لم يكن التدخل العسكري الإيراني الروسي في سوريا هو السبب الوحيد الذي أدى إلى انقلاب الموازين لصالح نظام بشار الأسد، وإنما سبق ذلك بعض التمهيد المتمثل في توقيع ما عرف "باتفاقات الهدن والمصالحات".

كانت أول ممارسة لهذه الاتفاقات في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2013 في منطقتي قدسيا والهامة في ريف دمشق، عن طريق ما سميت حينها "لجنة المصالحة الوطنية" المحلية.

وتسارعت منذ ذلك الوقت اتفاقات شبيهة في مناطق مختلفة، يزداد تعقيدها أو ينقص بموجب البنود والفاعلين، لكنها في النهاية جزء من عملية بطيئة وممتدة وممنهجة، وأهم ما يميزها أنها تجري على المستوى المحلي.

وأدت تلك الاتفاقات والمصالحات في النهاية لاستعادة النظام سيطرته العسكرية والسياسية وإعادة رسم خريطة نفوذه، لتبدو كما هي عليه اليوم.

مهد النظام لمسار المصالحات قبل ذلك بأعوام، وهو ما سيظهر في هذا التقرير المخصص لاتفاقات وهدن المصالحات في سوريا، وما وراءها من منطق إستراتيجي، وأسبابها، وآثارها:

كيف بدأت المصالحة؟

بعد مرور أزيد من عام على اندلاع الثورة السورية، أصدر  الأسد، في 23 يونيو/حزيران 2012 مرسوما يقضي بتشكيل ثاني حكومة في البلاد بعد الثورة، برئاسة رياض حجاب، خلفا لحكومة عادل سفر التي تشكلت عقب اندلاع الثورة مباشرة.

لم يلفت هذا الحدث كثيرا من الاهتمام، خصوصا مع تراجع دور الحكومة وراء أزيز الطائرات الحربية والدبابات والمدفعية التي كانت تحاول استعادة السيطرة على المناطق الثائرة، إلا أنها حملت معها تغيرا ملحوظا، هو تعيين علي حيدر في منصب وزير دولة لشؤون المصالحة الوطنية، المصطلح الذي ظهر بطابعه الرسمي لأول مرة.

أثناء ذلك، كانت المصالحات موجودة وقائمة كممارسة غير رسمية من خلال وفود الوسطاء المحليين الذين كان النظام يلتقيهم محاولا إيقاف المظاهرات.

وهذا بحد ذاته استمرار بشكل آو آخر لإطار عمل الوسطاء المحليين في الحياة السياسية السورية منذ سيطرة حزب البعث عام 1963، وتم تعزيزه بشكل أكثر منهجية ضمن علاقات الدولة مع المجتمعات المحلية في ظل فترة حكم حافظ الأسد، كما يذكر الكاتب والباحث السوري ياسين الحاج.

بيد أن اندلاع الثورة أدى لاختلال ظاهر في إطار العمل القائم للوسطاء المحليين، سواء: بتخليهم عن دورهم بالاصطفاف العلني الكامل مع أحد الأطراف وهو ما بدأه على سبيل المثال شيوخ محافظة درعا الذين انحازوا للثورة منذ البداية، أو بتجاوز النظام أو المجتمعات المحلية لهؤلاء الوسطاء وبالتالي فقدانهم دورهم.

ومهد ذلك الطريق لوسطاء جدد أكثر ميلا واستعدادا لاستخدام العنف، وتطلب ذلك إعادة بناء هذا الإطار بشروط جديدة مع هؤلاء الفاعلين، كما يفصل الباحث والمحاضر كيفن مازور بشكل موسع في كتابه "الثورة في سوريا".

عقب إعلان تشكيل حكومة حجاب بقليل، أعلن الوزير حيدر أن الهدف الرئيسي لها هو "تحقيق الأمن والسلام الاجتماعي، والدخول في العملية السياسية، والتخلي عن السلاح"، كما أشار لجوانب أخرى متعلقة بالإغاثة والخدمات والتنمية.

ومع تزايد التدخل الإيراني في سوريا، أبدت طهران دعمها لهذا المسار، وهو ما تجلى في عقدها "مؤتمر مصالحة" بعد إعلان تشكيلة الحكومة بشهر واحد.

روسيا تمسك بملف المصالحات

ومع ذلك، لم يسر هذا المسار كما كان مرجوا منه، فبعد مرو 3 أعوام على تصريحاته، أعلن الوزير حيدر مجددا، في سبتمبر/أيلول عام 2015، أن مسار المصالحات "لم يفشل، لكنه لم يصل للمرحلة المطلوبة"، مشيرا إلى حصول مصالحات "في 50 منطقة، بعضها انتكس".

