«يتلخص التقسيم العالمي للعمل في أن بعض الدول تختص بالفوز وأخرى تختص بالخسارة، أما منطقتنا في العالم، والتي ندعوها اليوم أمريكا اللاتينية، فكانت سباقة: وتخصصت في الخسارة منذ زمن بعيد عندما وصل أوروبيو عصر النهضة عبر البحر وغرسوا أنيابهم في حنجرتها.
ومرت القرون وأمريكا اللاتينية تجيد وتحسن من دورها. فلم تعد مملكة المعجزات حيث تهزم فيها الحقيقة الأسطورة وحيث واجه الخيال الإذلال أمام انتصارات الغزاة ومناجم الذهب وجبال الفضة.
ربما يضحك القارئ أو قد يبكي وهو يقرأ هذه الأسطر التي كتبها أحد أهم أعمدة الثقافة اللاتينية على الإطلاق الأوروجواياني إدواردو جاليانو، وهي مقتبسة من «الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية» وهو الكتاب الذي أهداه الرئيس الفنزويلي الراحل هوجو تشافيز لباراك أوباما رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك؛ ففيها من التشابه الذي يصل حد التطابق مع الطريقة التي تتعامل بها دول النهضة والتقدم والحريات مع العالم العربي تحديدا، ودول «العالم الثالث»، أي تلك الدول التي لا تستطيع كبح محترفي اغتصاب الأراضي والثروات تحت غطاء وهمي كحماية الحريات أو مكافحة الإرهاب، أو دون الحاجة إلى غطاء أصلًا ولا الدفاع عن نفسها!. وفي الحقيقة لا يهم إن ضحك المرء أم بكى، فما يهم حقا هو العمل وليس الأمنيات، وهو السبيل الوحيد والأوحد للتغيير، التغيير الذي تتحقق نتائجه واقعا ملموسا.
ولأننا تحدثنا عن العمل، فما هو موقع هذه الدعوة هنا؟. إن أهم ما يميز حركات الاستعمار والحركة الصهيونية كذلك؛ هي الدعاية والعمل المتواصل. ولا أعني بالدعاية هنا ذلك العمل الذي يظهر فجأة ويخبو تارة على فترات متقطعة أو التركيز على جانب واحد فحسب، بل هو عمل منظم ومتكامل؛ فكي تستمر في الوجود والبقاء، فأنت تحتاج إلى سردية وتاريخ وشخصية متكاملة، وتحتاج للأسطورة طبعا. فمن غير المرجح أن تجد الدعم اللازم حين تقول بأنك ذاهب لاحتلال أرض أناس آخرين؛ لكن الأمر يختلف حين تخبرهم بأنك ذاهب لاسترداد أرضك المنهوبة من آبائك وأجدادك الذين تعرضوا للترهيب والقتل والتشريد لقرون عديدة، هنا تتحول صورتك بفعل هذه السردية من الجلاد الشرير، إلى الضحية المسكينة التي تصبح مساعدتها لازمة لا من باب العطف والإنسانية فحسب، بل ضرورة أخلاقية حتمية.
وفي السابق كانت تلك الصورة تخبو شيئا فشيئا وقد يستمر النظر إلى الجلاد على أنه صاحب الحق والفضيلة، لكننا في عصر الصورة والإعلام الحر -وأعني بالحر هنا أي ذلك المتحرر من القيود العصي على الإمساك لا الحر توجها وعملا- وهو ما جعل العالم الغربي خصوصا يستيقظ من كابوس عميق متوغل في الذاكرة والوجدان.
لو تأملنا ما يحدث في العالم الغربي اليوم، سنجد أن غالبية المشاركين في الاعتصامات والاحتجاجات المناهضة للاحتلال الإسرائيلي والحركة الصهيونية، هم من الشباب، وأن كثيرا ممن يبررون ويتعاطفون مع المستوطنين للأراضي الفلسطينية هم من الفئات الأكبر سنا؛ وذلك لأنه من الصعب بمكان تغيير العقليات القديمة في مواجهة الحقائق المتجددة، وفي التاريخ ما يعضد هذه الرؤية، فليس من اليسير أن يكتشف المرء بأنه كان يؤمن بسراب طوال حياته، لكن ردة الفعل العنيفة تكون حين يكتشف في عمر مبكر بأنه تم استغفاله واستغباؤه وهو في مرحلة مبكرة وبيده التغيير وأمامه الحياة كلها.
لنعترف للحركة الصهيونية بشيء، فالاعتراف بالعدو سبيلٌ لتفكيكه بعد فهم طريقته في العمل. لنعترف بأنهم كانوا منظمين وحصدوا نتيجة تراكم الخبرات والسنوات عبر سردية قوية منحتهم شرعية وإن كانت شرعية وهمية. في المقابل، ماذا فعلنا وماذا حصدنا؟ ففي حين عمّق العدو سرديته التي منحته الحق والقوة والدعم المستمر؛ كنا نمنح العدو ذاته تلك الشرعية بدعمه بطرق غير مباشرة. فالتعاون الثقافي المفتوح وبلا قيود، مثلما حدث باستضافة توماس فريدمان المتحيز للإدارات الأمريكية المتعاقبة بما يشبه الدور الذي قدمه كل من كيسينجر وبريجينسكي سابقًا والاحتفاء به مثلما يحتفى بمفكر عظيم، يعتبر سقطة لا ينبغي تكرارها. كما أن هنالك من المؤسسات والمنظمات التي ينبغي دعمها والتي لاقت إما تجاهلًا أو محاربة، وتبيّن دورها المحوري في الأحداث الحالية، كمنظمة «بتسليم» التي تعرّف نفسها بأنها (ركز المعلومات الإسرائيليّ لحقوق الإنسان في المناطق المحتلة، يعمل من أجل مستقبل تُضمن فيه حقوق الإنسان والحرّية والمساواة لجميع بني البشر -فلسطينيّين ويهود- المقيمين بين النهر والبحر. مستقبل كهذا لن يتحقّق إلّا بإنهاء الاحتلال ونظام الأبارتهايد الإسرائيليّ. ومن أجل مستقبل كهذا نحن نعمل. اسم «بتسيلم»، الذي أطلقه على المنظّمة الراحل يوسي سريد، يُحيل إلى الآية «خَلَقَ اللهُ الإنْسانَ عَلى صُورَتِهِ عَلى صُورَةِ اللهِ خَلَقَهُ» (سِفر التكوين، 1: 27)، وهو يعبّر عن الفَرْض الكونيّ واليهوديّ الخاص باحترام حقوق الإنسان لكل بني البشر. «من موقع المنظمة. أو حركة BDS» وهي حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها وهي حركة فلسطينية ذات امتداد عالمي تسعى لتحقيق الحرية والعدالة والمساواة وتعمل من أجل حماية حقوق الشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف) حسب تعريفها لنفسها في موقعها على الإنترنت.
