأساس في حروب "التمرّد" التي خاضتها في جنوب السودان، وجبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور ضد "الزرقة" ذاتهم؛ حروب كانت في الواقع انتفاضات مواطنين سودانيين غير عرب ضد حكم مركزي همّشهم وجعل السلطة وموارد البلاد حكرا على نخب متحدرة من قبائل حوض النيل العربية. اليوم تشهد ولايات دارفور وكردفان تأجيج نعرات إثنية وحفر جروح حروبٍ لم تلتئم بعد، ليتحالف الجيش مع خصوم الأمس ضد حليفه التقليدي، عرب الغرب.

منذ مطلع 2023، يسعى الجيش، بقيادة البرهان، وراء جميع أنواع التحالفات التي بإمكانها هزم خصمه الجديد، مع تركيزه على خصوم "الدعم السريع" من جهة، وشقّ صف تحالف القبائل العربية الداعمة للأخيرة من جهة أخرى. فبحسب تقرير فريق الخبراء ذاته، حاول الجيش إعادة إحياء "حرس الحدود"، وهذا اسم تلطيفي يطلق على مليشيا الجنجويد التي نسب إليها قرار مجلس الأمن رقم 1556 في عام 2004 ارتكاب أبشع الجرائم ضد المدنيين غير العرب، وأمهل الحكومة 30 يوما لنزع سلاح هذه المليشيا ومحاكمة قادتها. ظل القرار حبرا على ورق بينما أعادت الخرطوم تدوير المليشيا واستوعبت عددا من أفرادها لإنشاء "قوات الدعم السريع" بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، أحد مقاتلي الجنجويد.

ولإحداث انقسام داخل قبيلة الرزيقات المتحالفة مع "الدعم السريع"، عمل الجيش أيضا على ضمان انضمام موسى هلال، ابن عم حميدتي وألدّ أعدائه، قائد مليشيا الجنجويد ومؤسّسها، وزعيم "مجلس الصحوة الثوري" حاليا، مستغلا رغبة هلال في الانتقام من حميدتي الذي أطاحه عند اقتحام قوات الأخير مقرّ إقامته في شمال دارفور في عام 2017، متسبّبا في مقتل نجله وعدد من أنصاره وترحيله مكبّلا بالسلاسل إلى الخرطوم التي قضى في أحد سجونها حوالي أربع سنوات، قبل الافراج عنه في 2021. وبالإضافة إلى شقّ صفّ "الرزيقات"، نجح الجيش في إحداث انقسام داخل أبناء عمومتهم في قبيلة المسيرية، التي تعتبر ثاني أكبر مكوّن في قوات الدعم السريع، وقبيلة الفلاتة التي أصبح أبناؤها يحاربون بعضهم بعضاً في ما يمكن اعتباره أكبر حرب قبلية يشهدها السودان.

أما عن الحشد القبلي الذي قامت به قوات "الدعم السريع"، فلقد تم بمباركة القوات المسلحة ما بعد الثورة، في الفترة التي كان فيها الجيش يراهن على تمكين المليشيا من أجل مساعدته على سحق الثورة المدنية. سهر البرهان شخصيا على تقوية قوات الدعم السريع وتمكينها وتمدّدها وتسليحها بأحدث الأسلحة، وانتداب مئات ضباط الجيش للخدمة في صفوفها، حين كان حميدتي حليفا في الثورة المضادّة، وشريكا في فضّ الاعتصام أمام القيادة العامة في الخرطوم، وفي انقلاب الجيش على الثورة في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. سمح الجيش لـ"الدعم السريع" بتجييش القبائل في جل الولايات من دارفور إلى بورتسودان حتى أعلن حميدتي في صيف 2022 أن قواته تضم عناصر تنتمي إلى أكثر من مائة قبيلة. وحضر البرهان حفل تخرج بعض دفعات الدعم السريع الاثني عشر حتى فاق قوام هذه المليشيا المائة ألف مقاتل في إبريل/ نيسان 2023، في حين أنها لم تكن تتجاوز الـ40 ألف مقاتل عند اندلاع الثورة المدنية.

