في مطلع الشهر الجاري استكملت المحكمة الجزئية الأمريكية في واشنطن التي تنظر قضية رفعتها الحكومة الأمريكية على شركة «ألفابت» (الشركة الأم لعملاق التكنولوجيا «جوجل») تتهمها فيها بالاحتكار، وإساءة استخدام سلطتها ونفوذها الواسع على شبكة الإنترنت، المرافعات النهائية من الحكومة والشركة، منهية بذلك الجزء الإجرائي من واحدة من أهم قضايا مكافحة الاحتكار خلال السنوات الأخيرة، والتي قد يشكّل الحكم فيها مستقبل الإنترنت، وبالتالي مستقبل العالم.
تستدعي هذه القضية إلى الأذهان تجارب سابقة مع وسائل الإعلام اتبعتها الحكومة الأمريكية. وعلى سبيل المثال ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت صناعة السينما الأمريكية مركزة في خمس شركات كبرى عرفت باسم الخمسة الكبار، وهي شركات: فوكس القرن العشرين، وجي ام جي، وبارامونت، وآر كيه اوه، ووارنر برازر. لم تكن هذه الشركات الخمس تحتكر إنتاج الأفلام فقط ولكن أيضا شركات التوزيع وشركات دور العرض السينمائي. وكانت الشركات الخمس تسيطر على نحو 77% من دور العرض. وقد دفع هذا الوضع الاحتكاري الحكومة الأمريكية إلى التقدم بدعوى إلى المحكمة الأمريكية العليا لإنهائه. وأصدرت المحكمة في عام 1948 حكما بعدم شرعية احتكار شركات الإنتاج السينمائي لعمليات الإنتاج والتوزيع والعرض، وخيّرت هذه الشركات بين أن تبيع استوديوهات الإنتاج، أو أن تبيع دور العرض. وقد اختارت الشركات بيع دور العرض، وبالتالي تم فصل إنتاج الأفلام عن عرضها، ولم تعد شركات الإنتاج تضمن عرض أفلامها في دور العرض. وكان عليها أن تتنافس فيما بينها على دور العرض مما أفسح المجال لظهور شركات سينمائية جديدة. وقد تمت الإجراءات نفسها مع الشبكات التلفزيونية الكبيرة، وأجبرتها المحكمة على فصل شركات الإنتاج التلفزيوني عن شركات التوزيع حتى لا تكتسب أعمالها وضعًا احتكاري للعرض في محطاتها التلفزيونية.
ما الذي حدث مع «جوجل» ودفع الحكومة الأمريكية إلى اتهامها بالقيام بممارسات احتكارية؟ وهل يمكن أن ينتهي الأمر، مع نهاية هذا العام، إلى تفكيك عملاق التكنولوجيا الأول في العالم إلى مجموعة من الشركات الصغيرة؟
في ربع قرن منذ تأسيسها، حققت «جوجل» نموًا كبيرًا بشكل مذهل. فكل يوم، يطرح مليارات الأشخاص حول العالم أسئلة على محرك بحثها، أو يرسلون ويستقبلون عشرات الرسائل عبر بريدها الإلكتروني الأكثر استخداما في العالم «جيميل»، أو يتنقلون بسياراتهم أو بالمواصلات العامة أو حتى مشيًا على الأقدام باستخدام خرائط «جوجل». وهو ما جعل عملاق التكنولوجيا يسيطر على اقتصاد الإنترنت، ويوسع أعماله بسرعة من خلال شراء مئات الشركات الصغيرة. وفي العام الماضي 2023، حققت الشركة إيرادات بقيمة 307 مليارات دولار، وهو ما يعادل الناتج المحلي الإجمالي لدولة أوروبية متقدمة مثل فنلندا.
وتكتسب قضية الاحتكار التي رفعتها الحكومة على «جوجل» زخمها وأهميتها ليس فقط من أهمية الشركة العملاقة، ولكن أيضا من النتائج والتداعيات التي يمكن أن تحدث إذا أقرت المحكمة الوضع الاحتكاري لها، وحكمت بوضع قيود على حركتها في السوق، وكيفية إدارة إمبراطوريتها المتشعبة على الإنترنت. ويتوقع البعض أن تجبرها المحكمة على بيع بعض علاماتها التجارية المهمة مثل متصفح «جوجل كروم» لفتح باب المنافسة أمام محركات البحث الأخرى.
