تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
لا أذكر بالتحديد من الذي كتب تلك الكلمات لكنني أذكرها جيدًا.. "نحن لا نعيش في واقع سيئ.. بل إننا نحن هذا الواقع السيئ".. مرت بي هذه الكلمات الأسبوع الماضي أثناء تصفحي لصفحات عامة على الإنترنت.
مرت ولم أعرها اهتمامًا كبيرًا. لكنني وجدتها تدق في رأسي كثيرًا بعد فترة. وتذكرت كلمات الراحل غاندي: "كن أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم".
نشأت بين أفكار عملية جدًَا. حرصت والدتي على أن تكون مكتبتنا مجالًا للتطبيق أكثر من كونها مجالًًا للحلم. أتذكر أنني في وقت ما ملتُ لقراءة الشعر وكتابته. ويبدو أن شيئًا في جيناتي كان يجعلني أرتجل الشعر ارتجالًا شفهيًا. لكن كراهية أمي للشعر لأنه يبالغ ولا يصل كثيرًا لم تحملني على الاستمرار. شعرت في وقت ما أن الوزن والقافية وحتى التفعيلة الحرة سجن يقيدني، وأنا أحب حريتي. إذا وضعتم أنفسكم بهذا المنطق العملي مكاني ونظرتم لواقع تعيشونه ولا تحبونه، أيًا كان هذا الواقع، فإنكم ستميلون فعلًا للبحث عن دوركم فيه. إن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة كما قال ابن الخطاب، كما وأنها بالتأكيد لا تمطر قطرانًا ولا لهبًا بالتبعية. يعبر عن تلك النظرة العملية التي تعني أننا ما دمنا جزءًا من زمن فإننا نحمل مسؤولية عمارته. ما قاله الشافعي رحمه الله:
نعيب زماننا والعيب فينا
وما لزماننا عيب سوانا
يبدو أن كراهية الأفراد لزمانهم توجد لدى البشر منذ الأزل. إذ وجد في البرديات المصرية القديمة كلمات يهجون فيها الزمن السيء الذي صارت فيه النساء يقضون وقتًا طويلًا ينظرون فيه للمرآة. ووصلنا بيت الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة، والذي علقت عليه السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها "رحم الله لبيدًا.. كيف لو أدرك من نحن بين ظهرانيهم؟!". تقول هذه الأبيات للبيد:
رحلَ الذين يُعاشُ في أكنافهم
وبقيتُ في خلفٍ كجلدِ الأجربِ
إلا أن النظرة العملية التي أتحدث عنها لا تعني أننا سيئون بالضرورة لأننا في زمن لا يعجبنا، فقد نكون كما يشدو مدحت صالح بكلمات مدحت الجمّال: "رافضك يا زماني". إذ تُعد النظرة للحياة وأمورها فلسفة خاصة بكل منا على حدة. لكن العبارة التي قرأتها لاقت في نفسي ميلًا يتلاءم مع كوني مولودة في قلب برج الحمل وليلة "شم النسيم" إذ أن مواليد هذا البرج ملعونون بتكرار المحاولة وتحمل وجع جروح الارتطام المتكرر بالحوائط التي لا تقع ولا تستجيب للأمل. لذا فإننا دائمًا لا نرى الأكواب الفارغة فتنكسر مخلفة جروحها في بواطن أقدامنا، ومع ذلك لا نتوقف عن السيرمجروحين. مهما كان الواقع حولك سيئًا، حاول أن تكون أنت التغيير الذي تريد أن تراه في العالم، حتى لو كان هذا التغيير أن تخرج هذا الصباح في كامل أناقتك لأنك لا تملك غير ذلك.