ورغم أن "الدعم السريع" تضم مقاتلين سودانيين من قبائل غير عربية، وأجانب يتحدرون من تشاد والنيجر ومالي وشمال نيجيريا وجمهورية أفريقيا الوسطى، إلا أن القبائل العربية تشكل عماد قواتها في دارفور وكردفان، ورأس حربتها في مواجهة الجيش وحلفائه الجدد. وتتكوّن القبائل العربية في دارفور من قبيلة الرزيقات بكل فروعها، ومعظم أفرادها رعاة إبل (أبالة) في شمال الإقليم، وقبائل ترعى البقر (بقارة) في جنوب دارفور تشمل الرزيقات والتعايشة وبني هلبة والهبانية والمسيرية، بالإضافة إلى قبائل عربية مهاجرة، جلّها بقارة من أصول تشادية.

لعبت التحفيزات المالية التي أغدقتها قوات الدعم السريع على هذه القبائل، وانتصاراتها على الجيش وسيطرتها على أربع ولايات في دارفور، دورا في إعلان معظم القبائل العربية اصطفافها خلف "الدعم السريع" في صيف 2023، لكن العامل الهوياتي أصبح حاضرا بقوة لديها، ما دفع فريق خبراء السودان إلى ملاحظة أن "الحرب قد بلورت شعورا بهوية عربية مشتركة وسط المجتمعات العربية في دارفور و(كردفان)"، جعلها تتّحد في تحالف يعرف باسم "العطاوة"؛ ما دفع الفريق ياسر العطا لاتهام الدعم السريع بالسعي وراء الانفصال وتأسيس "دولة العطاوة" في دارفور. اتهام نفته "الدعم السريع" واستنكرته عدة جهات سودانية تخشى أن تكون بعض الجهات الموالية للجيش تدفع باتجاه انفصال دارفور، مثلما آثر نظام عمر البشير من قبل خيار انفصال جنوب السودان.

لم يتّعظ الجيش من خطايا نظام البشير، وراح يخاطر مرّة أخرى باستنفار المدنيين وتسليح أفراد وقبائل ومليشيات جديدة تحت مظلّة "المقاومة الشعبية"، في محاولة لإيقاف تقدّم الدعم السريع. عمل على ضرب المليشيات بالمليشيات، والجنجويد بالجنجويد، وزج المواطنين في حرب ضد مواطنين، في سلوكٍ يتعارض مع مبادئ الجيوش النظامية. وزادت تعقيدات المشهد السوداني بسماح الجيش لعدة مليشيات جهادية بأن تحارب في صفوفه منذ بداية حربه ضد "الدعم السريع"، أشهرها مليشيا تُدعى "كتيبة البراء بن مالك"، تضم قواتٍ من "الدفاع الشعبي" التي كان عددها قد بلغ عام 2020 نحو مائة ألف مجاهد من شباب الحركة الإسلامية الذين جرى استنفارهم في التسعينيات للقتال ضد الحركة الشعبية في جنوب السودان، بدعوى أن أعضاءها "أعداء العقيدة والوطن". ولقد كشف تحقيق برنامج "بوليغراف" في التلفزيون العربي عن وجود خيط يربط كتيبة البراء بإدارة الاحتياط بالقوات الخاصة المنبثقة من الدفاع الشعبي الذي جرى حلّه بعد الثورة السودانية، وتحويله إلى قوات احتياط تابعة لوزارة الدفاع.

أحدث دخول مليشيات جهادية على خط الحرب توازنا في وحشية القتل في صفوف "الدعم السريع" والجيش، وانتشرت شرائط فيديو تظهر جنوداً من الجيش يحتفلون بقطع رؤوس القتلى وإخراج أحشائهم في مشهد داعشي ينذر بالأسوأ. وجود هذه الفئة المتطرّفة داخل تحالف الجيش جعل عديدين من متابعي الشأن السوداني يجزمون أن الإسلاميين داخل الجيش وخارجه يقفون اليوم حجر عثرة في طريق وقف حرب ٍهناك من يتهمهم بالوقوف وراء إشعال فتيلها للحيلولة دون أي تحول ديمقراطي يضع حدّاً لحكم إسلامي - عسكري دام أزيد من ثلاثة عقود.

