من سعة أراضي جراش إلى ضيق المخيم.. قصة تهجير الفلسطينية خضرة
تاريخ النشر: 15th, May 2024 GMT
بيت لحم- في أزقة مخيم الدهيشة للاجئين بمدينة بيت لحم في الضفة الغربية، سارت الجزيرة نت بحثا عن منزل المسنة خضرة رمضان، التي تعيش هنا قسرا وترفض الاعتراف ببيتها الصغير كمكان سكن دائم، لأنها تصرُّ على حقها في العودة إلى قريتها "جراش" في قضاء القدس، والتي هجّرت منها إبان النكبة.
لا يكاد يخلو جدار واحد في مخيم الدهيشة -الذي تأسس عام 1949- من عبارات رفض الاحتلال وتمجيد المقاومة الفلسطينية، وشهداء المخيم الذين ارتقوا على مرّ السنوات.
كما يتسلل إلى أنف الزائر في كل زقاق رائحة أكلة المقلوبة الفلسطينية التي تفوح من مطابخ نساء المخيم خاصة يوم الجمعة.
شعارات رفض الاحتلال وتمجيد المقاومة وأسماء المقاومين على جدران أزقة مخيم الدهيشة (الجزيرة) حارة الجراشيةفي حارة أزقتها ضيقة يُطلق عليها أهالي المخيم حارة "الجراشية" أو "الرمضانية" نسبة لعائلة رمضان وقرية جراش التي هُجروا منها، يقع منزل اللاجئة المسنة خضرة، حيث باب حديدي بُنّي لا يشبه أبدا مدخل منزل عائلتها في قريتها المهجرة، ولا تشبه ملامح بيتها الحالي منزل الطفولة.
ولدت خضرة عام 1936 في قرية "جراش" القائمة على السفح الغربي الأدنى لأحد جبال القدس، وهي محاطة بأودية من الجنوب والغرب والشمال، وتربطها طريق فرعية تخترق قرية "سُفلى" المجاورة بطريق القدس-بيت لحم، وكانت القرية مستطيلة الشكل، وبنيت معظم منازلها من الحجارة.
هذا وصف المؤرخ الفلسطيني وليد الخالدي لموقع القرية وفقا لما ورد في موسوعة "كي لا ننسى"، لكن وصف خضرة كان أكثر شاعرية لقريتها، وقالت بحسرة تؤلمها منذ 76 عاما "كان منزلنا يتكون من طابقين: السفلي للدواب والعلوي لأفراد الأسرة، وكانت غرف المنزل ذات سقوف مقببة عالية ومساحتها كبيرة".
تنطق خضرة بهذه الكلمات، وتنظر إلى سقف منزلها المتهالك في المخيم، فتتألم ثم تصرُّ على مواصلة حديثها الذي تتخلله الكثير من المصطلحات الغريبة عن الأجيال الجديدة.
اللاجئة خضرة رمضان تشرح لحفيدتيها عن العروق التي اشتهرت بها أثواب قرية جراش المقدسية (الجزيرة) أرض الخيرات"كنّا نقضي أوقاتنا في الزراعة والعناية بالأرض، ولكل شهر في السنة هناك مهمات للفلاح.. نبذر الحبوب ونغرسها في الأرض بعد حرثها، ثم ننتظر نضوجها لنحصدها ثم نقطفها ونحتفظ بها في الخوابي وهي الغرف الطينية المخصصة لتخزين المحاصيل المقطوفة".
القمح والعدس والشعير والذرة والحِلبة وغيرها تُزرع في أوقات محددة من السنة، وعلى مدار العام كان يهتم أهالي جراش -وفقا لخضرة- بأشجار قريتهم المثمرة كاللوز والزيتون والتين، وبالمزروعات التي تستخدم للاستهلاك اليومي كالبندورة والورقيات بأنواعها والكوسا والباذنجان وغيرها.
"عشت طفولة جميلة.. ساهمت في كل الأعمال التي تقع على عاتق النساء بالأرض، كما تعلمتُ التطريز الفلسطيني التراثي، وصنعت بعض الأثواب قبل تهجيرنا، وأحتفظ بها حتى الآن، وأشهر الغُرز التي اشتهرت بخياطتها نساء جراش هي العصافير وعروق الدوالي والوردتان والريش".
الرحيل المر
وبمجرد وصول الشهادة الحيّة لهذه المسنة إلى محطة التهجير واللجوء، تغيرت نبرة صوتها وقالت بألم عميق "لازم الكل يعرف أنه كانت لدينا أراضٍ تقلب الرأس (في إشارة لكثرتها)، وإننا خرجنا من بلدنا مجبرين بعد معركة باب الواد ورحيل كافة أهالي القرى القريبة منا مثل سُفلى وإشوع ودير ابان وصرعة وعرتوف".