المصدر: البوابة نيوز
إقرأ أيضاً:
في إصلاح الواقع العربي: الكشف عن الهويات المستترة للعنف
يجد مفهوم العنف حيزًا واسعًا من التداول الأكاديمي في حقول العلوم الإنسانية، والسبب وراء هذا الاهتمام المتزايد ما نعيشه من شرعنة غير معلنة لأشكاله المختلفة، فالعنف مغذٍ رئيس لجملة مظاهر السلوك المؤذي والمصوب من الفرد تجاه الآخر، ولذا فإن العنف يُفَسر على أنه فعل فردي يعتمد القوة البدنية لإلحاق الأذى بالآخرين. لكن رغم الاشتغال النظري الموسع لمفهوم العنف في حيز العلوم الإنسانية، إلا أننا نجد من الضرورة البحث في خلفيات أخرى لمعرفة الطبائع الاجتماعية للعنف وليس الوقوف فقط عند حيز التعريفات المُعَممة لصالح فهم الإطار الكلي له كمسألة اجتماعية. والحقيقة أن العنف ليس ظاهرة اجتماعية بالمعنى الدقيق، فالذي نرهنه في تحليلنا هنا هو البحث عن العوامل الخفية في تركيب العنف كآلية فعل فردي أو جماعي، وهو تحليل يروم الكشف عن مظاهر غير مشخصة ولكنها هي تلك التي تتغذى عليها عمليات العنف الاجتماعي، فما هي هذه المصادر؟!
إن اقتصار العنف على المعنى المادي باعتباره يملك تأثيرًا مباشرًا على الجسد؛ جسد الآخر، فإنه يقودنا مباشرة للكشف عن أبعاد أخرى يتمظهر فيها العنف أكثر حضورًا وتشكل، وهي الأبعاد الرمزية له، فالعنف أو أي فاعلية اجتماعية تملك شكلها المادي ما هي إلا تعبير مشخصن لحالات لا نملك الكشف عنها رغم محايثتها الجوهرية مماسةً كل فعل خطر، ورغم الأشكال المختلفة للعنف من «مادي ورمزي، فردي وجمعي، عفوي ومؤسسي..» إلا أن الهدف من العنف دائمًا هو إحراز أكبر قدر من الإخضاع للآخر المستهدف، آخر مطلوب منه في أثناء ونهاية الفعل المركب ضده أن يوفر للأنا العنيفة إذعانا مقتلعا بقوة الأذى، هو تشريس يعتمد قهر الإرادة، وسحق الذات عبر بسط المسافة بين الكرامة والإذلال. لكننا أيضًا لا نزال نوظف التعريفات التقنية لماهية العنف، ونفعل ذلك رغم الحاجة الماسة لمعرفة من أين تتغذى هذه الفاعلية العنفية، فاعلية: «الإذلال والامتهان والتحقير...إلخ» وتستمد جدارتها، فليس تقوم الأفعال الاجتماعية على استقلال ماهويٍّ، بل هي في أصلها عرضٌ لا يعيش زمانين، ولذا فإن المستتر خلف القدرة على ممارسة هذه الأشكال من الفعل تتكشف فيه حالات المغايرة، فلو عُرضت على فاعلها في غياب سياق توظيفها لأنكر قدرته على الإتيان بها، بل واستقبحها واعترضته بلاغة الإنكار، ولذا السؤال هو: من أين يستمد المستعَنِف هذيانه الذي يجعله يغيب عن إنسانيته، بل تتخفى عنه إنسانية المستعَنَف وكأنه لا شيء؟
والحقيقة أن في ثقافة كل الشعوب بنىً للعنف يتراجع مدها بحسب انتقال البنية الأم لها من الحقائق إلى التمجيز، فالشعوب التي قطعت مع ماضيها البدائي أو على الأقل حجَّمت من حضوره الممتد استطاعت أن تُخَلِص نفسها من تبعات الإرهاق غير الخلاَّق والذي يشدها إلى ماضٍ كانت تقوم فيه العلاقات بين الأفراد على معنى واحد أصيل، وهو: الإخضاع «..