"كشف الستار عن حالة ظفار" للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (3)
تاريخ النشر: 15th, May 2024 GMT
تحقيق - ناصر أبوعون
تِلكم الحلقة الثالثة، وقد آثرنا ألّا نسير في رِكاب المحققين التقليديين بالترجمة لصاحب المخطوط وجامعه وناسخه في صدر دراساتهم، وقد صارت هذه المزيّة عُرْفًا فشى فيما بينهم، ومن ثَمَّ ارتأينا إحالة الترجمة للأعلام إلى الفصل الأخير؛ وذلك لما تنطوي عليه رحلة الشيخ العلامة عيسى بن صالح الطائي إلى محافظة ظَفار من فوائد جمّة، وآثار مُهمة وهي في حقيقتها سِفر فريد، يحكي تراث ماضٍ تليد، ومجمعٌ للعلوم الشرعية والأفكار الإنسانية، وتضم بين دفتيها وصفًا للأقاليم والقرى، وتأريخًا للاجتماع والعمران، وتوصيفًا إحصائيًّا جامعًا للأعراق واللغات والقبائل، محمولة على أسلوبٍ سرديّ شائق.
فإذا ما نظرنا إلى العتبة الأولى في المخطوط وهي العنوان: "كشف السِّتار عن حالة ظفار"، أدركنا أنَّ المؤلف قد نحته ليوافق مقاصده، ويطابق مآربه؛ فالتمعن وتقليب النظر فيه يزيدنا يقينًا أنه لم يرد عفو الخاطر على ذهن الشيخ عيسى الطائي، وهو العارف بأسرار اللغة وعلومها، وبديعها وبيانها، ولا اقتضته الحاجة المُلّحة لتأريخ الرحلة ووضع تقرير صحفي، ولا أملته عليه ذائقة التوثيق، ولا صَدَر عن رغبة في تنميق الألفاظ وتوظيف السجع والازدواج، وإنما تَقَصَّدَه المؤلِّف عامدًا لَفْتَ أنظار المُطالعين، وجذب آذان السامعين، وأسر القراء الحاذقين إلى مفهوميْن يمكن تأطيرهما في صورة مفاتيح لغوية وأيقونات اصطلاحية؛ تضيئان الغامض الخفيّ، وتبرزان الواضح الجَلي هما: (كَشْف السِّتَار)، و(حالة ظفار).
لقد نَحَت الشيخ عيسى الطائيّ عنوان مخطوطه، وما يرشح عنه من دوال وإحالات مشتقًا من الإرث المعرفيّ والبيئة الثقافية التي عاش في ظلالها شاعرا وناثرا قبل أن يكون فقيهًا وقاضيًا؛ فأوّل عتبةٍ خطّها بيمناه قوله: "كَشْفُ السِّتَار"؛ والمعنى اللغويُّ للـ"كَشْف"؛ مقصودٌ به "رَفْعُ الغِطاءِ والحِجابِ" عمّا غمُضَ من تاريخ "ظفار"، وما غاب عن الأفهام من تراثها وتاريخها، وما خفي من سمات أهلها، وطبيعة جغرافيتها، وإزالة اللبس عمّا امَّحَتْ آثاره وتوارثه أهل ظفار العُمانيون من تقاليد اجتماعية، وأنشطة اقتصادية، وما اجتمعوا عليه من عقيدة التوحيد الثابتة والإشارة إلى تحوّلهم من المذهب الحنفيّ إلى الشافعيّ. ويتبدّى معنى "الكشْف" هنا في الدلالة على "الإِظْهارِ والبَيانِ"، وهو موافق لقول عبدالمطلب بن هاشم القرشيّ يخاطِبُ سيد قومٍ: "أشخَصَنَا إِليكَ الذي أَبْهَجَكَ بِـ(كَشْفِ) الكَرْبِ الذي فَدَحَنَا، فَنَحْنُ وَفْدُ التَّهْنِئَةِ، لا وَفْدُ المَرْزَئَة"(1).
ومن معاني "الكشف" الشائعة في هذا المقام: الإِبْرازُ، والتَّفْسِيرُ. في الاصطلاح الفقهي والعلم الشرعيّ في "الإحرام" و"اللباس" و"الحج وصفته"، ويُطلَق مصطلح "الكشف" أيضًا على "الخوارق" و"كرامات الأولياء" في علم الاعتقاد، ويُراد به عند الصُّوفيِّة العلمية لا الطرائقية: "الاطِّلاعُ على ما وَراء الحِجابِ مِن المَعاني العَلِيَّةِ والأُمورِ الخَفِيَّةِ وُجوداً أو شُهوداً" (2).
