نُشرت رواية «الملاك الناري»، رائعة فاليري بريوسوف، لأول مرة في «سانت بطرسبورج» في بداية القرن العشرين. وتُرجمت للمرة الأولى إلى الفرنسية عام 1983 (عن منشورات لأج دوم في سويسرا)، لتعيد منشورات «أسود على أبيض»، ترجمتها مؤخرا وإصدارها ضمن سلسلة مخصصة لأدب «أوروبا الشرقية»، باسم «مكتبة ديميتري». حتى بعد غيابها لسنوات عن واجهات المكتبات، لم يغرق «الملاك الناري» أبدًا في غياهب النسيان، ربما بفضل الأوبرا التي تحمل الاسم عينه والتي ألهمت الموسيقار الكبير سيرج بروكوفييف بعمل أوبرالي آخاذ (عُرِض للمرة الأولى، في عام 1954، أي بعد وفاة المؤلف الموسيقي).
تقدم الرواية نفسها، للوهلة الأولى، وكأنها رواية تاريخية تدور أحداثها على خلفية فترة الإصلاح اللوثري في ألمانيا. حيث تجري أحداث الحبكة في إطار أصيل، وثقّه بريوسوف بعناية، إذ كان في عصره «صاحب عقل لامع ومثقف»، ولعب دورًا رائدًا في عالم الأدب الروسي، ومن ثم «السوفييتي»، حتى وفاته. شاعر، مترجم، ناقد أدبي، رائد الرمزية في روسيا؛ كان هذا العالم الذي أتقن عدة لغات بإتقان، جسرا بارزا بين ثقافات عصره.
في بداية القرن السادس عشر، اهتزت ألمانيا من جراء اضطرابات التاريخ: لقد حرّك لوثر ورفاقه الكنيسة، عمود الإمبراطورية المقدسة، ودمرت «حرب الفلاحين» جنوب البلاد، فيما كانت الإمبراطورية العثمانية تهدد فيينا، إلى آخر الأحداث التي عرفتها تلك الفترة. في هذا المناخ من العنف والخوف، يتعثر النظام الاجتماعي، ومن أجل استعادة السيطرة، تزيد العقيدة الدينية تهديداتها باللعنة وتمثيلات الجحيم لترعب الجماهير. لكن ذلك كله، لم يمنع أبدا المعتقدات الغامضة من الازدهار في الظلّ، مثلما لم يعد الأشخاص القلقون والمرتبكون يعرفون، أي «قديس أو شيطان» يكرسون أنفسهم له. وبما أن محاكم التفتيش كانت، منذ فترة طويلة، تلاحق عشاق التعاويذ والسحرة وغيرهم من أتباع السحر الأسود، فقد أطلِق العنان لها ضد السحرة، الذين كانوا ينتقلون مباشرة من مقعد التعذيب إلى... الحرق.
يعود الراوي روبريخت، وهو جندي شاب، إلى بلاده بعد أن قاتل في إيطاليا وأمريكا. فنجده يروي، عبر سرد تاريخي طويل، حلقة من حلقات تاريخه لا تركز على مآثره العسكرية، بل على لقاء غريب قلب حياته رأسًا على عقب. في نُزل بالقرب من مدينة دوسلدورف، يجد هذا الرجل ذو الخبرة والمتعلم والمفكر، نفسه، متورطًا بشكل غير متوقع في حياة شابة غريبة: ريناتا، التي تظهر له ذات مساء متأثرة بالرعب، فريسة لأسوأ أنواع الهلوسة، «ممسوسة من قبل الشيطان الشرير الذي عذبها من الداخل». في جنونها (الذي لا يفتقر الطب الحديث إلى الكلمات لوصفه)، تتخيل ريناتا نفسها مكرسة ومرتبطة بجسد الملاك مادييل وروحه الذي تعتقد أنها تعرفت عليه تحت سمات الكونت هاينريش فون أوترهايم. لكنه تخلّى عنها بعد بضعة أشهر من الحب المثالي. لو لم يكن هذا الملاك تجسيدًا للشرير، فهل كان قام بما قام به ليوقع فريسته؟ من المثير للقلق أن ريناتا تنادي روبريخت باسمه الأول وتطلب مساعدته، على الرغم من أنهما لم يلتقيا من قبل!
