كتب القدر على مصر أن تكون أبوابها مشرعة لكل جنسيات العالم شرقه وغربه ، شماله وجنوبه، تؤوى وتُطعم وتُسقى وتكسو، وتوفر فرص العمل لملايين الفارين من جحيم الحروب ونار الصراعات والنزاعات، والمضطهدين سياسيا وإنسانيا وفكريا، تعطى الجميع من دمها وقوتها ومواردها وأمنها واستقرارها بلا حدود ومن دون مقابل، لأنها كما وردت فى كتاب الله العزيز وسنة نبيه محمد ملاذ الأمان وبلد السلام، وفى جوفها خزائن الأرض (ادخلوها بسلام آمنين).
هكذا ظلت وستظل كنانة الله إلى يوم يبعثون، وكأنه تكليف إلهى تحتل به مصر قلب العالم بموقع جغرافى فريد ونيل عظيم يحتضن بضفتيه أقدم حضارات العالم، وتحفه أشجار ورمال وجبال أقسم بها رب العزة وكلم من فوقها نبى الله موسى.
وقبل أن أفتح دفتر الملف الشائك للاجئين والمهاجرين قسريا، أنوه أولا إلى أننى لست عنصريا، ولا من دعاة (المصرنة )، ولا فى قلبى ذرة حقد أو حبة غل تجاه أى شقيق عربى وإفريقى أو صديق أجنبى، سودانيا كان أو يمنيا وسوريا ونيجيريا وصوماليا وإثيوبيا وغيرهم من جنسيات 193 دولة تركوا فى وجه مصر بصمة من صبغتهم الخلقية ولونهم ولغاتهم ولهجاتهم وسحناتهم، التى تشهد بها شوارع وميادين وأسواق المحروسة.
ولا يختلف اثنان على أن الظروف الاقتصادية الصعبة التى تمر بها أم الدنيا الآن تدعو إلى وقفة مع الرقم المفزع (10 ملايين لاجئ) أو كما وصفهم الرئيس السيسى (ضيوف مصر)، فهذا الرقم أصبح بكل ما يحتويه من شتات عبئا على الدولة أمنيا واقتصاديا واجتماعيا وتعليميا وخدميا، لأنهم يقيمون فى معظم محافظات مصر، وإن كانوا يتمركزون فى القاهرة الكبرى والجيزة (6 أكتوبر والشيخ زايد) والإسكندرية ودمياط.
فما إن تدخل مسجدا أو سوقا أو حتى مدرسة او جامعة حتى تجد عددا كبيرا من هؤلاء، يشكلون بانتشارهم وإقامتهم الشرعية وغير الشرعية ظاهرة لافتة تحتاج إلى وقفة جريئة تجعلنا نستفيد من هذه الضيافة الدائمة التى تدفع الدولة فاتورتها بما يزيد على 10 مليارات دولار سنويا تمثل قيمة الدعم والاعفاءات والخدمات المقدمة لهم فى شتى المجالات الحياتية ولا سيما وأن 60% منهم يعيشون بيننا منذ أكثر من عشر سنوات ويتمتعون بكل حقوق المواطن المصرى فى المدارس والجامعات والمواصلات وغيرها من الخدمات، ويعمل نحو 37 % منهم فى وظائف ثابتة ومستديمة.
والسؤال الآن: ألا يقتضى الأمر من الضيوف أن يردوا جزءا من الجميل (الواجب الصعب) للشعب المصرى الضائع اقتصاديا والمخنوق سكانيا وإسكانيا، ويساهمون ولو بمبلغ شهرى أو سنوى يوجه إلى دعم المرافق والبنية التحتية التى يستخدمونها.
إن كل ما يقوم بفعله أى مهاجر أو لاجئ إلى مصر هو استخراج تصريح إقامة ومجموعة أوراق لا تكلفه سوى 200 جنيه مصرى و بما يعادل أربعة دولارات تقريبا، بعدها يحصل وبالتنسيق مع المفوضية السامية لشئون اللاجئين على بعض الدعم المادى وينطلق يبحث عن مأوى وعمل، متنقلا عبرالمواصلات شبه المجانية، آكلا شاربا من كل السلع المدعومة شأنه فى ذلك شأن أى مصرى.
بالذمة هل هذا كلام؟! وهل لو أى مصرى اتجه لأى دولة عربية أو اجنبية سيحظى بكل هذا الاهتمام والدعم؟.. أعتقد أن الاجابة يعرفها جميعنا.. وهى لا وألف لا، فأى إنسان يتجه إلى اى دولة بنية الاقامة عليه أن يدفع آلاف الدولارات من الرسوم والضرائب.. فلماذا لا نفعل ذلك.. ونحن الأحوج إلى كل دولار يصرف على كل لاجئ ومهاجر؟
وللحديث بقية إن شاء الله.
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: مصر جنسيات العالم
إقرأ أيضاً:
«جمال الغيطانى»
جميعنا سيطوينا النسيان، لا أحد يفلت من سطوة الزمن، ستتلاشى الذكريات، الأحاديث الحميمة، خطواتنا المتكررة أمام عتبات البيوت والسعى اليومى بين الشوارع والأمكنة، جلساتنا المبهجة على المقاهى ووسط الأحباب، الناجى الوحيد من محرقة دقائق العمر وساعاته هو الكاتب والمصور والرسام، هؤلاء يقومون بتسجّيل مضمون اللحظة التى تفنى عبر الكتابة والصورة الفوتوغرافية واللوحة الفنية، فستبقى رواية «قصة مدينتين» لتشارلز ديكنيز عن الثورة الفرنسية، وآلاف الصور الفوتوغرافية عن المجازر الإسرائيلية فى المخيمات الفلسطينية، ولوحة «جرنيكا» للرسام الأشهر فى القرن العشرين «بيكاسو» عن الحرب الأهلية الأسبانية.. حاضرة بكل عنفوانها صالحة للتفكيك من أجل الفهم والتأمل لكل جيل.