أمّا قوله "حالة ظفار"؛ فالحالةُ هي: الشَّأنُ والكيفيّةُ التي كان عليها إقليم ظفار العُمانيّ زمنَ رحلة الشيخ عيسى بن صالح الطائيّ إليها بصحبة السلطان السيد تيمور بن فيصل بن تركي، والمعنى الذي قصده هنا ورد فيه شاهدٌ من قول الشاعر الذبيانيّ بَيْهس بن هلال الفزاريّ: "الْبَسْ لِكُلِّ (حَالَةٍ) لَبُوسَهَا//إِمّا نَعيمُها، وإمَّا بُؤْسَهَا" (3).
أمّا كلمة ظفار، فقد جاء ضبط (ظائها) المعجمة على صور ثلاث:
فأمَّا الصورة الأولى: فجاء ضبطُها بكسر الظاء المعجمة؛ هكذا (ظِفار) وهو رأيّ متفرِّد وشاذٌ لا يُناصره أحدٌ، وربّما اسم (ظِفار) بالظاء المعجمة المكسورة مشتقٌ من اسم "نبات عطريٍّ شائع"، أو "شجرة اللبان" التي لا تنبت إلّا في هذه البقعة العُمانية من (أرض عُمان)؛ وقد أورده المؤرخ العراقي محمد جاسم المشهداني في بحث له بعنوان: تاريخ ظفار (4) وأشار إليه في عجالة دونما تأصيل.
أما الصورة الثانية: فقد قال بها اللغويُّ نشوان بن سعيد الحميري؛ وهو أحد أعلام الباحثين اليمنيين المُعاصرين، وقد فصّل في بحثه وفَرَّقَ من خلاله بين مدينتين متجاورتين في الإقليم كل منهما تَسَمَّت باسم (ظفار)؛ إحداهما يمنيّة والأخرى عُمانية، فقال بفتح الظاء المُعجمة لـ(ظَفار) علمًا على الولاية اليمنيّة الحميريّة، وقال بضم (الظاء) المعجمة (ظُفار) إشارةً الولاية العُمانيّة، وجذرها: (ظُفْر) وتُوزَن على (فُعَال)، وهي اسم موضع بمشارق اليمن (5)
أمّا الصورة الثالثة والأخيرة: فقد رجّحَ الشيخ عيسى بن صالح الطائيّ ضبطها بفتح الظاء، هكذا (ظَفَارِ)؛ ورأيه هذا يُشايعُ فيه أكثر اللغويين العرب قديمهم وحديثهم(6)؛ ومنه قول ابْن دُرَيْد: "الْجزع الظَفاري" مَنْسُوب إِلَى ظفار وَأنْشد: [(أوابد كالجزع الظفاري أَربع)]، وأنشد غيره: [(كَأَنَّهَا (ظَفارية) الْجزع الَّذِي فِي الترائب)]، ودلّ عليه حديث الإفك في قول أم المؤمنين عائشة- رضي الله عنها: [(فَإِذَا عِقْدٌ لِي مِنْ جَزْعِ أَظْفَارٍ قَدِ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ، فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي)] (7)، ومنه قول المرقّش الأصغر: [(تحلين ياقوتا وشذرا وصيغة // وجزعا (ظَفاريًّا) ودرًّا توائمًا)]. وإذا ما تتبعنا الظهور التاريخيّ ربّما وجدنا (الظاء المعجمة) الفصيحة المفتوحة انقلبت إلى (سين مهملة) مفتوحة ورد ذكرها في سفر التكوين إشارةً إلى مدينة (ظَفار) في قوله: [(وَكَانَ مَسْكَنُهُمْ مِنْ مِيشَا حِينَمَا تَجِيءُ نَحْوَ (سَفَارَ) جَبَلِ الْمَشْرِقِ)] (8)، وقد أسهبت (دائرة المعارف الكتابية المسيحية) عند (شرح الكتاب المقدس) في شرح مفردة (سَفَار/ظَفَار) فقالت: [(يبدو من المؤكد أن "سفار" هي "ظفار" في العربية؛ ولكن هناك مدينتين بهذا الاسم في شبه الجزيرة العربية، إحداهما تقع إلى الجنوب من صنعاء، ويقول تقليد قديم إن الذي بناها هو شامير أحد ملوك سبأ، وقد ظلت لهم عاصمة زمنًا طويلًا. و"ظفار" الثانية تقع على الساحل الشرقيّ في منطقة "الشحر" إلى الشرق من حضرموت، والأرجح أن "ظفار" الثانية هي المُشَار إليها في سفر التكوين 10:30.)].