عقب هذا التصريح بأقل من شهر، تدخلت موسكو عسكريا لإنقاذ النظام، لكنها لم تكتف بذلك، بل أيضا تولت ملف المصالحات بشكل كامل عبر "مركز حميميم للمصالحة" التابع لوزارة الدفاع الروسية، الذي كان عمله بداية كمركز عسكري لمراقبة وقف إطلاق النار، في تأكيد على الترابط الفعلي بين العسكري والاجتماعي والهدف النهائي الضمني لعمليات المصالحة.

عقب استلام روسيا ملف المصالحات، بالتوازي مع تراجع الحاجة لهذا الملف ككل إثر جمود جبهات القتال نسبيا وسيطرة النظام على أهم المعاقل العسكرية للمعارضة؛ تراجع دور الوزارة لصالح مركز حميميم، وهو ما أدى بالنهاية لتقليصها من وزارة إلى هيئة نهاية عام 2018، مع استمرار علي حيدر رئيسا لها بمهمات رمزية وبروتوكولية.

لماذا المصالحة؟

كان السياق الإستراتيجي الناظم لمسار المصالحات منذ البداية، هو تبدل موازين القوى مع الوقت، لتصبح المصالحات انعكاسا وتأسيسا لحرب استنزاف، كما يرى الأستاذان والباحثان المختصان في الشأن السوري عمر عمادي ورايموند هينبوش.

فمع بداية خروج المناطق الثائرة عن سيطرة النظام وتحولها لمعاقل للمعارضة، حاول النظام بداية إعادة السيطرة عليها عسكريا، لكنه لم يستطع في غالبية المناطق، خصوصا تلك الواقعة في الأطراف والأرياف التي لا يملك بها نقاطا أو معاقل عسكرية قوية.

ومع عجز كلا الجانبين عن الانتصار على الآخر، لجأ النظام للاستهداف العشوائي لتلك المناطق، وهو ما أفقدها القدرة على الاستمرار والصمود، فضلا عن الاستقرار والنمو.

وبالتوازي مع ذلك، أدى فشل المسار السياسي الأممي الرسمي بفرض تسوية سياسية إلى لجوء الفاعلين الدوليين، وأبرزهم ستيفان دي ميستورا، لمسار أقل طموحا عزز الهدن المحلية باعتبارها قد تقلل العنف وتدفع الزخم الذي قد يكسر جمود المسار السياسي، وهو ما لم يتحقق كما يظهر.

لم يؤد هذا السياق الإستراتيجي لظهور المصالحات وحسب، بل رسم كذلك بنودها وشروطها وبالتالي نتائجها، وكلما كانت المنطقة أكثر إستراتيجية -كما في أحياء حلب الشرقية وداريا قرب مطار المزة العسكري أو بعض مناطق الغوطة الشرقية على تخوم العاصمة دمشق- كان النظام أكثر حرصا وإصرارا على استعادتها واستخدام قوة نارية أكبر، ليس لإخراج المقاتلين منها وحسب، بل كل سكانها.

أما المناطق التي تبدو أقل أهمية من الناحية الجغرافية فقد اكتفى النظام باستعادة السيطرة رمزيا عليها برفعه العلم وتفعيل بعض المؤسسات.

لاعبون جدد

أما زمنيا، فقد كان ظهور لاعبين جدد، إقليميين ودوليين، عاملا فارقا بتبدل ميزان القوة الإستراتيجي. فمثلا، أدى بروز تنظيم الدولة و"وحدات حماية الشعب" الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني لتشتت القوة العسكرية للمعارضة وإلى تدخل مزيد من الأطراف الخارجية التي دفعت بعض الفصائل لتركيز قتالها على أطراف أخرى لأهدافها الذاتية.

أدى كل ذلك في النهاية -خصوصا بعد استعادة النظام لحلب نهاية عام 2016- إلى تحول المسار السياسي العام من جنيف إلى أستانة، ومن "الانتقال السياسي" إلى "وقف إطلاق النار وخفض التصعيد"، أي تعزيز سيطرة النظام على النقاط الإستراتيجية التي استطاع استعادتها بالمدفعية والصواريخ والقذائف، وبالبراميل المتفجرة والسلاح الكيميائي، وفق تقارير حقوقية وأممية.

