لجريدة عمان:
2024-12-19@14:53:34 GMT

فاوست الروسي

تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT

فاوست الروسي

نُشرت رواية «الملاك الناري»، رائعة فاليري بريوسوف، لأول مرة في «سانت بطرسبورج» في بداية القرن العشرين. وتُرجمت للمرة الأولى إلى الفرنسية عام 1983 (عن منشورات لأج دوم في سويسرا)، لتعيد منشورات «أسود على أبيض»، ترجمتها مؤخرا وإصدارها ضمن سلسلة مخصصة لأدب «أوروبا الشرقية»، باسم «مكتبة ديميتري». حتى بعد غيابها لسنوات عن واجهات المكتبات، لم يغرق «الملاك الناري» أبدًا في غياهب النسيان، ربما بفضل الأوبرا التي تحمل الاسم عينه والتي ألهمت الموسيقار الكبير سيرج بروكوفييف بعمل أوبرالي آخاذ (عُرِض للمرة الأولى، في عام 1954، أي بعد وفاة المؤلف الموسيقي).

تقدم الرواية نفسها، للوهلة الأولى، وكأنها رواية تاريخية تدور أحداثها على خلفية فترة الإصلاح اللوثري في ألمانيا. حيث تجري أحداث الحبكة في إطار أصيل، وثقّه بريوسوف بعناية، إذ كان في عصره «صاحب عقل لامع ومثقف»، ولعب دورًا رائدًا في عالم الأدب الروسي، ومن ثم «السوفييتي»، حتى وفاته. شاعر، مترجم، ناقد أدبي، رائد الرمزية في روسيا؛ كان هذا العالم الذي أتقن عدة لغات بإتقان، جسرا بارزا بين ثقافات عصره.

في بداية القرن السادس عشر، اهتزت ألمانيا من جراء اضطرابات التاريخ: لقد حرّك لوثر ورفاقه الكنيسة، عمود الإمبراطورية المقدسة، ودمرت «حرب الفلاحين» جنوب البلاد، فيما كانت الإمبراطورية العثمانية تهدد فيينا، إلى آخر الأحداث التي عرفتها تلك الفترة. في هذا المناخ من العنف والخوف، يتعثر النظام الاجتماعي، ومن أجل استعادة السيطرة، تزيد العقيدة الدينية تهديداتها باللعنة وتمثيلات الجحيم لترعب الجماهير. لكن ذلك كله، لم يمنع أبدا المعتقدات الغامضة من الازدهار في الظلّ، مثلما لم يعد الأشخاص القلقون والمرتبكون يعرفون، أي «قديس أو شيطان» يكرسون أنفسهم له. وبما أن محاكم التفتيش كانت، منذ فترة طويلة، تلاحق عشاق التعاويذ والسحرة وغيرهم من أتباع السحر الأسود، فقد أطلِق العنان لها ضد السحرة، الذين كانوا ينتقلون مباشرة من مقعد التعذيب إلى... الحرق.

يعود الراوي روبريخت، وهو جندي شاب، إلى بلاده بعد أن قاتل في إيطاليا وأمريكا. فنجده يروي، عبر سرد تاريخي طويل، حلقة من حلقات تاريخه لا تركز على مآثره العسكرية، بل على لقاء غريب قلب حياته رأسًا على عقب. في نُزل بالقرب من مدينة دوسلدورف، يجد هذا الرجل ذو الخبرة والمتعلم والمفكر، نفسه، متورطًا بشكل غير متوقع في حياة شابة غريبة: ريناتا، التي تظهر له ذات مساء متأثرة بالرعب، فريسة لأسوأ أنواع الهلوسة، «ممسوسة من قبل الشيطان الشرير الذي عذبها من الداخل». في جنونها (الذي لا يفتقر الطب الحديث إلى الكلمات لوصفه)، تتخيل ريناتا نفسها مكرسة ومرتبطة بجسد الملاك مادييل وروحه الذي تعتقد أنها تعرفت عليه تحت سمات الكونت هاينريش فون أوترهايم. لكنه تخلّى عنها بعد بضعة أشهر من الحب المثالي. لو لم يكن هذا الملاك تجسيدًا للشرير، فهل كان قام بما قام به ليوقع فريسته؟ من المثير للقلق أن ريناتا تنادي روبريخت باسمه الأول وتطلب مساعدته، على الرغم من أنهما لم يلتقيا من قبل!