ولأن الشيخ عيسى الطائيّ مشتغلٌ بالفقه وعلوم الشعر واللغة، فقد ناصر القول بفتح الظاء قائلا في مخطوطه: "ضَبْطُ اسمِها كمَا ذكره ابنُ بطوطة بفتح الظَّاء المُعْجَمة وكَسْرُ الرَّاء، وهي مبنيَّة على الكَسْر كـ(حَذَام) و(قَطَام)، وكل ما كان على وزن (فَعَال) علمًا لمؤنثٍ يُبْنَى على الكسر) (9)، لَا ينْصَرف وَيرْفَع وَيُنْصب، وقد فرّقَ الطائيّ بين (ظُفَار اليمنية) و(ظَفَار العُمانية)، بالإشارة إلى ما تمتّعت به (ظَفَار العُمانية) من اهتمام في سائر الأعصر التاريخية وعلى الأخص في عهد الدولة المنجويّة.
************************************
مراجع التحقيق:
(1) جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة: أحمد زكي صفوت، المكتبة العلمية، بيروت، ط 1، (1352 هـ 1934م) 1/77
(2) جمهرة اللغة: (2/874)- تهذيب اللغة: (10/18)- العين:(5/297)- البحر الرائق شرح كنز الدقائق: 1 /183- شرح مختصر خليل للخرشي: (3/188)- شرح العقيدة الطحاوية: (2/753)- الصفدية:(1/187)- كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: (2/1366)-معجم لغة الفقهاء:(ص 381)- كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم: (2/1366)- المحكم والمحيط الأعظم: (6/689) - لسان العرب: (9/300)- الـمجموع شرح الـمهذب:(3/165)- كشاف القناع عن متن الإقناع:(1/263)- معجم لغة الفقهاء:(ص 381)- الموسوعة الفقهية الكويتية: (34/256)
(3) شعر قبيلة ذبيان في الجاهلية: جمع وتحقيق ودراسة: سلامة عبد الله السويديّ، مطبوعات جامعة قطر، الدوحة، (1408هـ - 1978م، ص:285
(4) "تاريخ ظفار حتى سنة 798هـ/ 1396م"، محمد جاسم حمادي المشهداني، بحث منشور بندوة ظفار عبر التاريخ، ص:78.
(5) كتاب "منتخبات من أخبار اليمن من كتاب شمس العلوم ودواء العرب من الكلوم"، نشوان بن سعيد الحميريّ، ط3، اعتنى به وصححه عظيم الدين أحمد، دار التنوير للطباعة، بيروت:1986م، ص ص 67- 68.، طالع أيضا بحثا بعنوان: "ظفار التسمية والدلالة التاريخية، سالم الكثيري، مركز حضرموت للدراسات التاريخية والتوثيق والنشر.
(6) "معجم ما استعجم من أسماء البلاد والمواضع". مج3، ج3، ط1، تح: جمال طلبة، دار الكتب العلمية، بيروت:1998م، ص169.
(7) صحيح البخاري (3/ 173) (2661) وصحيح مسلم، ح: (2770)
(8) سفر التكوين (10 :30)
(9) "مخطوط كشف الستار في حالة ظفار" جزء من مخطوطة بعنوان: (مجموعة من القصائد والحكايات والسير ودروس النحو) جمعه محمد أبو ذينة، وهو عالم تونسيّ استقدمه السلطان تيمور وكلَّفه بمهمة التدريس لعدد من البنين والبنات العُمانيات في منزل استؤجر لهذا الغرض وأصبح يعرف فيما بعد بمدرسة بوذينة، ونسخه عيسى بن عبد الله البشريّ أو البوشريّ، ص:301.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مبادرة لتوطين 40 ألف ذريعة من "الصفيلح" لتعزيز المخزون الطبيعي
صلالة- العُمانية
يُنفذ مركز بحوث الثروة السمكية بمحافظة ظفار التابع للمديرية العامة للبحوث السمكية بوزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، مبادرة توطين 40 ألف زريعة من أذن البحر "الصفيلح"؛ ضمن أعمال البرنامج الدوري لتعزيز المخزون الطبيعي للصفيلح العُماني، والحفاظ على الموارد البحرية وتحقيق استدامة المصائد السمكية، إذ تشمل المبادرة المناطق الرئيسة للصيد في مرباط وسدح وحدبين وحاسك، بعد انتهاء موسم صيد الصفيلح مباشرةً للعام 2024.