تشريح المصالحة

في أي مصالحة جرت في سوريا، كانت هناك 3 عناصر رئيسية: منطقة خارجة عن سيطرة النظام، وسطاء محليون، وبنود وشروط اتفاقية المصالحة هذه.

وبجانب ذلك، هناك 3 مستويات من اللاعبين الرئيسيين بهذه المصالحات: المحلي (الفصائل المعارضة والوسطاء المحليين)، والوطني (النظام السوري أو المعارضة ككل)، والخارجي (الأطراف الدولية والإقليمية الضامنة لهذه الاتفاقات).

وفي أغلب الأحيان، تمر منطقة المصالحة بـ4 مراحل: خضوعها للثوار، حصارها من النظام، ثم المصالحة.

تبدأ المرحلة الأولى من تمكن المعارضة من طرد قوات النظام وإعلان المنطقة محررة، أي دون وجود سياسي أو عسكري للنظام الذي عادة ما يقف على تخومها لتصبح بالتالي "منطقة محاصرة" بريا، وهذه هي المرحلة الثانية.

وفي هذه المرحلة الثانية يسيطر النظام على منافذ المنطقة ويحدد من وما يمكنه الدخول والخروج إليها، ويقطع الطرق الواصلة بينها وبين المناطق الأخرى، بالتوازي مع القصف اليومي المستمر والعشوائي بقذائف المدفعية والدبابات وصواريخ الطائرات والسكود والبراميل المتفجرة وصولا إلى استخدام الكلور والسارين، وبالتالي بجعل الحياة في تلك المناطق مستحيلة تماما، أي مناطق منكوبة وفق توصيف الأمم المتحدة.

ولأن تلك المراحل ممتدة على مدى سنوات، تتحول هذه المناطق المحاصرة والمنكوبة لعالم صغير ذي ظروف قاسية واستثنائية يحاول أفراده "المناورة" والبقاء في مساحات صغيرة ومحدودة للغاية، له اقتصاده وسياسته وفاعلوه المحليون، الذين يستغل بعضهم تلك الظروف بناء على ما ملكه من امتيازات قبل الحرب، أو بناء امتيازات جديدة، ليصبحوا وسطاء محليين يتميزون بنوع من النفوذ لأسباب متنوعة، سواء أكان سياسيا (مختار أو عضو مجلس شعب) أو عسكريا (قائد مجموعة محلية معارضة) أو اقتصاديا (تاجر أو أمير حرب) أو دينيا (شيخ أو عالم محلي)،  أو غيرهم ممن قد يحظى بنفوذ محلي.

وقد أضفى النظام على هؤلاء صفات رسمية ومنحهم امتيازات مكنتهم من لعب دور الوسيط بين دمشق والمجموعات المعارضة المسلحة لبحث ضمانات إنهاء الحصار وإدخال الإغاثة وتحقيق الأمن، وغير ذلك من المسائل التي تهم الطرفين.

العملي والنظري

وبناء على عوامل عديدة من أهمها مستوى قوة المعارك وصمود المقاومة؛ ترسم بنود وشروط اتفاقية المصالحة وفاعليتها على أرض الواقع.

وعلى الورق، تفاوتت هذه البنود من منطقة لأخرى، فأحيانا تتضمن وقفا مؤقتا لإطلاق النار ينتهي بالإخلاء الكامل لهذه المناطق من المقاتلين والسكان، مرورا بإخراج المقاتلين دون السكان، أو السماح بإدخال المساعدات مقابل العودة ولو الشكلية لمؤسسات الدولة وإبقاء تلك المناطق تحت سيطرة الفاعلين المحليين، كما في حالة درعا الاستثنائية.

وفي  بعض المناطق الأكثر تعقيدا يدخل الفاعلون الخارجيون كأطراف في الاتفاقات، كما في اتفاق المدن الأربع الذي جرى مع إيران وتم بموجبه إجراء "تبادل سكاني" بين سكان الزبداني ومضايا، والفوعة وكفريا، أو باتفاق حلب الذي كان بضمانة أو رعاية روسية وتركية.