في المقابل يمكن للمحكمة أيضًا أن تحكم بأن «جوجل» لا تمارس الاحتكار، وهو ما قد يمثل انتكاسة كبيرة للحكومة والمدافعين عن مكافحة الاحتكار، الذين يقولون: إن شركات التكنولوجيا الكبرى أصبحت قوية وشرسة للغاية. وفي الحالتين، سوف يؤثر الحكم المنتظر في هذه القضية على الدعاوى القضائية الأخرى المرفوعة ضد شركات التكنولوجيا الكبرى الأخرى، مثل «أمازون» و«آبل».
في تقديري أن المحكمة قد تلجأ إلى الخيار الأول وهو إدانة «جوجل» بالممارسات الاحتكارية وذلك استنادًا إلى الحقائق على الأرض التي تقول: إن شركة واحدة لديها تسعة منتجات، يستحوذ كل منتج منها على نحو مليار مستخدم في العالم، لا يمكن أن تبقى هكذا دون تدخل حكومي وقضائي يفتح باب المنافسة للشركات الأخرى.
على سبيل المثال فإن محرك بحث «جوجل» الذي يعد محرك البحث الأول والأكثر أهمية في العالم، يستأثر بنحو 5 مليارات مستخدم، ويهيمن بالفعل على الفضاء الإلكتروني. ويُعد «موقع جوجل» هو الموقع الإلكتروني الأكثر زيارة في العالم، حيث يصل عدد زياراته إلى أكثر من 86 مليار زيارة شهريًا. ويسيطر بذلك على 92 بالمائة من سوق محركات البحث». ويبتعد المحرك الثاني الذي ينافسه وهو محرك «بينج» من شركة ميكروسوفت عنه كثيرًا جدًا وبنسبة سيطرة تبلغ 3 بالمائة فقط. الخطير في الأمر أن الشركة بدأت في وضع الإجابات التي يتم إنشاؤها بواسطة الذكاء الاصطناعي، في أعلى نتائج البحث. وقد يؤدي ذلك إلى قلب الويب رأسًا على عقب، مما يضر بالناشرين الذين يعتمدون على حركة المرور من «جوجل» من أجل بقائهم على قيد الحياة.تمتلك «جوجل» أيضا متصفح الويب الأكثر شعبية في العالم «جوجل كروم» الذي بلغ عدد مستخدميه العام الماضي نحو 3.5 مليار شخص. والواقع أن امتلاك «كروم» يمنح «جوجل» القدرة على إبقاء محرك البحث الخاص بها في المقدمة، كما يسمح لها أيضًا بتتبع الأشخاص في جميع أنحاء العالم، وجمع كميات هائلة من البيانات الدقيقة حول سلوك الأفراد عبر الإنترنت، وهو أمر مهم خاصة عندما يتعلق بالإعلان والتجارة الإلكترونية. وقد منحها هذا الوضع الاحتكاري ميزة مهمة وهي أن مطوري مواقع الويب يحرصون على أن تعمل مواقعهم على النحو الأمثل على متصفح «كروم»، ولا يهتمون كثيرًا بأن تعمل بسلاسة على متصفحات المنافسين مثل «بينج»، أو «فيرفوكس» أو «موزيلا». وإذا حكم القاضي بأن «جوجل» تمارس احتكارا غير قانوني، فهناك احتمال بأن تضطر الشركة إلى تقسيم أعمالها، وتحول متصفح «كروم» إلى كيان منفصل.
وفي اعتقادي أن الأمر نفسه قد يحدث مع نظام «أندرويد»، وهو نظام تشغيل الهواتف الذكية المملوك لـ«جوجل»، و«يستخدمه أكثر من ثلاثة مليارات شخص في العالم، ويعمل على 70 بالمائة من جميع الهواتف الذكية في العالم، فيما يأتي نظام أبل «آي او اس» في المركز الثاني وبفارق كبير، وبنسبة 28.5 بالمائة فقط».