"عندما وصلت العصابات الصهيونية إلى قرية دير ابان استهدفوا أهلها مرارا بقذائف الهاون وأسلحة أخرى، ولم يكن أمامنا خيار سوى الرحيل، فركبنا في سيارتَي شحن يملكهما خالي وودعنا القرية بألم، لكن بأمل أننا سنعود إليها".
ومع مشاهد نزوح الغزيين في الشاحنات خلال العدوان الحالي على القطاع، انتعشت ذاكرة خضرة برحلتها المُرّة بعيدا عن قريتها. وقالت "لا أستطيع أن أرى بعيني من كثرة البكاء على الغزيين، يتعرضون لإبادة أبشع من تلك التي تعرضنا لها عام 1948.. وأبكي عليهم لأنني أعرف ما ينتظرهم الآن من شتات وتيه بعيدا عن منازلهم وأراضيهم".
منازل قرية جراش المهجرة نسفت بالكامل (الجزيرة) طريق الهجرةكانت قرية "بني نعيم" قضاء الخليل الوجهة الأولى لأهالي جراش، ومن هناك لجؤوا إلى قرية "جورة الشمعة" ثم إلى "بيت سكاريا" قضاء بيت لحم، قبل أن تتزوج خضرة بابن عمها عام 1950، وتستقر معه في مخيم الدهيشة للاجئين الذي يضم الآن 13 ألف لاجئ فلسطيني تعود أصولهم لـ45 قرية من غربي القدس ومنطقة الخليل، وفقا للموقع الإلكتروني لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
تقول خضرة إنها أحصت بشكل شخصي عدد أهالي جراش الذين خرجوا من القرية وكانوا 300 نسمة. وأوردت موسوعة "كي لا ننسى" في توثيقها لقرية جراش أن عدد سكانها بين عامي 1944 و1945 كان 190 فلسطينيا يعيشون في 33 منزلا.
نجحت هذه اللاجئة في زيارة قريتها المهجرة مرارا بعد النكبة، وقبل أن تطبق الحواجز الإسرائيلية العسكرية الخناق على أهالي الضفة الغربية.
وتذكر أن المنازل نُسفت بالكامل، لكنها حرصت على الوقوف على أطلالها، وهو ما ينسجم مع المعلومات الواردة في الموسوعة من أن الأعشاب تغطي موقع القرية، وتتخللها بقايا المنازل المدمرة وركام المصاطب، وأن أشجار الخروب والزيتون واللوز والتين لا تزال صامدة فيها.
بعض القرى المهجرة حولها الاحتلال إلى محميات طبيعية (الجزيرة) من الطنطورة إلى غزةطيلة ساعات مكوثنا في منزل كان تعلقها في الماضي باديا في كل أحاديثها، فعندما تزوجت أحضرت معها لمنزل زوجها 12 ثوبا تراثيا فلسطينيا، وكلما أوشك أحد الأثواب على التلف قصّت أجزاء منه، وصنعت منها وسائد وتحفا تراثية تزين فيها مجلسها الصغير بالمخيم.
وقبل أن نودعها، أفصحت للجزيرة نت عن أمنيتها قائلة "أتضرع إلى الله ليلا ونهارا بأن ينصر الفلسطينيين، ويعيدهم إلى وطنهم ليعيشوا فيه آمنين، وأن تشفق كافة الدول على النازحين والقابعين تحت القصف لإنهاء هذه المذبحة.. كانت حسرة مجزرتي دير ياسين والطنطورة ترافقني منذ عام النكبة والآن حسرة غزة انضمت إليهما، وسترافقني حتى مماتي".