يقع روبريخت حرفيًا تحت تأثير سحر المرأة الشابة. وعلى الرغم من عدم رغبته، فإنه يشعر الآن بأنه غير قادر على العيش من دونها. لكن موقف ريناتا تجاهه أكثر غموضا لأن المشاعر التي تكنها له لا تحررها من هوسها. قد يكون حبها لروبريخت حقيقيًا، لكنها تبقيه بعيدًا عنها، وتستخدمه للعثور على الكونت، وفي ارتباكها، يمكنها أيضًا رفضه وإنكاره بالقوة من أجل العودة إليه بشكل أفضل لاحقًا: لم تهرب ولا تريد الهروب من مادييل (أو البديل الجسدي له: هاينريش). وهكذا يتم وضع التروس الصارمة في مكانها والتي تدفع، إلى أقصى الحدود، روبريخت الذي كان على استعداد لفعل أي شيء من أجل هذه المرأة التي تجعله خاضعا لها.
تدور أحداث الرواية في عالم أوروبي ملموس تتغير فيه التوازنات، وتُشكل فيه ألمانيا ساحة معركة للمواجهات الدينية، وفي عالم سفلي، تتيح ممارسات السحر التواصل معه، حيث تُدرّس كتب السحر والأرواح. ومن هناك، تُستدعى روح ريناتا وجسدها الذي يلتوي تحت هجوم الشياطين. يبرع فاليري بريوسوف في رسم مشاهد الهذيان، والتي تصل إلى ذروتها عندما يصف بالتفصيل تلك اللحظة التي يسحبها فيها الحاضنون والشريرات والساحرات إلى رقصاتهم الشهوانية حول «المعلم ليونارد». وبرغم كلّ الخبرة والحكمة التي اكتسبها من خلال المشاركة في مغامرات عصره، لا يستطيع روبريخت أن يحافظ على هدوئه عندما تغرقه ريناتا في عالم خيالي ليتبعها بمحض إرادته. كيف ينقذها من نفسها ومن شياطينها؟ تتفاقم المشاعر وتتحول باستمرار إلى أضدادها: بما يكفي لإبقاء القارئ في حالة تشويق.
ربما علينا أن نلاحظ أن سنوات كتابة «الملاك الناري» هي على وجه التحديد تلك السنوات التي اهتم فيها الأطباء اهتمامًا وثيقًا بدراسة الظواهر الهستيرية: لقد فتح يومها جان مارتن شاركو الطريق أمام علم العُصاب الحديث، بينما كان فرويد في أوج عمله التحليلي. يكفي أن نقول إن وصف مشاهد «السيطرة» على ريناتا و«حيازتها» كان مستنيرا بالتحليلات السريرية التي أجريت في وقت لاحق في سالبيترير أو في أي مكان آخر، ليجعل هذا الضوء الجديد القرن السادس عشر أقرب إلى عصرنا بشكل فريد. أضف إلى أن ألمانيا المعذبة هذه - التي توفر أيضا إطارا لرواية جوته فاوست (ترجمها بريوسوف إلى اللغة الروسية) - تجد صداها في الزوابع التي ميزت انتقال الثقافة السلافية من القرن التاسع عشر إلى القرن العشرين، وبخاصة في أوروبا الوسطى والشرقية أو الجرمانية: فهل أدّى ظهور العالم الصناعي الحديث، بصراعاته وثوراته وحدوده الممزقة وحروبه ومجازره، إلى إحياء انعدام الثقة القديم بالعقل والتقدم؟
إزاء ذلك كله، نجد أنفسنا مع «الملاك الناري» أمام رواية معقدة، تمزج بين علم النفس والتاريخ وتقود القارئ عبر تعرجات العواطف المدمرة القاتلة: أكانت رومانسية أو مجنونة، إلا أنها عواطف شيطانية ومدمرة، وقد تموت فجأة كما ولدت. في القرن السادس عشر الذي كان يعيش حالة اضطراب كامل، يتم الكشف هنا عن آثاره السامية أو المميتة: عندما يتضاعف مصير ريناتا من مصير مارغريت، فإن فاوست ليس بعيدًا... لقد كانت لدى فاليري بريوسوف فكرة سعيدة بوضعها على طريق روبريخت الطبيب الشهير ورفيقه الكبريتي، أقرب ما يكون إلى التقليد التاريخي الذي يرى فيهم دجالين ماهرين في استغلال سذاجة الناس أكثر من أبطال جوته.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی عالم
إقرأ أيضاً:
شهادة محمد بن المهلل بالصداق في القرن الرابع الهجري
تكشف بعض الوثائق المنقولة فـي كتب الفقه عن أسماء قديمة من الأعلام مما تسمى به بعض أهل عمان فـي تلك القرون الغابرة، ولعل من نافلة القول إن رصد تلك الأسماء العمانية يمكن أن يكون نواة معجم لما تسمّى به أهل عُمان عبر تأريخهم.