إن العمل المؤسساتي القائم على تفكيك سردية العدو وتقديم السردية الخاصة بنا بطريقة محكمة، يضمن لنا الضمائر الحية الواقفة مع الحق؛ أما التمني بأن ينتهي كل شيء هكذا وكأنها هدية السماء فهي محض أحلام لن تتحقق ولو بعد مليار سنة، فالسنن الكونية مُحكَمة ولا تسيّرها الأهواء، ولن يبلغ البنيان تمامه إلا بالبناء والبناء والبناء، حتى يعجز الهادم عن هدمه. والاهتمام بالقضية الفلسطينية في مواجهة الحركة الصهيونية ضرورة حتمية، فالحركة الصهيونية امتداد صارخ وصريخ للاستعمار الغربي؛ ولا يوجد عاقل لا يخشى تلك الحقبة ويقتزز منها في آن. فالتطور الذي وصلت إليه البشرية يحتّم علينا أن نسعى لأن تكون حياة الناس جميعًا أسهل وأعمق وأكثر بهاء؛ لا أن نقف مكتوفي الأيدي أمام استعمال الطور في استعباد الإنسان لأخيه الإنسان وأرضه وعرضه وماله..
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
كن مرناً تكسب أكثر
ما هو الأفضل على الإنسان أن يقعد ملوماً محسوراً، يندب حظه التعس ويلعن ظروفه الصعبة؟ أم يمشي قُدماً في مناكبها، يقتنص الفرص ويذلل العقبات مستعيناً بما وهبه الله من قدرات تجعله مرناً مع المتغيرات ومتكيفاً مع التحديات، وكمثال يضرب عن العقلية المرنة التي لا يعيقها شئ، هناك قصة نجاح المخترع توماس أديسون الذي أبدى مرونة عجيبة تمثلت في التأقلم ومعايشة الواقع الصعب الذي واجهه، ومن ثم الوصول إلى هدفه الكبير (إشعال مصباحه) بعد إجرائه ألف محاولة قال بعدها وهو واثق من نفسه: “أنا لم أفشل، بل وجدت 999 طريقة لا يمكن للمصباح العمل بها”.
ما أجمل أن يتحلى الإنسان بالمرونة، وما أقوى تأثيرها الإيجابي على فكره ونفسيته وحتى على جسده، فمرونة التفكير في استنباط الحلول عند الشدائد والخطوب هي التي تهدئ النفوس وتضبط الأعصاب، وهي الصحة الجسدية التي تمنع التأثير السلبي على دورة الإجهاد ومحور الغدة النخامية، وهي الصحة للعقل من القلق والاكتئاب، وهي الصحة البدنية لآلام أسفل الظهر والمفاصل، وهي التي تخلق البدائل وتدير المخاطر عندما يتغير المناخ ويحصل الجفاف.
والمرونة بما تبديه من قدرة على فهم البيئة واستشراف المستقبل هي القادرة على تعافي الاقتصاد وعودة ما تضرر نتيجة الكوارث الطبيعية أو النزاعات البشرية إلى وضع أفضل مما كانت عليه في وقت الرخاء والاستقرار. وقد أثبتت الدراسات أن الشركات المرنة قد حققت خلال الأزمات المالية عوائد أكبر للمساهمين، وذلك من خلال إدراكها للقوة المالية التي تشمل الاحتياطي النقدي وقاعدة التكاليف المرنة والربحية، كما أثبتت الوقائع أن ساعات العمل المرنة يمكنها أن تدعم التوازن بين العمل وحياة الموظف، فتزيد من انتاجيته نظراً لمراعاتها الاختيارات التي ينشدها من حيث المكان المريح وأوقات الدوام التي تناسبه. إن كثيراً من شخصيات المجتمع أحببناهم بفضل مرونتهم في التعامل، فالابتسامة لا تفارق محياهم والتغاضي أسلوبهم وتقدير الناس سلوكهم، وبالمقابل هناك من الشخصيات التي ننفر منها وتتحاشى الحديث معها، بسبب مزاجهم العكر ومصادرتهم آراء الآخرين، فلا تقنعهم حقيقة ولا تجدي معهم مناقشة، فكن عزيزي القارئ ثابتاً على القيم والمبادئ، وكن هيناً ليناً سهل الطبائع، اغتنم من الحاضر فرصه، وأصبر وثابر على اكتساب مهارات المرونة حتى تصبح منهجاً لك تسير عليه وأسلوب حياة. وفي هذا يقول الأديب الألماني غوته “يمكنك أن تصنع الجمال حتى من الحجارة التي توضع لك في الطريق”.
bahirahalabi@