ولكن واقعيا، كانت المصالحات ببساطة "سلاما مجهضا منذ البداية"، ما لم نقل إنها "إستراتيجية حرب"، تمكنت من تحقيق هدفها المتمثل في استعادة النظام سيطرته العسكرية والسياسية بدون الحاجة لالتزامه بالبنود المتفق عليها، مثل وقف الاعتقالات أو إعادة الإعمار، ناهيك عن تحقيق السلم المجتمعي أو التسوية السياسية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات سیطرة النظام النظام على فی سوریا وهو ما

إقرأ أيضاً:

الغاز يفتك بأجسادهم.. الجزيرة نت تكشف روايات مروعة لمصابي الكيميائي بدمشق

دمشق- في الساعة الثانية والنصف من صباح 21 أغسطس/آب 2012، أطلقت قوات النظام السوري المخلوع الموجودة داخل اللواء 155 بالقلمون مئات الصواريخ من نوع أرض أرض على مناطق في غوطة دمشق، محملة بغاز السارين السام (غاز الأعصاب).

حينها، كان الموت اختناقا بقذيفة الكيمائي نهاية للحدث والخبر، إلا أن قصصا أخرى مرعبة لم ترو بعد مرور أكثر من 12 عاما على الجريمة، فالغاز القاتل الذي تحمله القذيفة المميتة، بعد أن أودى بحياة المئات، مازال حتى الآن يفتك بأجساد الكثيرين من سكان المدن السورية المنكوبة.

البراميل التي كانت تحمل مواد كيميائية واستهدفت منطقة الغوطة عام 2018 (الجزيرة) صواريخ مدمرة

ووثقت الجزيرة نت الأعراض التالية الناتجة عن استنشاق تلك الغازات السامة:

ضعف في النمو. فقدان شبه كامل للعقل. تآكل الأسنان. تساقط الشعر. ضيق التنفس. ألم شديد في العيون. الأمراض النفسية الناجمة عن رؤية الموت وجثث الضحايا من الأهل والأصدقاء والجيران.

تتميز الصواريخ التي تحمل رؤوسا كيميائية، والتي استعملتها قوات النظام المخلوع، بأنها لا تُحدث صوتا بعد انفجارها، ولا تخلف أضرارا على المباني، بل تخنق الأنفاس وتدمر الأعصاب. ومنذ عام 2012، استهدف النظام عددا من المناطق 184 مرة، استخدم فيها السلاح الكيميائي 217 مرة، بحسب تقرير الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

إعلان

تُعتبر مدينة المعضمية الواقعة غربي العاصمة دمشق من أكثر المناطق التي تأثرت بالهجوم الكيميائي، حيث يقول سكانها إن "مجزرة الكيميائي"، التي قتلت المئات من أهلها بصمت وهدوء بارد، ما زالت مشاهدها محفورة في ذاكرتهم وآثارها على أجسادهم، وسط تجاهل حكومي ودولي مخيف، وفق تأكيدهم.

يقول رياض عبد الغني، المسؤول عن إحدى النقاط الطبية في المعضمية أثناء المجزرة، للجزيرة نت "إننا أول وسيلة إعلامية تأتي وتسأل عن حال من أصيبوا فيها خلال وجود نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد وبعد سقوطه"، مؤكدا أن وزارة الصحة في عهده كانت "تتنكر للمصابين بغاز الأعصاب"، ولا تقدم لهم أي خدمات صحية، مما ضاعف من الحالة السيئة التي يعاني منها المئات الآن.

ويضيف "في عهد الأسد كنا لا نستطيع القول إننا مصابون بمضاعفات غاز السارين القاتل رغم الألم المميت"، كاشفا أن كثيرين كانوا يخفون إصابتهم خشية الاعتقال والقتل من قبل مخابرات النظام المخلوع.

وحسب عبد الغني، يعاني كثير من سكان غوطة دمشق الآن من آثار غاز السارين إلا أنهم يخافون الحديث عن أمراضهم لسببين:

الأول: خشية أن يخافهم الناس ويبتعدوا عنهم ويتجنبوا الاختلاط بهم خوفا من العدوى. الثاني: ظنهم أن لا أحد سيهتم بأمرهم "لوجود مسائل أكثر أهمية لدى السلطات الجديدة"، مثل ملف المعتقلين، والاقتصاد المنهار، والبنية التحتية المدمرة.

وطالب وزارة الصحة الحالية بالتدخل السريع لعلاج المصابين من مجزرة الكيميائي حتى لا تتضاعف حالتهم الصحية وتصل لمراحل لا يمكن علاجها، مثل الأطفال الذين أصيبوا بضعف النمو، حيث أثبتت التحاليل أن غاز السارين يعوق التطور الطبيعي في أجزاء مختلفة من الجسم.