إذا وضعنا في الاعتبار الممتلكات الأخرى مثل متجر «جوجل بلاي» الذي يستخدمه 2.5 مليار كل شهر، وشبكة يوتيوب التي تعد الشبكة الأولى في خدمة الفيديو عبر الإنترنت، ويبلغ عدد مستخدميها 2 مليار مستخدم، والبريد الإلكتروني «جيميل» الذي يستخدمه نحو 1.8 مليار شخص، وصور «جوجل»، وخرائط «جوجل» وكل منهما يستخدمها مليار شخص، بالإضافة إلى ممتلكاتها غير الإنترنتية التي تديرها الشركة الأم «ألفابت»، مثل شركة السيارات ذاتية القيادة، وشركة الأبحاث الطبية، وشركة رأس المال الاستثماري التي تشتري وتؤجر أساطيل من السفن لمد الكابلات تحت البحر عبر المحيطات، ندرك أننا أمام أخطبوط كبير، يكاد يسيطر على العالم وليس على الولايات المتحدة فقط، وأنه من الخير للبشرية أن ينتهي هذا الوضع الاحتكاري الذي تتمتع به، والذي قد يعوق التطور التكنولوجي القائم على المنافسة في المستقبل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الحکومة الأمریکیة دور العرض فی العالم
إقرأ أيضاً:
العالم في حالة حرب.. هذه بؤر التوتر التي يتجاهلها الغرب
بات العالم أكثر خطورة، وهو شعور كثيرا ما يلمسه المرء لدى الناس هذه الأيام، ولكن هل هذا الاستنتاج صحيح حقا؟
هذا السؤال طرحه الكاتب سيمون تيسدال في مقاله المطول بصحيفة غارديان البريطانية، استعرض فيه بؤر الصراعات المحتدمة، مثل النزاعات بين الصين وتايوان وإيران والولايات المتحدة وإسرائيل، التي يرى أنها تتطلب اهتماما أكبر.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2من قصص غزة.. وجدت زوجها تحت الأنقاض وكأنه يحمل طفلهما لكنه غير موجودlist 2 of 2لوبوان: هذا هو ثقل المغرب العربي في الهجرة إلى فرنساend of listوفي حين أن بعض الصراعات، مثل الحربين بين إسرائيل وفلسطين، وبين روسيا وأوكرانيا، تحظى عن حق باهتمام إعلامي كبير، إلا أن الكاتب يعدها حالات استثنائية.
فمعظم النزاعات -سواء كانت تتعلق بالحروب والغزوات في السودان والكونغو، أو الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في أفغانستان والتبت الصينية، أو حرب العصابات في هايتي وكولومبيا، أو المجاعة في اليمن والصومال، أو القمع السياسي في نيكاراغوا وبيلاروسيا وصربيا- إما أنها لا تنال التغطية الإعلامية اللازمة، أو أنها منسية أو لا يُلتفت إليها.
وتناول المقال بشيء من التفصيل بعض تلك النزاعات والحروب التي نوجزها فيما يلي:
الكونغو – روانداتصدّر الصراع الذي طال أمده على طول الحدود الشرقية لجمهورية الكونغو الديمقراطية عناوين الصحف العالمية بعد أن استولت حركة (23 إم) المتمردة على مدينة غوما العاصمة الإدارية لإقليم كيفو الشمالي.
إعلانوينفي الرئيس الرواندي بول كاغامي اتهام الأمم المتحدة له بتسليح الحركة المتمردة وإرسال قوات عبر الحدود إلى المنطقة الغنية بخامات معدنية مثل الكولتان الذي يحتوي على معادن مطلوبة بشدة في الغرب.
ميانمار
شهد العام الماضي تنامي المقاومة المسلحة ضد المجلس العسكري الذي أطاح بالحكومة المنتخبة برئاسة أونغ سان سو تشي الحائزة على جائزة نوبل للسلام في عام 2021.
ويلجأ جنرالات الجيش إلى اتباع تكتيكات "الأرض المحروقة"، والتي تشمل شن ضربات جوية عشوائية ضد المدنيين من أقلية الروهينغا المسلمة في ولاية راخين، واستهدافهم بالقتل والاغتصاب والتعذيب والحرق، وكلها أعمال ترقى -وفق المقال- إلى مستوى جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية.
أعمال العنف مستمرة في ميانمار والمتمردون يوسعون ماطق سيطرتهم (أسوشيتد برس) هايتيجاء انزلاق هايتي الأخير إلى الفوضى في أعقاب اغتيال جوفينيل مويس آخر رئيس منتخب، في عام 2021. وتسيطر العصابات المسلحة المنتشرة في كل مكان، والتي تعيش على العنف والابتزاز والخطف، على مقاليد الأمور. ويقول محللون إن هايتي هي الآن دولة فاشلة.
إثيوبيا والصومالاتسم حكم رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بصراعات داخلية مثل الحملة العسكرية المدمرة ضد إقليم تيغراي الشمالي، وتصاعد القمع والاعتقالات لمعارضيه في إقليم أمهرة (شمال غرب).
وتتهمه تقارير بالتراجع عن الديمقراطية، وبإذكاء التوترات مع الصومال المجاورة في محاولته الحصول على ميناء على البحر الأحمر في أرض الصومال التي أعلنت استقلالها من جانب واحد عن الدولة الأم.