خرجنا من منزل خضرة وهي منهمكة في شرح عروق أثوابها لحفيدتيها، وكلما أخطأت إحداهما بمعلومة تنفعل المسنة وتعيد الشرح، فهذا التراث والتاريخ يجب أن يُنقل بدقة لكافة الأجيال في ظل محاولات التشويه والتهويد التي يتعرض لها كل ما هو فلسطيني منذ عام النكبة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات مخیم الدهیشة بیت لحم
إقرأ أيضاً:
إلهامات أهالي نزوى
ابن الخال لا يكف دومًا عن الإشادة بأهالي نزوى، مع العلم أن ليس له ناقة ولا جمل، كما يقال فـي المثل، بنزوى وأهلها، لكنه وكما يقول هو بأنهم «يضربون أروع الأمثلة فـي حبهم للعمل أيًا كان، ولا تجد منهم باحثًا عن عمل أو مسرحًا منه». جولة سريعة فـي أي سوق فـي العالم كفـيلة بأن تنبئك بحال أهل تلك البلاد، وهذا ما يخبرك عنه سوق نزوى حيث ترى الصغار قبل الكبار يتسابقون قبل انبلاج الفجر إلى عرصات السوق، هذا يبيع المواشي وآخر يبيع الفواكه والخضروات، وغيره الحُلي والذهب، وآخرون متوزعون فـي حارات نزوى وبين أروقتها ومقاهيها ومحالها التجارية. باختصار، لا أحد فـي نزوى يشتكي من عدم توفر فرص للعمل، فالمدينة بأكملها منطقة حرة مفتوحة للعمل وعلى كل المستويات للمتعلمين وغير المتعلمين، وحاملي الشهادات وأصحاب التخصصات، وغيرهم ممن لا يملك من المؤهلات حتى القراءة والكتابة. إلهامات أهالي نزوى تعدت توفـير فرص العمل إلى ابتكار بيئة الأعمال، فقاموا بترميم بيوتهم الطينية فـي حاراتهم القديمة وتحويلها إلى نزل تراثية ومساكن ومقاهي، واستثمروا فـي إحياء البيوتات المتهدمة والأسوار المتداعية فرمموها وحافظوا عليها، وجعلوها وجهة سياحية للجميع من الداخل والخارج. أهالي نزوى قاموا بتأسيس شركة أهلية للتنمية والاستثمار تقوم بالاستثمار ليس فقط فـي المجالات السياحية، بل فـي اللوجستيات والتعدين والنفط والغاز والطاقة الخضراء والأمن الغذائي ككيان استثماري يهدف إلى تعزيز القيمة المحلية وتوسيع قدرات المجتمع المحلي فـي الاستفادة من الاستثمارات سواء فـي نزوى أو غيرها من الاستثمارات التي يمكن جلبها داخل سلطنة عمان أو خارجها. وتعدّ هذه الشركة من إلهامات أهالي نزوى الساعية نحو خلق نموذج اقتصادي عماني يعتمد على المجتمع المحلي بنسبة مائة بالمائة فـي الإدارة والتمويل والبناء، بدلًا من النماذج التقليدية التي تنتظر الاستثمارات الحكومية أو استثمارات القطاع الخاص فـي تشييد وبناء المشروعات الصغرى والكبرى. قد يقال لماذا نزوى بالذات؟ ولماذا أهل نزوى هم من سلطت عليهم الضوء فـي مقالك هذا دون غيرهم من المحافظات التي هي أيضًا لها إسهامات وإلهامات فـي مجالات عدة قد تفوق تجارب أهالي نزوى فـي الاهتمام بالتراث والحضارة والاستثمار وتوفـير فرص العمل؟ يكمن الجواب على هذا التساؤل المشروع فـي أن لكل محافظة وولاية فـي عمان قصة يجب أن تُروى وتُحكى وتُسمع ويُنصت لها، بحكم التنوع الطبيعي والجغرافـي والمناخي الذي يميز كل منطقة عن غيرها، وهذا ما يعد مصدر قوة لا ضعف لكل محافظة عن غيرها. فمثلًا، قصة محافظة ظفار تعدّ قصة نجاح جميلة فـي الترويج السياحي والإعلامي لسلطنة عمان كوجهة سياحية على مدار العام، وفـي استقطاب أعداد هائلة من السياح من الداخل والخارج طوال فترة الخريف، وهذا أيضًا ما ينطبق على محافظة مسندم كونها قصبة عمان وتزخر مياهها بالعديد من المقومات السياحية والبيئية وتستقطب أفواجًا من السياح، وينطبق أيضًا هذا الوصف على محافظات الشرقية وبعض أجزاء من الباطنة. غير أن ما يميز نزوى ويجعلها مصدر إلهام هو ليس موقعها الجغرافـي أو تاريخها الحضاري الضارب فـي القدم أو عمارتها أو أسواقها أو طقسها الجميل، وإنما هم أهلها؛ أهالي نزوى ممن يملكون العزيمة والإصرار لتحويل مدينتهم إلى مكان نابض بالحياة، تتوافر فـيه كل مقومات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والسكانية، وفوق كل هذا تتميز فـيه إرادة الإنسان العماني فـي الفخر بمدينته التي يسكنها، والرغبة الجامحة فـي تنميتها وتطويرها بعيدًا عن انتظار الآخر الوافد ممن يقوم بالبناء والتعمير. فـي علوم إدارة الأعمال الحديثة هنالك ما يسمى بنموذج بيئة الأعمال الناجحة أو كما يُترجم بالإنجليزية بـ«البزنس مودل»، وهو الوصف التفصيلي للقيمة الحقيقية للمنتج أو الخدمة المقدمة للجمهور، والتي يمكن أن تميز البعض عن غيرهم من المنافسين وتجعلهم ينجحون أسرع من غيرهم. وبتطبيق هذا المبدأ على الإدارة الحديثة للمحافظات، فإنه يمكن خلق بيئة ناجحة للأعمال تميز كل محافظة أو مدينة عن غيرها، مثلما هو الحال اليوم مع مدينة نزوى التي استطاعت أن تخطط لنفسها طريقًا مغايرًا عن الآخرين بفضل عزيمة وإصرار أهلها، التي وكما وصف ابن الخال أبناءها مرة أخرى بأنهم «يُولدون وهم تجار». |