واقع السودان اليوم يجعل اختزال الحرب في مواجهة بين الجيش و"الدعم السريع" يحول دون فهم وضع شديد التعقيد، خصوصاً بعد دخول قوى إقليمية ودولية عديدة على خط الحرب وظهور أسلحة متطوّرة لم يتم استخدامها من قبل، بما يؤشّر إلى أن أطرافاً خارجية تسعى إلى استمرار القتال لخدمة أجنداتها. ما يحتاجه السودان اليوم ليس حلقة من حلقات سياحة الوساطة السّطحية التي لا تعترف بتعقيدات المشهد السوداني، وإنما إلى مصالحة سودانية - سودانية لرتق نسيج اجتماعي ممزّق، وإعادة بناء السودان على أساس المواطنة واحترام الاختلاف الإثني والديني.

نقلا عن العربي الجديد  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: قوات الدعم السریع القبائل العربیة تحالف الجیش بین الجیش فی دارفور على أساس غیر عرب

إقرأ أيضاً:

بعد التقدم الميداني… ما خيارات الجيش السوداني؟

أماني الطويل

كاتبة وباحثة مصرية

ملخص
إن الخيارات السياسية للجيش في المرحلة المقبلة هي الأعقد، وربما تكون هذه الخيارات هي المؤشر الحقيقي الذي يمكن أن يبلور اتجاهات المستقبل للسودان من حيث استمرار الاحتقانات السياسية، أو القدرة علي بلورة معادلة استقرار سياسي يسمح بتقدم تنموي

تغيرت الموازين العسكرية الميدانية لمصلحة الجيش السوداني في عمليات متصاعدة بدأت قبل ثلاثة أشهر، وتحققت فعلياً تقديرات قادة الجيش خلال هذا التوقيت في شأن إمكانية تغيير الأوضاع على الأرض لصالحهم على حساب قوات “الدعم السريع”. وأسهم في هذه الحال الجديدة بصورة رئيسة طبيعة الممارسات التي أقدمت عليها قوات “الدعم السريع” على الأرض، إذ اتسع حجم الانتهاكات ضد الأهالي المدنيين، وضُربت البنى التحتية لصيقة الصلة بحياة الناس كالماء والكهرباء حتى ينزحوا من أراضيهم، بما شكله كل ذلك من تهديد لصورة الجيش القومي وتقزيم له.

النتائج المباشرة لهذه الممارسات من جانب قوات “الدعم السريع” والمتضمنة اغتصاب النساء كان التفافاً شعبياً حول الجيش السوداني باعتباره منقذاً، وكذلك قبولاً دولياً وإقليمياً أوسع للجيش وطبيعة أطروحاته، وذلك على رغم العقوبات الأميركية التي أقرت من جانب وزارة الخزانة الأميركية التي حرصت فيها على أن تكون ضد الطرفين المتحاربين بالتوازي حتى وصلت إلى رموز القوتين، الفريق عبدالفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو قائد “الدعم السريع”.

لا تفاوض

وفي أجواء النصر هذه يحرص قائد الجيش على الإعلان في كل مدينة يدخلها منتصراً أنه “لا تفاوض”، وأن خياراته متبلورة في اتجاه القضاء على قوات “الدعم السريع”. وهذا الإعلان المتكرر دوماً من جانب الفريق عبدالفتاح البرهان يقود إلى طرح بعض التساؤلات في شأن الخيارات القادمة للجيش على المستويين العسكري والسياسي، ومدى القدرة على تحقيق هذه الخيارات في ضوء معطيات معقدة على المستويين الداخلي والخارجي.

وربما تكون أول هذه الأسئلة هي هل يعني الفريق عبدالفتاح البرهان بمقولته الشهيرة بالقضاء على التمرد قدرة عسكرية وسياسية مثلاً على طرد “الدعم السريع” من إقليم دارفور، الذي يسيطر على كل ولاياته عدا عاصمة شمال دافور الفاشر التي تدور حولها معركة مفصلية؟ وإذا كان هذا الخيار ماثلاً في ذهن البرهان فهل يجد سنداً يتيح له ذلك على المستويين العسكري والسياسي؟

وثانياً هل حرص الجيش السوداني على تحرير مناطق وسط السودان والخرطوم مرتبط بصفقات أو ترتيبات سياسية تمهد لانقسام السودان، بمعنى أن تحوز قوات “الدعم السريع” على إقليم دارفور مقابل أن يكون للجيش سيطرة كاملة على شرق ووسط السودان؟ وأخيراً ما صورة الدولة السودانية إذا ما بات نصر الجيش واقعاً معاشاً؟ أي سيطرة عسكرية مطلقة على المناطق التي سبق أن انسحب منها الجيش، خصوصاً في وسط السودان والخرطوم.