يدخل الروائى الكبير «جمال الغيطانى» فى المتاهة الزمنية مع هؤلاء السابق ذكرهم وغيرهم، كحكاء وصانع للسجاد وعاشق للمعمار وصوفى تغشاه التجليات، والغريب والعجيب من السرد فيسجلها بمداد القلم على الورق ممسكاً باللحظة حتى لا تتسرب منه.
لذلك كل الشكر والامتنان للقائمين على مؤتمر أدباء مصر فى دورته السادسة والثلاثين والتى ستنطلق يوم الأحد القادم فى محافظة المنيا، على تقديم الروائى الكبير الراحل «جمال الغيطانى» شخصية المؤتمر، بعد مرور تسع سنوات على غيابه جسدياً فى عام 2015.
كما أدعو إدارة المؤتمر أن تعيد تقديم ومناقشة ماقامت بنشره صحيفة «أخبار الأدب» فى الذكرى السابعة لرحيل مؤسسها الكاتب والروائى «جمال الغيطانى»، حيث قدمت فصلا من كتاب «المقريزى: وجدان التاريخ المصرى» الذى كان سيصدر فى ذلك الوقت للدكتور ناصر الربّاط أستاذ كرسى الآغا خان ل العمارة الإسلامية فى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا «MIT». وفيه يرصد التأثيرات التى دخلت على كتابة الغيطانى جراء تعمقه فى استلهام وتحليل كتابات المؤرخ البارز تقى الدين المقريزى، وكيف قام بتوسيع وتعزيز وإعادة تخيل الواقع الاجتماعى للقاهرة عبر السرد الخيالى.
شكل تقى الدين المقريزى، مؤرخ مصر الأهم، مصدر إلهام بالنسبة لجيل أدباء وشعراء ما بعد هزيمة ١٩٦٧. وأصبح بفضل تحليله التاريخى العميق ونفسه الوطنى العارم والمبثوث فى تضاعيف كتبه، وبخاصة كتابه الأهم، المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، نموذجًا للوطنية الحقة ودليلًا هادياً للبحث المؤلم عن الهوية ومثلًا عن مقاومة الفساد والقمع عن طريق الكلمة الجريئة والحس الأخلاقى الذى لا يساوم.
وقد امتد تأثيره إلى عدة أنواع أدبية تتراوح بين الرواية التاريخية والسيرة الذاتية الخيالية إلى السفر عبر الزمن والإرهاصات الشعرية الجريئة..
ولج المقريزى المجال القصصى والروائى على يد روائيين كبار على رأسهم المرحوم جمال الغيطانى الذى ولد فى قرية جهينة من صعيد مصر لكنه نشأ فى حى الجمالية القاهرى الذى خلدته ثلاثية معلمه نجيب محفوظ. لم يغادر الغيطانى فضاءات المدينة القديمة حتى عندما انتقل إلى الجزء الحديث من القاهرة. ظلت لديه أماكنه المفضلة فى قاهرة الفاطميين والمماليك- الأزقة والمنازل التاريخية والمقاهى، التى عاد إليها مرارًا وتكرارًا. أثرت هذه الأماكن، وعبق تاريخها، على كتابات الغيطانى الإبداعية بعمق، وتحول بعضها إلى إشارات مفعمة بالرسائل الانتمائية والحضرية والمعمارية الخالصة استخدمها الغيطانى لتأطير الكثير من رواياته فى المكان والزمان. علاوة على ذلك، لجأ الغيطانى، ربما كمظهر من رد فعل جيله على صدمة هزيمة ١٩٦٧ وتعثر مشروع النهضة والتحديث قبلها وبعدها، إلى التقاليد الأدبية العربية الكلاسيكية والتراث الصوفى. فهو، بجانب الإلهام التاريخى، كان يبحث بشغف عن نماذج من أساليب الكتابة الصوفية الإشراقية التى كان يمكن له أن يتبناها والتى سيزداد تأثيرها على أسلوبه فى التعبير والكتابة لاحقًا. كان الغيطانى، على حد تعبير المترجم الشهير همفرى ديفيز الذى ترجم نصوصًا لكل من محفوظ والغيطانى، رائدًا فى ابتكار «نوع من الواقعية السحرية ولكن من الطراز المصرى المكثف، له جذور فى تاريخ الأدب العربى ولكن أيضًا فى مجالات التصوف والغيبيات وما شابهها». كان نوع الخطط، بتركيزه الشديد على مصر، أحد الأشكال الأدبية التاريخية الرئيسية التى جذبت الغيطانى. وهى قد أثرت على مشروعه الروائى على مستويين: كدليل هادٍ لتاريخ وجغرافيا المدينة التى تؤطر بنية العديد من رواياته، وكأساليب نصية أصيلة تصلح للكلام عن الأماكن والمبانى التى احتلت حيزًا مهمًا فى سرد الغيطانى.
وأخيراً يقول عنه الناقد الأدبى الدكتور حسين حمودة: «لا يزال الغيطانى حاضرا معنا، فقد راهن دوما على أن يدفع سطوة النسيان، وهو درس الخلود الذى استقاه من أجداده الفراعنة.