يقع روبريخت حرفيًا تحت تأثير سحر المرأة الشابة. وعلى الرغم من عدم رغبته، فإنه يشعر الآن بأنه غير قادر على العيش من دونها. لكن موقف ريناتا تجاهه أكثر غموضا لأن المشاعر التي تكنها له لا تحررها من هوسها. قد يكون حبها لروبريخت حقيقيًا، لكنها تبقيه بعيدًا عنها، وتستخدمه للعثور على الكونت، وفي ارتباكها، يمكنها أيضًا رفضه وإنكاره بالقوة من أجل العودة إليه بشكل أفضل لاحقًا: لم تهرب ولا تريد الهروب من مادييل (أو البديل الجسدي له: هاينريش). وهكذا يتم وضع التروس الصارمة في مكانها والتي تدفع، إلى أقصى الحدود، روبريخت الذي كان على استعداد لفعل أي شيء من أجل هذه المرأة التي تجعله خاضعا لها.

تدور أحداث الرواية في عالم أوروبي ملموس تتغير فيه التوازنات، وتُشكل فيه ألمانيا ساحة معركة للمواجهات الدينية، وفي عالم سفلي، تتيح ممارسات السحر التواصل معه، حيث تُدرّس كتب السحر والأرواح. ومن هناك، تُستدعى روح ريناتا وجسدها الذي يلتوي تحت هجوم الشياطين. يبرع فاليري بريوسوف في رسم مشاهد الهذيان، والتي تصل إلى ذروتها عندما يصف بالتفصيل تلك اللحظة التي يسحبها فيها الحاضنون والشريرات والساحرات إلى رقصاتهم الشهوانية حول «المعلم ليونارد». وبرغم كلّ الخبرة والحكمة التي اكتسبها من خلال المشاركة في مغامرات عصره، لا يستطيع روبريخت أن يحافظ على هدوئه عندما تغرقه ريناتا في عالم خيالي ليتبعها بمحض إرادته. كيف ينقذها من نفسها ومن شياطينها؟ تتفاقم المشاعر وتتحول باستمرار إلى أضدادها: بما يكفي لإبقاء القارئ في حالة تشويق.

ربما علينا أن نلاحظ أن سنوات كتابة «الملاك الناري» هي على وجه التحديد تلك السنوات التي اهتم فيها الأطباء اهتمامًا وثيقًا بدراسة الظواهر الهستيرية: لقد فتح يومها جان مارتن شاركو الطريق أمام علم العُصاب الحديث، بينما كان فرويد في أوج عمله التحليلي. يكفي أن نقول إن وصف مشاهد «السيطرة» على ريناتا و«حيازتها» كان مستنيرا بالتحليلات السريرية التي أجريت في وقت لاحق في سالبيترير أو في أي مكان آخر، ليجعل هذا الضوء الجديد القرن السادس عشر أقرب إلى عصرنا بشكل فريد. أضف إلى أن ألمانيا المعذبة هذه - التي توفر أيضا إطارا لرواية جوته فاوست (ترجمها بريوسوف إلى اللغة الروسية) - تجد صداها في الزوابع التي ميزت انتقال الثقافة السلافية من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، وبخاصة في أوروبا الوسطى والشرقية أو الجرمانية: فهل أدّى ظهور العالم الصناعي الحديث، بصراعاته وثوراته وحدوده الممزقة وحروبه ومجازره، إلى إحياء انعدام الثقة القديم بالعقل والتقدم؟