وفي ضوء المعطيات العسكرية والسياسية الراهنة، فإنه من الملاحظ أن مخطط الاعتصام بدارفور قد يكون مكوناً في استراتيجيات “الدعم السريع” أكثر منه موجوداً في استراتيجيات الجيش، وذلك طبقاً لمؤشرين، الأول حال الانسحاب أو الفرار التي مارستها قوات “الدعم” أمام قوات الجيش من المناطق الداخلية في المدن، بينما كان الاحتكاك على المحاور الخارجية بين الطرفين، التي جرى فيها اكتشاف القدرات العسكرية المتقدمة للجيش على “الدعم السريع”. من ثم كانت نتائج المعارك محسومة لصالحه، وذلك بعد دعم قدراته من قوات المشاة، فضلاً عن قدراته الجوية الممثلة في سلاح الطيران.

أما على المستوى السياسي فإن للجيش حلفاء من دارفور يقاتلون إلى جانبه، فضلاً عن جيوب محسوبة لصالحه ومعادية لـ”الدعم السريع” مثل الشيخ موسى هلال عم حميدتي ومؤسس الجنجويد الأول، وذلك فضلاً عن عدم قبول متوقع من جانب عبدالواحد نور وقبيلة الفور لسيطرة حميدتي على إقليم دارفور، وهو ما يرشح الإقليم لصراعات مسلحة في المستقبل القريب.

المؤشر الثاني لإصرار الجيش على عدم ترك دارفور في أيدي “الدعم السريع” هو استبساله ومن معه في معارك الفاشر، وكذلك وجود دعم إقليمي ودولي ممثلاً في السعودية ومصر ومجلس الأمن في فك الحصار عن الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور.

سيناريوهات محتملة

وطبقاً للمسارات العسكرية سالفة الذكر فإنه من المستبعد أن يتوقف الجيش السوداني على تخوم دارفور، لكنه في تقديرنا سيسعى إلى استعادة حامياته هناك التي فقدها، وربما يكون حسم الأمر في الفاشر لمصلحة الجيش مقدمة تحتمل سيناريوهين.

السيناريو الأول استمرار الجيش في التقدم مدعوماً بقدراته التي تطورت، وحاضنة شعبية آخذة في الاتساع نظراً إلى بزوغ أمل عودة السودانيين إلى بيوتهم، أما السيناريو الثاني فهو بدء مجهودات دولية وإقليمية لبحث مستقبل السودان، وليس فقط فكرة التفاوض مع “الدعم السريع”.

وفي هذا السياق، تقف العقوبات الأميركية التي فرضتها إدارة بايدن قبل أيام من رحيلها على الفريق البرهان كعقبة كؤود بين الطرفين، وهي العقبة التي قد تدفع الرجل نحو الاتجاه إلى روسيا بخطوات أكثر جدية، ومن هنا قد نتوقع من إدارة ترمب تجميداً لهذه العقوبات ربما بشروط انخراط الجيش وقائده في التفاعل مع المعطيات المطروحة أميركياً في شأن وقف الحرب داخل السودان، وحال مستقبله السياسي وكذلك رغبة واشنطن في عدم إفلات السودان من مظلة النفوذ الأميركي خصوصاً والغربي عموماً، لمصلحة المعسكر الشرقي الممثل في روسيا والصين.

وطبقاً لهذا المشهد، فإن الخيارات السياسية للجيش في المرحلة المقبلة هي الأعقد، وربما تكون هذه الخيارات هي المؤشر الحقيقي الذي يمكن أن يبلور اتجاهات المستقبل للسودان من حيث استمرار الاحتقانات السياسية، أو القدرة علي بلورة معادلة استقرار سياسي يسمح بتقدم تنموي.

وغالب الظن أننا أمام السيناريوهات التالية، الأول الاعتماد على الحاضنة الشعبية الموقتة التي تبلورت للجيش تحت مظلة تزايد المطلب الشعبي في ضمان الأمن الإنساني للسودانيين، وعودة النازحين إلى مواطنهم. وطبقاً لذلك يتم الاستمرار في شيطنة كل القوى السياسية السودانية، والانخراط في مشروع يضمن سيطرة مطلقة على السلطة في السودان، مع الإعلان أنها مرحلة انتقالية، وذلك بالتوازي مع هندسة نوع من الموالاة السياسية للجيش معتمدة على قطاعات منزوعة السياسة.