وقال المهندس سالم بن أحمد الغساني مدير مركز بحوث الثروة السمكية بمحافظة ظفار إن هذه المبادرة تعكس إدراك الوزارة أهمية أذن البحر كونه عنصرًا أساسيًّا في النظام البيئي البحري وموردًا اقتصاديًّا وثقافيًّا؛ إذ يُسهم تعزيز المخزون الطبيعي في معالجة مشكلات انخفاض أعداد أذن البحر الناجمة عن الصيد الجائر وتدهور الموائل الطبيعية، مما يعزز استدامة هذا المورد للأجيال القادمة.
وأضاف أن الصفيلح مصدر مهمٌّ للتنوع البيولوجي، ويقوم بدور في دعم التوازن البيئي للشعاب المرجانية، إلى جانب قيمته الاقتصادية العالية، خاصةً في الأسواق الآسيوية، ما يجعل استدامته ضرورة لدعم مصادر الدخل للصيادين المحليين والمجتمعات المرتبطة بهذا القطاع.
وحول أهداف مبادرة برنامج تعزيز المخزون الطبيعي وتوطين زريعة الصفيلح العُماني وضح مدير مركز بحوث الثروة السمكية بمحافظة ظفار أنّ البرنامج يهدف إلى الإسهام في استدامة المخزون الطبيعي للصفيلح في المناطق المستهدفة من خلال توطين زريعة صفيلح مُنتجة في محطة الاستزراع السمكي بولاية مرباط وتوزيعها على مناطق الصيد في محافظة ظفار، مبيّنًا أن هذه الزريعة تُنتج عن طريق تحفيز أمهات الصفيلح للتكاثر في الأحواض، ثَمَ تربية الصغار المُنتجة لمدة تصل إلى 8 أشهر قبل استخدامها في أنشطة التوطين.
وتابع أنّ الزريعة المُنتجة تخضع للفحص المخبري للتأكد من خلوّها من مسببات الأمراض قبل توطينها في الطبيعة، ومن المتوقع أنّ تعود هذه الجهود بالفائدة على الصيادين المحليين من خلال زيادة الإنتاجية في المستقبل، إلى جانب دعم الصناعات المتعلقة بتجهيز وتصدير أذن البحر.
وأوضح أنّ هذه المبادرة تُسهم في وعي المجتمع المحلي بأهمية الممارسات المستدامة، مما يعزز روح الشراكة مع الصيادين للحفاظ على الموارد البحرية، بالإضافة إلى توفير الفرصة لجمع البيانات اللازمة لتحسين استراتيجيات إدارة المصائد البحرية في المستقبل.
وعن التحديات التي تواجهها المبادرة بيّن مدير مركز بحوث الثروة السمكية بمحافظة ظفار أنه رغم النجاح الأولي للمبادرة، لا تزال هناك تحديات تتعلق بمعدلات بقاء أذن البحر المزروع ما يتطلب تعزيز الجهود لحمايته من المفترسات والضغوط البيئية، إلى جانب استعادة وحماية الموائل الطبيعية التي تعد أساسية لنجاح توطين أذن البحر، مؤكدًا على أنّ تطبيق اللوائح المنظمة للصيد، المتمثلة في تحديد المواسم والأحجام المسموح بصيدها، يعد أمرًا بالغ الأهمية لضمان استدامة هذا المورد، لافتًا إلى أهمية إشراك المجتمعات المحلية في هذه الجهود من أجل تحقيق نجاح مستدام للمبادرة.
وأكد مدير مركز بحوث الثروة السمكية بمحافظة ظفار على أنّ توطين زريعة أذن البحر وتعزيز مخزونه الطبيعي يمثل خطوة إيجابية نحو تحقيق الاستدامة البيئية والاقتصادية لمصائد في ظفار، خاصةً إذا تزامنت هذه الجهود مع استراتيجيات فعّالة للرصد والحماية، كما يمكن أنّ تصبح المبادرة نموذجًا يُحتذى به في إدارة الموارد البحرية على المستويين الإقليمي والعالمي.