جسّد انهيار الاتحاد السوفييتي فرصة لانفراد الولايات المتحدة وحلفائها بدفة القيادة العالمية، الأمر الذي نتج عنه الكثير من الصراعات الإقليمية والحروب الأهلية، بفعل التدخلات الأمريكية التي لم تكن نتائجها محمودة في أكثر الأحيان.
ومع الغزو الأمريكي للعراق، والرجة العنيفة التي أحدثها في العالم العربي على وجه التحديد، وما أتاحه من تدخلات إيرانية واسعة في الشأن الداخلي للعراق والعديد من الدول العربية، ومع أحداث الربيع العربي وما تلاه، مع ذلك كله، برزت عدة معطيات منها ما زعزع الأمن القومي، والسلم المجتمعي، والهوية الوطنية لعدد من الدول العربية، ومنها ما يشكل تهديداً جدياً لدول أخرى.
ويتمثل الخطر الأكبر من وجهة نظر الكاتب في الميليشيات التي تعمل كل ميليشيا منها كدولة داخل الدولة، وخطورة الميليشيات المسلحة أنها تمتلك كامل سلطات الدولة، ولكنها لا تتحمل مسؤوليات الدولة، وهو ما يعني تغول السلطات، مقابل ضعف المسؤوليات.
وتعد الميليشيات التي تدعمها إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن مثالاً واضحاً على ما يمكن أن تفعله الميليشيا بالدولة، لصالح دولة أخرى أنشأتها لخدمة أهدافها في التوسع الإقليمي وحروب الوكالة.
ومع أن الميليشيات الإيرانية هي الأكثر حضوراً في المشهد، والأكثر إضراراً بمقومات الدولة، فإن هناك ميليشيات أخرى متصارعة ينقصها ما يوجد لدى ميليشيات طهران من قيادة مرجعية واحدة تستطيع تدارك خلافاتها، ومنع صراعاتها البينية، توجيهها وتوحيد جهودها نحو الأهداف المتوخاة من وراء إنشائها.
وكما تم اختراق الأمن القومي عن طريق الميليشيات في بعض الدول، فإن المخاطر الأمنية في دول أخرى تأتي من طرق أخرى، مثل الاستعانة بالشركات الخاصة، ذات المهام الأمنية والعسكرية التي وجدت بيئة مناسبة للحلول محل سلطة الدولة في بعض مناحي الحياة الأمنية والعسكرية، كحماية المنشآت والشخصيات و«مكافحة الإرهاب» وتقديم الاستشارات الأمنية والاستخباراتية، بالإضافة إلى مهام التدريب والتأهيل لعناصر القوات الأمنية، والاشتراك في العمليات العسكرية، وغيرها من المهام في دول برزت فيها أنشطة شركات مثل: بلاك ووتر الأمريكية وفاغنر الروسية وغيرهما من الشركات الأمنية والعسكرية الخاصة.
وتتجسد خطورة هذه الشركات في كونها مجرد واجهات أمنية واستخباراتية وعسكرية للدول التي تقف وراءها، والتي تهدف من خلال إنشائها إلى التخفف من الأعباء الأمنية والعسكرية، وكذا تفادي الملاحقات القضائية والتشهير الحقوقي، كما أن هذه الشركات تعطَى فرصة الوصول إلى مراكز حساسة في الدولة المستهدفة، الأمر الذي يجعل الأمن القومي لها عرضة للاختراق بشكل كبير، ناهيك عن الانتهاكات الجسيمة التي مارستها تلك الشركات، مثل السجن خارج القانون والتعذيب والاغتيالات السياسية، تحت يافطات متعددة، أبرزها محاربة الإرهاب.
أما عن مكمن الخطر الثالث فهو يتمثل في شركات التكنولوجيا، وخاصة تلك المتعلقة بالأمن الاستخباراتي والسيبراني، ففي الوقت الذي مثل فيه التقدم التكنولوجي فرصة للنهوض بقطاعات اقتصادية وخدمية وأمنية مهمة، إلا أن عمل تلك الشركات يتيح فرصة لاختراقات أمنية خطيرة.
وفي هذا الصدد يمكن الحديث عن اعتماد بعض الدول في أمنها الاستخباري والسيبراني – تحديداً – على منتجات شركات أجنبية، غير بعيدة عن أهداف الدول التي تعطي تراخيص تصدير تلك المنتجات للدول المستهدفة.