هذا الخيار طرحه الفريق أول عبدالفتاح البرهان، حين قال إن نائبه ياسر العطا يملك مشروعاً يستبعد القوى السياسية القديمة، ويعتمد على الشباب. وهذا التوجه قد يجد داعمين إقلييمين عطفاً على ما أفرزته الحرب السودانية من انقسامات اجتماعية وقبلية من ناحية. وكذلك وجود حال قبول واسعة لفكرة الحاكم الفرد سواء من الجيش أو غيره، دعمتها إقليمياً حالتا كل من لبنان وسوريا، بعد أن دفع المجتمع الدولي في الحال اللبنانية إلى تولي موقع الرئاسة قائد الجيش. أما في سوريا فجرى قبول ترؤس أحمد الشرع للبلاد دون أية شرعية مؤسسة على حوار أو توافق وطني.

والسيناريو الثاني هو إدراك قادة الجيش أن مشروع تقسيم السودان ماثل وبقوة وتدفع إليه شركات عالمية حالياً، تسعى إلى نهب موارد دارفور خصوصاً الذهب والصمغ الغربي، بما لها من وكلاء محليين يدفعون نحو تكوين حكومة منفى بشعارات سياسية رنانة، فيتكرر بذلك مشهد الكونغو في السودان، التي يُنهب منها معدن الكولتان اللازم لبطاريات أجهزة الاتصال والسيارات، وذلك تحت مظلة صراع مسلح.

هذا الإدراك إذا تحقق في ذهنية قادة الجيش السوداني فربما ينحازون إلى خيارات خلق حال توافق وطني واسع، يضمن الحفاظ على التراب الوطني السوداني ويحقق أمنه القومي بعد أن تهدأ المدافع، مما يتطلب من الجيش في المرحلة المقبلة الوقوف على مسافة واحدة من كل المكونات السياسية السودانية، وعدم إعطاء وزن أعلى لهؤلاء الذين شاركوا في العمليات القتالية طمعاً ربما في إعادة سيطرتهم علي مفاصل الدولة السودانية، وكذلك تحجيم حال الاستقطاب السياسي بين الأطراف السودانية بخطط مدروسة، وأيضاً الدفع نحو حوارات متعددة المستويات في شأن مستقبل السودان.

وعليه، فإن دعم فكرة عقد النسخة الثانية من مؤتمر القوى السياسية السودانية بالقاهرة قد تكون خطوة في هذا الاتجاه، وأحسب أن الحوار حول العلاقات المدنية العسكرية في السودان طبقاً لنتائج هذه الحرب خطوة موازية من حيث الأهمية، التي يمكن أن يكون لها مسار منفصل بين خبراء ومتخصصين مستقلين. وإجمالاً يصنع المنتصرون التاريخ، المهم أن يكون هذا التاريخ صناعة لأمن ممتد واستقرار سياسي وصيانة للدولة من تقسيم يبدو مرئياً.

نقلا عن اندبندنت عربية

الوسومأماني الطويل

مقالات مشابهة

  • البرهان يُحدد شرطاً للتفاوض مع الدعم السريع
  • بعد التقدم الميداني… ما خيارات الجيش السوداني؟
  • كندا تفرض عقوبات على قياديين في الجيش السوداني و«الدعم السريع»
  • الجيش يواصل تقدمه نحو الخرطوم بعد اشتباكات عنيفة مع «قوات الدعم السريع» في عدد من المحاور
  • بعد التقدم الميداني… ما خيارات الجيش السوداني؟
  • مواجهات ضارية بين الجيش السوداني و”الدعم السريع” للسيطرة على جسر استراتيجي في الخرطوم
  • مصطفى بكري: الجيش السوداني سيقضي على ميليشيا الدعم السريع
  • حملة الجيش لاصطياد الرؤوس الكبيرة بالدعم السريع.. مَن بعد الجنرال حسين؟
  • استعادة وسيطرة.. الجيش السودانى ينجح فى دخول «الخرطوم».. والدعم السريع ينسحب من العاصمة والجزيرة
  • كيف تفاعل النشطاء مع التراجع الكبير لقوات الدعم السريع أمام الجيش السوداني؟