مأساة

ضعف النمو وانكماش العضلات أكدته ديبة الدوماني، وهي سيدة من سكان الغوطة الغربية، تحدثت للجزيرة نت عن مأساة حفيدها غياث مطر الذي استلهمت اسمه من أيقونة مدينة درايا المجاورة، والمعروف بأنه بطل المظاهرات السلمية الذي قتله نظام الأسد بطريقة بشعة استنكرتها المنظمات الدولية.

إعلان

أصيب غياث بنقص النمو ورغم أنه يبلغ 13 عاما، فإن عقله وجسده يشيران إلى أنه في الخامسة من عمره بسبب إصابته بغاز السارين، وفق الدوماني.

لم تتمالك الجدة دموعها التي انهمرت على وجنتيها وهي تقول "ذبح نظام الأسد زوجي بالسكين أمام عيني وأهلك حفيدي بمرض عضال، وقال أطباء مختصون إنه فقد عقله ولن يكون قادرا على العيش بشكل طبيعي مثل باقي الأطفال".

التقت الجزيرة نت بطفل آخر قال أهالي المدينة إنه مصاب بالآثار ذاتها التي ظهرت على غياث بعد استنشاق غاز السارين.

عبد الرحمن خالد الواوي يبلغ من العمر 11 عاما، إلا أن شكله وعقله يشيران إلى أنه لا يتجاوز 6 سنوات أو أقل. يقول والده للجزيرة نت إنه يعاني من سوء تغذية وضعف نمو تسببا بانكماش في الجسد وخلل في العقل بسبب استنشاق هذا الغاز السام.

وأوضح الأطباء للوالد أن عبد الرحمن استنشق كمية كبيرة من غاز الأعصاب أنهكت جسده النحيل وتسببت له بمضاعفات خطيرة، وأنه كان يحتاج تدخلا سريعا بعد الإصابة لتخفيف الآثار المدمرة للكيميائي، و"لكن هذا لم يحدث".

كان النظام المخلوع يمنع أي أحد من الحديث عن إصابته بالغاز الفتاك، يؤكد والد عبد الرحمن. وتابع "جسد ولدي يتآكل كل يوم أمام عيني ولم أستطع أخذه إلى المستشفيات أثناء حكم الأسد، وتقبلت إصابته خيرا من فقدانه أو قتله من قبل أعوان النظام في مستشفياته التي كانت تخفي أي دليل على مجزرة الكيميائي التي مازالت آثارها حاضرة حتى اليوم".

بطل المقابر

من جانبه، يملك خالد الهمشري، وهو موظف في بلدية المعضمية، عربة لنقل القمامة يعتبرها جزءا منه، ورفض الحديث مع الجزيرة نت إلا والعربة الخضراء بجانبه مطالبا تصويرها بشكل واضح.

يملك الهمشري ابتسامة مميزة، إلا أن الأسد الذي أخفى ضحكات الآلاف من الشباب في سجونه المخيفة، تسبب بتآكل أسنان خالد. ويقول "ربما خرب الأسد ابتسامتي، ولكنه هرب وأنا مازلت أبتسم".

إعلان

بحسب خالد، تسبب غاز السارين بالتهاب شديد في لثته وأسنانه وتساقط مستمر لشعره. ويضيف ضاحكا "أشعر كل يوم أن شكلي يتغير وشعري يسقط وأسناني أصبحت شبه متآكلة بسبب الكيماوي، ولكن ذلك لا يهم فأنا اليوم حر وأعمل لخدمة أهل منطقتي، فما دامت عربتي الخضراء تعمل فأنا بألف خير".

بحثت الجزيرة نت عن الأشخاص الذين كانوا يسعفون الناس أثناء قصف النظام للغوطة بصواريخ الكيميائي، لتكتشف أن معظمهم قد ماتوا اختناقا لحظيا، أو نتيجة الآثار الفتاكة لغاز السارين بعد يومين أو 3 أيام من وقوع المجزرة.

نجا منهم راتب رجب المعروف بين أهالي المعضمية بـ"بطل المقابر"، وذلك لدفنه أكثر من ألف شهيد في الغوطة الغربية. ويقول للجزيرة نت إن كثيرا من زملائه المسعفين "استشهدوا" على الفور بعد استنشاقهم غاز الأعصاب، و"لم يبق منهم إلا أنا وبعض الشباب".

يصف راتب حالة من تبقى من المسعفين بـ"المأساوية"، إذ يعانون من ضيق في التنفس حتى الآن، وعدم القدرة على التحرك في كثير من الأحيان، وضعف في النظر، وآلام شديدة في العضلات وفي الصدر، وفقدان جزئي للعقل.