ومن الشركات المعروفة في مجالات الأمن السيبراني مجموعة «أن أس أو» الإسرائيلية» التي تزعم أنها تقدم «دعماً إلكترونياً» للحكومات في مجال «مكافحة الإرهاب والجريمة» غير أنه ثبت أن تلك الشركة انتهكت خصوصية عدد كبير من الأفراد، الأمر الذي دفع عدداً من شركات التكنولوجيا العالمية مثل ميكروسوفت وغوغل وفيسبوك إلى مقاضاة تلك الشركة خلال العام 2020، بتهمة انتهاك خصوصية العملاء والمشتركين، وقد أدت سلسلة من الانتهاكات والضغوط إلى إعلان الشركة الإسرائيلية عن تغييرات في هيكلتها، واستقالة مديرها وصرف العشرات من الموظفين، قبل أكثر من عام.
وإذا كان انتهاك خصوصية الأفراد يعد في مقدمة الجرائم التي تتهم بها هذه الشركة فإن الجانب الأهم هو أن منتجات هذه الشركة التي تزعم أنها مخصصة لمكافحة الإرهاب والجريمة، هذه المنتجات يمكن أن تكون أداة تجسس إسرائيلية ضد الدول التي تستعمل تلك المنتجات، حيث يمكن لعدد من البرمجيات التي تنتجها الشركة الوصول إلى معلومات تخص الأمن القومي لهذه الدولة أو تلك، إذا ما أخذنا في الاعتبار أن مؤسسي هذه الشركة هم أعضاء سابقون في الوحدة 8200 الاستخباراتية الإسرائيلية المسؤولة عن جمع المعلومات الاستخباراتية التي تعتمد على الرموز والشفرات.
وقد ثبت تورط برمجيات هذه الشركة في التجسس على كيانات وشخصيات بينهم رؤساء حكومات وصحافيون وناشطون، وهو الأمر الذي أثار ضجة كبيرة في حينه، كما أنه ونتيجة للمخاطر التي سببها نظام «بيغاسوس» الذي تنتجه الشركة، والانتهاكات ضد أفراد ومصالح أمريكية قامت الولايات المتحدة بحظر هذا الشركة، رغم العلاقات الوطيدة بين واشنطن وتل أبيب في عدة مجالات، من أهمها المجال الأمني.
وفي سياق الأخطار المحدقة بالأمن القومي تأتي الشركات الاستشارية ضمن أهم التحديات التي تواجه بعض الدول العربية التي تعتمد على تلك الشركات العالمية في عدد من القطاعات التنموية والاقتصادية، ناهيك عن التوجهات السياسية والثقافية.
وخلال العقود الأخيرة انتشرت فكرة الاستعانة بـ«شركات الاستشارة» الأجنبية، لدى عدد من الدول العربية، في مجالات مختلفة سياسة واقتصادية وتعليمية واجتماعية وثقافية وغيرها من المجالات، وبرزت أسماء مثل: ماكينزي وبوز ألين هاملتون ومجموعة بوسطن الاستشارية وديلويت وآرنست ويونغ.
ووصلت الأمر ببعض الشركات حد الاشتراك في أو الإشراف على صياغة خطط التنمية المستدامة بجوانبها المختلفة في عدد من البلدان العربية، حيث يولي بعض المسؤولين أهمية للمعرفة المستوردة، لا الخبرة المحلية، لأسباب ربما تعود بجذورها إلى الحقبة الاستعمارية، حيث كان الاستعمار – وخاصة البريطاني – يعين المستشارين والمندوبين السامين لدى بعض الحكومات في البلدان التي تخضع للانتداب أو الحماية.
في دراسة بعنوان: «لاعبو الظل: الشركات الاستشارية الغربية في العالم العربي» لكل من داوود أنصاري وإيزابيل ويرينفير، يذكر الباحثان أن بعض الحكومات تفضل التعامل مع الشركات الاستشارية الغربية، تفادياً للتداخلات المحلية والأجندات السياسية، ولأن قدراً كبيراً من السرية وحفظ التفاصيل يجري تطبيقه فيما يخص الأجور والعمولات والعقود والتفاوض، وهذا يناسب الأطراف المختلفة، غير أن الشفافية اللازمة لنجاح العمل تغيب هنا، حيث مظنة الفساد وسوء التصرف المالي وغياب المساءلة، وحضور الأجندات غير المعلنة.
والأخطر من ذلك حسب الباحثين أن بعض الحكومات تمنح الشركات الاستشارية صلاحيات واسعة، من حيث نطاق العمل والطابع المؤسسي، ضمن رؤى استراتيجية يترتب عليها «تحديد مسار شعوب بأكملها» ورسم سياسات اقتصادية ذات أبعاد أمنية واجتماعية، ناهيك عن رسم خطط عمل صناديق سيادية بمئات مليارات الدولارات.