وعلى نحو ما رأيناه من أسماء فـي الوثائق التي تعرّضنا لها فـي الحلقات الفائتة من هذه السلسلة فإن وثيقة صداقٍ آجلٍ هذه المرة نستعرضها هنا، وهي الأخرى حملت بعض الأسماء من قرى عمان الداخلية فـي زمن لعله زمان أبي سعيد محمد بن سعيد الكدمي فـي القرن الرابع الهجري، وتشير إلى ذلك العبارة التي سبقت نص الوثيقة المنقولة فـي كتاب بيان الشرع، ونصها:« .. وجدتُ هذا الكلام فـي رقعة من كلام أبي سعيد مما يُكتَب فـي الصكوك»، ونص الوثيقة:
«هذا ما أشهدنا به محمّد بن المهلّل النازل المحلة من قرية سلّوت من عمان، وهو يومئذ بالغ الحلم، لا نعلم فـي عقله نقصانًا ونحن به عارفون، وأقرّ به على نفسه أنّ عليه لزوجته هند بنت أبي مالك النازلة قرية بسيا من عمان ألف درهم، وازنة جياد من النقا نقد عُمان، حالّة عليه لها متى شاءت أَخْذَ ذلك أخَذَتْهُ، ومائة نخلة وشربها من الماء صداقًا لها عليه ثابتًا على سبيل سنّة نسائها من أهل قرية سلّوت، وسبيل القضاء فـي صَدُقات النساء من قرية سلّوت وثابت ذلك عليه لها فـي قرية سلّوت من عُمان آجلة عليه مؤجّلة إلى أن يحدث الله بينهما حدثًا من موت أحدهما، أو أن يطلّقها أو تَبِين منه بحرمة أو بوجه من وجوه البينونة، أو يتزوّج عليها غيرها من النساء أو يتسرّى. فإذا كان أحد ذلك من محمّد بن مهلّل هذا المنسوب فـي صدر هذا الكتاب، فقد حلّ لزوجته هند هذه المائة النخلة التي فـي صداق لها من قرية سلّوت من عمان على سبيل ما تقدّم من ذكر ذلك، وشرطه لا براءة لمحمّد بن مهلّل هذا المنسوب فـي صدر هذا الكتاب من هذا الحقّ الذي أقرّ به لزوجته هذه هند بنت أبي مالك، ولا من شيء منه إلا بأدائه إليها أو إلى من يقوم مقامها من وكيل أو مأمور أو وارث، شهد الله وكفى بالله شهيدًا، وشهد على ما فـي هذا الكتاب محمّد بن المهلّل المنسوب فـي صدر هذا الكتاب بعد أن قرئ عليه، وقال: إنّه عارف به وبمعانيه، وقال لمن حضر أن يشهد عليه بما فـيه».
جمعت هذه الوثيقة بين قريتين متجاورتين من الأماكن القديمة فـي داخلية عمان هما بسيا وسلّوت، وفـي أرضهما كشفت التنقيبات الأثرية عن آثار موغلة فـي القِدَم بعضها معروض الآن فـي مركز زوّار بسيا وسلّوت بولاية بهلا، وهو من مشروعات وزارة التراث والسياحة. ولما كانت هذه الوثيقة صك صداق آجلٍ دان به محمد بن المهلل لزوجته فمن البديهي أن يكون الصداق شيئًا من المال، لكن العجيب أن مقدار الصداق المذكور قد يكون كبيرًا بمقاييس زمانهم، فألف درهم ومائة نخلة وشربها ليست بقليلة. كما أنه جاء فـي النص أن ذلك على سبيل سنة نساء قرية سلّوت، وهذا معناه أن ذلك من أعراف أهل بلده هو، بينما جاء فـي أول النص أن المرأة من أهل بسيا فـي عبارة: «لزوجته هند بنت أبي مالك النازلة قرية بسيا من عمان». وتثير عبارة «نقد عُمان» تساؤلًا إن كان معناها «ضرب عُمان» فهذا قد يشير إلى سك النقود فـي عُمان فـي تلك الفترة من العصر الإسلامي، سواء أكان ذلك من الحكّام العمانيين أو ممن حكموا عُمان من غيرها من الممالك والدُّول.