وتقول منظمة العفو الدولية إن العالم يغض الطرف عن كل تلك الانتهاكات والتوترات.
إيران
يواجه النظام الإيراني، بحسب الكاتب تيسدال، تحديات خارجية كان أسوأها صدامه المباشر مع إسرائيل في عام 2024، وأخرى محلية ليس أقلها تلك التي يتعرض لها من سكان المدن الشباب الحانقين من الفساد في المؤسسات الرسمية، ومن القمع العنيف وعدم الكفاءة.
إعلانوفي السنوات الــ15 الماضية، شهدت إيران -طبقا للغارديان- 3 انتفاضات كبرى، في 2009 و2019 و2022. ويتساءل محللو الشرق الأوسط: متى ستكون الانتفاضة التالية؟ أم إن الحرب الشاملة مع إسرائيل ستأتي أولا؟
سوريا-تركياوفقا لمقال الصحيفة البريطانية، لا يزال الوضع الأمني الداخلي في سوريا محفوفاً بالمخاطر وسط سعي وطني لتحقيق العدالة، وتنفيذ عمليات قتل انتقامية، واستهداف محدود للأقليات الدينية، واشتباكات بين القوات الكردية السورية والمجموعات المدعومة من تركيا على طول الحدود الشمالية.
ورغم ترحيب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول الخليج بالإطاحة بنظام بشار الأسد، إلا أن كاتب المقال يحذر من أنه بدون حصول النظام الجديد برئاسة أحمد الشرع على مشاركة ودعم دوليين أفضل، قد تعود الحرب الأهلية من جديد.
السودانيحلو للمعلقين في وسائل الإعلام الإشارة إلى الكارثة الأمنية والإنسانية التي يشهدها السودان في الوقت الحاضر على أنها حرب "منسية".
ويعتقد تيسدال أن الحقيقة أسوأ من ذلك، فهو نزاع "ليس منسيا بل تم تجاهله" في الغالب منذ اندلاع الفوضى في عام 2023 عقب الاقتتال الذي اندلع في ذلك الحين بين الجيش النظامي وقوات الدعم السريع.
أفغانستان وباكستانيصف تيسدال تخلي أميركا عن أفغانستان لصالح حركة طالبان في عام 2021 بأنه كان مخزيا ومكلفا سياسيا.
ويزعم أن استقرار أفغانستان بات موضع شك مع بداية عام 2025، "فالبلاد التي تعاني من سوء الإدارة" غارقة في براثن الفقر، ووقعت فريسة لجماعات خارجية "متطرفة" مثل تنظيم الدولة الإسلامية -فرع ولاية خراسان.
كما تبدو باكستان المجاورة غير مستقرة إلى حد كبير بعد عام من الاضطرابات السياسية شهدت البلاد خلاله زج رئيس وزرائها السابق عمران خان في السجن، وتولي السياسي المدعوم من الجيش شهباز شريف المسؤولية.
ويقول محللون إن عام 2024 شهد ارتفاعا في مستويات التشدد العنيف الذي شارك فيه الانفصاليون البلوش وحركة طالبان باكستان.
اليمنلطالما وُصفت اليمن بأنها أسوأ حالة طوارئ إنسانية في العالم، وربما لا تزال كذلك، على الرغم من الفظائع المتصاعدة في السودان.
إعلانولكن منذ هجوم حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحول الاهتمام العالمي بعيدا عن الأزمة الداخلية في اليمن إلى المتمردين الحوثيين، الذين يشنون هجمات صاروخية على السفن الغربية في البحر الأحمر وعلى إسرائيل دعما لأهالي قطاع غزة.
المكسيك والولايات المتحدة
يؤكد تيسدال أن "عسكرة" الرئيس الأميركي دونالد ترامب لحدود بلاده مع المكسيك، ومطالبته "الصبيانية" بإعادة تسمية خليج المكسيك بخليج أميركا، لا بد أن تفاقم المشاكل التي تعاني منها جارته الجنوبية أصلا.
وأشار في هذا الصدد إلى أن مجلس العلاقات الخارجية الأميركي حذر الأسبوع الماضي من أن "إعادة ترامب العمل بخططه العقابية الخاصة بالهجرة سوف تثقل كاهل المكسيك المثقلة بالأعباء، ويهدد النمو الاقتصادي الإقليمي، ويثري التكتلات الاحتكارية الإجرامية"، مما يجعل كلا البلدين أقل أمنا وأقل ثراءً.