كل ذلك دون أن نذكر الخطر الأكبر المتمثل في وجود إسرائيل، ناهيك عن الأخطار الأخرى المتمثلة في الجريمة المنظمة وتهريب المخدرات وتبييض الأموال، والتلاعب بالعملات والانقسامات الطائفية والعرقية وطغيان لغة الكراهية، إضافة إلى الاستبداد السياسي، والتدهور الاقتصادي، في تلك المنطقة المضطربة التي تحاول فيها الحكومات النجاة من الأخطار الأمنية المحدقة، ما يحتم النظر في الجذور العميقة للمشكل، ومعالجته بوسائل، لا تكون من قبيل قول الشاعر: «وداوني بالتي كانت هي الداء» لأنه لا الزمان ولا المكان يحتمل المزيد من الأساليب الخاطئة في المعالجات والحلول.
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأمن القومي روسيا الأمن القومي حروب سياسة مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الشرکات الاستشاریة الأمنیة والعسکریة من الدول العربیة الأمن القومی الأمر الذی هذه الشرکة عدد من
إقرأ أيضاً:
بوتين يحذر الدول التي تزود أوكرانيا بالسلاح ضد روسيا
حذر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم الخميس من أن موسكو لا تستبعد ضرب الدول التي تستخدم أوكرانيا أسلحتها ضد الأراضي الروسية، وذلك بعدما ضربت كييف العمق الروسي مستخدمة صواريخ أميركية وبريطانية.
وقال بوتين -في خطاب بثه التلفزيون العام- إن "الصراع بدأ يأخذ طابعا عالميا".
وأضاف "نعتبر أن من حقنا استخدام أسلحتنا ضد المنشآت العسكرية العائدة إلى دول تجيز استخدام أسلحتها ضد منشآتنا، وفي حال تصاعد الأفعال العدوانية سنرد بقوة موازية".
كما أكد أن الهجوم الذي شنته بلاده اليوم على أوكرانيا جاء رد فعل على الضربات الأوكرانية لأراض روسية بصواريخ أميركية وبريطانية في وقت سابق من الأسبوع الجاري.
وأعلن أن روسيا سوف توجه تحذيرات مسبقة إذا شنت مزيدا من الهجمات باستخدام مثل هذه الصواريخ ضد أوكرانيا كي تتيح للمدنيين الإجلاء إلى أماكن آمنة، محذرا من أن أنظمة الدفاع الجوي الأميركية لن تكون قادرة على اعتراض الصواريخ الروسية.
عابر للقاراتواتهمت كييف في وقت سابق اليوم الخميس روسيا بإطلاق صاروخ عابر للقارات قادر على حمل رأس نووي على أراضيها، وهو أول استخدام لهذا السلاح ويشكل تصعيدا غير مسبوق للنزاع والتوترات بين روسيا والغرب.
وقال سلاح الجو الأوكراني في بيان إن القوات الروسية استخدمت الصاروخ في هجوم في الصباح الباكر على مدينة دنيبرو (وسط) شمل أنواعا عدة من الصواريخ واستهدف منشآت حيوية.
وقال مسؤول أميركي كبير إن موسكو "تسعى الى ترهيب أوكرانيا والدول التي تدعمها عبر استخدام هذا السلاح أو إلى لفت الانتباه، لكن ذلك لا يبدل المعطيات في هذا النزاع".
ويأتي الهجوم في وقت بلغت التوترات أعلى مستوياتها بين موسكو والغرب، مع اقتراب عودة الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني المقبل، والتي ينظر إليها على أنها نقطة تحول.
وعلى الطرف المقابل، استخدمت أوكرانيا قبل أيام صواريخ أتاكمز الأميركية التي يبلغ مداها 300 كيلومتر، وذلك لأول مرة ضد منشأة عسكرية في منطقة بريانسك الروسية بعد حصولها على إذن من واشنطن.
كما أكدت موسكو أن أنظمة الدفاع الجوي لديها أسقطت صاروخين من طراز "ستورم شادو" (ظل العاصفة) بريطانية الصنع، و6 صواريخ أميركية من طراز هيمارس، و67 طائرة مسيرة.
وزودت دول غربية عدة كييف بصواريخ بعيدة المدى، لكنها لم تسمح باستخدامها على الأراضي الروسية خوفا من رد فعل موسكو.
وعززت روسيا تحذيراتها النووية في الأيام الأخيرة، وفي عقيدتها الجديدة بشأن استخدام الأسلحة النووية -التي أصبحت رسمية أول أمس الثلاثاء- يمكن لروسيا الآن استخدامها عند وقوع هجوم "ضخم" من قبل دولة غير نووية ولكن مدعومة بقوة نووية، في إشارة واضحة إلى أوكرانيا والولايات المتحدة.