فكرة الصياد والفريسة» كملمح من مظاهر البدائية البشرية، وهي شعوب لم تصل إلى هذا الحد مما يسمى بالتحضر إلا بعد أن اجتازت ودون عفوية بل وبكلفة عالية مراحل من قطيعة مع ماضيها البذيء، ومن يتتبع لحظات كبرى في تاريخ الفلسفة الغربية سيجد أن العنف كان هو المادة التي انسلت منها مظاهر الحداثة، فهيجل (القرن الثامن عشر) يرى أن الصراع ومادته العنف هو الذي يوفر للفرد إمكانية التحقق والوجود، بالطبع وفق منطق القوة، بل حتى كارل ماركس المؤسس لنظرية الصراع، كان حاديه في ذلك أنه وبالعنف يسع البشرية أن تصنع مجتمعها الحر، وهذا ما يعرف بالصراع الطبقي، وهو صراع يعتمد العنف كآلية منتجة وفعَّالة، بل إن منطق الغرب الآن في إخضاع كل ما هو غير غربي يعتمد بالأساس على أفحش أشكال العنف ضد الآخرين. هذا ما يتصل بالغرب أما ما يلينا نحن في ثقافتنا العربية، فتراثنا الذي يُقرأ عادة في لازمانه، ويُعمَلُ على تحيينه بالقوة، هو تاريخ مثله مثل تاريخ أي أمة فيه من العنف الكثير ولكنه العنف المتصل بالظاهرة، وحضوره في راهننا هو عين ما يشير إليه بيير بورديو بالنقطة العمياء، ويقصد بأن الترميز في الفعل الاجتماعي هو «اختلاس» غير مرئي لبنية مُغيبة عن التداول لكنها تملك قوتها الدلالية التي تمنح الفعل القدرة على الاتصال والتواصل، وهذه هي البنية المستترة في ظاهرتنا العربية والتي تتغذى عليها عمليات العنف، أي «التراث» فلأننا أمة لا زالت لا تملك الانصراف بعيدًا عن مسرحها المُسَمر في ذاكرتها، فهي تظل باستمرار تعتاش في أزماتها الكبرى على اصطفاء غير نبيل لمجريات تاريخها الثقافي، ودونكم عمليات الاستيداع التي يقوم بها من يمارسون العنف بصورة ممنهجة، وهو استيداع عكسي، أي بدلا عن أن ينطلق من التراث إلى الحاضر، فإنه ينقل هذا الحاضر ويرهنه بالكامل إلى مماثلات له في الماضي المستحضر بإرادة غلاَّبة، هذا الأمر واضح جدا، فالعنف الطائفي في مجتمعاتنا العربية رهين لصراع السقيفة، والعنف الثقافي الهوياتي ابن بكر للحظات التأسيس في تاريخنا الثقافي ولذا فإنه ليس أمام الممتهنين للعنف إلا العودة لإثبات حقيقة نتغيب عنها وهي أننا أمة لا زالت تعيش في علاقة مضطربة مع التراث والواقع، علاقة غير شرعية تتخذ بل تستل من دفتر التاريخ العربي صراعات هي بنت زمانها، لكننا وبسبب غياب الحس التاريخي، وغلونا في تمثيل أنفسنا لزمان غير زماننا، نظل نجذر للعنف ونَمُدهُ بأسباب من ماضينا، أسباب لم نعترف بعد بأنها نتيجة طبيعية لعلاقات بين البنى الاجتماعية التي تصارعت وفق قانونها الخاص حينذاك، وعمليات نقلها إلينا ستظل مستمرة إذا لم نعيد بناء علاقتنا بهذا التراث، أي أن نجعل منه مادة لانتخاب اللحظات المنتجة للبناء لا التخريب، أن نفهم أن للحاضر شروطه، ولا يعني هذا قولنا كما ينادي البعض بالقطيعة مع هذا التراث، فهذا أمر ليس من الممكن بالأساس.
إن دعوتنا ولصالح القضاء على مظاهر العنف في مجتمعاتنا العربية أن نعمل على تجفيف مصادر العنف، والكشف عن البنية الصلبة له. وهي بنية مضمرة في وعينا التاريخي، وسيظل أهم سؤال يواجه مجتمعاتنا العربية والتي تكرست فيها أشكال من العنف الممتد هو: كيف يمكن التغلب على مصادر العنف الاجتماعي التي وفرت لهذا التوحش أسباب البقاء؟ وبعد الكشف عن الهويات المستترة له، سيصبح بالإمكان إيقاف النزيف، وعلاج الجرح في مكمنه.
غسان علي عثمان كاتب سوداني