إزاء ذلك كله، نجد أنفسنا مع «الملاك الناري» أمام رواية معقدة، تمزج بين علم النفس والتاريخ وتقود القارئ عبر تعرجات العواطف المدمرة القاتلة: أكانت رومانسية أو مجنونة، إلا أنها عواطف شيطانية ومدمرة، وقد تموت فجأة كما ولدت. في القرن السادس عشر الذي كان يعيش حالة اضطراب كامل، يتم الكشف هنا عن آثاره السامية أو المميتة: عندما يتضاعف مصير ريناتا من مصير مارغريت، فإن فاوست ليس بعيدًا... لقد كانت لدى فاليري بريوسوف فكرة سعيدة بوضعها على طريق روبريخت الطبيب الشهير ورفيقه الكبريتي، أقرب ما يكون إلى التقليد التاريخي الذي يرى فيهم دجالين ماهرين في استغلال سذاجة الناس أكثر من أبطال جوته.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی عالم

إقرأ أيضاً:

جامع الشيخ زايد الكبير يفتح أبواب متحف «نور وسلام» أمام الزوار

أعلن مركز جامع الشيخ زايد الكبير عن فتح متحف «نور وسلام» أبوابه أمام الجمهور، اليوم الأربعاء، وذلك خلال المؤتمر الصحفي الذي انعقد أمس في جامع الشيخ زايد الكبير.
وقال الدكتور يوسف عبد الله العبيدلي، مدير عام المركز، إن متحف «نور وسلام» ينطلق من رؤية دولة الإمارات وقيادتها الرشيدة في إثراء المشهد الثقافي في الدولة، وإحياء مكنونات الحضارة الإسلامية ونتاجها الذي يتّسم بالتنوع والثراء، ويعكس عصوراً من العمق المعرفي في العلوم، والحرفية والإبداع في الفنون والآداب.
وتم خلال المؤتمر الصحفي استعراض أقسام المتحف.
ويزخر المتحف بمجموعة منتقاة من التحف والمعروضات التي تعود إلى عصور إسلامية مختلفة، وتتمحور حول مواضيع متنوعة، ومن أهم ما تشمل معروضات المتحف جزء من حزام الكعبة المشرفة «القرن 20»، ودينار عبدالملك بن مروان، أول مسكوكة إسلامية ذهبية «77 هـ»، وكتاب التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد «1296م /695هـ»، ويتناول تخريج أحاديث موطأ الإمام مالك من الحديث الشريف ومدونات الفقه الإسلامي، وصفحات القرآن المخطوطة بالذهب من المصحف الأزرق «القرن 9-10م»، وكتاب أخبار مكة وما جاء فيها من الآثار «القرن 14م»، وأسطرلاب أندلسي «القرن 14م»، إضافة إلى المجموعة الشخصية للمغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، «طيب الله ثراه»، وغير ذلك من الأعمال الفنية العريقة والمعاصرة.

مقالات مشابهة

  • جامعة أثينا تستضيف مؤتمرًا دوليًّا عن اللاهوت الأرثوذكسي في القرن الحادي والعشرين
  • سر وضع الكرة الصوف أعلى قبعات الشتاء.. استخدامات غريبة
  • هل تعيد الدبلوماسية الثقافية البديلة تأسيس الهوية العربية؟ قراءة في كتاب
  • محرز ضمن قائمة أفضل هدافي مانشستر سيتي في القرن الـ21
  • الحنين للماضي يعيد تشغيل قطارات من الثلاثينات في نيويورك
  • قضية جنائية شغلت الرأي العام في ثمانينيات القرن الماضي
  • الفيلسوف كارل بوبر.. لماذا لم يفهم الناس أفكاره؟
  • جامع الشيخ زايد الكبير يفتح أبواب متحف «نور وسلام» أمام الزوار
  • إطلاق الفيلم الوثائقي “إرثٌ لن يُنسى.. عبدالعزيز سعود البابطين” تكريمًا لرجل القرن
  • السجيني: إنهاء قانون الإيجار القديم ضرورة لحماية حقوق الملاك والمستأجرين