وطالب بتدخل الجهات المختصة لعلاج من عاش من أصدقائه المسعفين قائلا "لقد دفنت المئات من الشهداء في مقابر مجهولة الهوية وأخرى معروفة، ولكنني لا أريد أن أدفن أحدا من أصدقائي بعد الآن".

إخفاء الجريمة

بدوره، نجا الشاب أحمد الخطيب من المجزرة، لكنه دفن أباه سعيد وأخاه عمر بعد تعرضهما لموجة كبيرة من غاز السارين نتيجة إصابة مباشرة لصاروخ يحمل رأسا كيميائيا أصاب منزلهم.

يروي أحمد للجزيرة نت مأساة صباح 21 أغسطس/آب 2012، حيث شاهد الجثث وهي تملأ حارته الضيقة المدمرة، وعلى أطرافها جثتا والده وشقيقه.

ويقول "أبي كان بطلا انشق عن النظام المخلوع لخدمة أهالي مدينته، ليقتله بصاروخ كيماوي دمر رئتيه وأخرج الزبد من فمه، وارتقى شهيدا مع الذين استشهدوا وكتب استشهاده قصة رجل رفض الذل ومات حرا بين أهله وناسه".

إعلان

حاولت الجزيرة نت التواصل مع وزارة الصحة الجديدة لمعرفة خططهم بشأن ملف المصابين بمجزرة الكيميائي، لكن لم تتلق إجابة واضحة. ورفض بعض الأطباء في المستشفيات الكبيرة بدمشق الحديث عن الأمر، قائلين إنه "حساس للغاية ويتطلب موافقة مباشرة لكشف تفاصيله".

يقول طبيب دمشقي يعمل ضمن الإدارة السورية الجديدة، رفض الكشف عن اسمه، للجزيرة نت إنه كان يعمل في مستشفى "المجتهد" أكبر مشافي دمشق وأهمها أثناء حدوث المجزرة المروعة.

وأوضح أنه عندما وقعت مجزرة الكيميائي في غوطة دمشق، جاءهم توجيه من جهات عليا بعدم التعامل مع أي حالة مصابة بغاز السارين، وطُلب منهم الإبلاغ عن أي شخص يأتي للمستشفى بغض النظر عن جنسه وعمره يدعي إصابته بهذا الغاز.

ووفق المصدر نفسه، حدثت في مستشفيات عديدة بدمشق عمليات إخفاء لأشخاص قدموا لتلقي العلاج من آثار الكيميائي ولم يُعرف عنهم أي شيء بعد اعتقالهم. وأكد أنهم كأطباء يدركون تماما الآثار السلبية التي يتسبب بها غاز السارين، و"لكننا كنا نخاف حتى قول كلمة مجزرة الكيماوي أمام أي أحد خشية الاعتقال".

وخلال عام 2012 وحده، يضيف، أنه وصلتهم عشرات الحالات المصابة بالكيميائي وكانوا يسجلونها حالات اختناق أو ضيق في التنفس أو أي شيء آخر، "المهم ألا تسجَّل أنها مصابة بغاز الأعصاب السام".

وقال إن الحالات المصابة التي وصلتهم في مستشفى "المجتهد" كان معظمها من غوطة دمشق، وكانت حالات شبه ميؤوس منها، و"كنا نقول بين بعضنا: هناك جريمة جديدة مروعة ومتكاملة الأركان تحدث في غوطة دمشق بطلها بشار الأسد المخلوع".

 

مقالات مشابهة

  • مهنة محرمة في عهد الأسد تزدهر في سوريا الجديدة
  • مهنة “محرمة” في عهد الأسد تزدهر في سوريا الجديدة
  • هل ينوي رجال الأعمال السوريون العودة إلى وطنهم بعد سقوط نظام الأسد؟
  • وزير الخارجية السوري: نخطط لتفكيك النظام الاشتراكي في بلادنا
  • الغاز يفتك بأجسادهم.. الجزيرة نت تكشف روايات مروعة لمصابي الكيميائي بدمشق
  • الإدارة السورية الجديدة تعتزم خصخصة الموانئ والمصانع 
  • ‎تعرف على أبرز محطات آلية “مبادلة النفط بالوقود” التي أثارت جدلًا واسعًا انتهى بإلغائها.
  • العلاقة الإشكالية بين نظام الأسد في سوريا والمحور الشيعي
  • سوريا: مقتل وإصابة 5 من إدارة العمليات بهجوم في جبلة
  • 29 يناير.. مؤتمر القوى الوطنية الليبية حول النظام الانتخابي وتحقيق المصالحة