الذكاء الاصطناعي وتحيّز البيانات
تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT
(1)
تتجه أفكاري في أثناء كتابة هذا المقال للسير في اتجاهين: الأول، التفكير في منظومة الأسئلة الكبرى التي طُرحت في التاريخ المعاصر والفلسفة والتنوير؛ هل انتهت أم ما زال لها أثر؟ والاتجاه الثاني، حول الذكاء الاصطناعي ووظيفته الحيوية في حياتنا اليومية.
ولا أخفي على نفسي أن ما يجري من حرب إبادة لأهلنا في غزة هو الدافع الأول للتفكير في هذين الاتجاهين.
كانت مهمة توثيق التاريخ أو الماضي تقتصر على المؤرخين، وهذا ما تفعله اليوم بعض المؤسسات الثقافية عندما تُسارع إلى تأليف موسوعاتها الخاصة بالحضارة والألفاظ والموسيقى والفنون والأدباء والطعام والملبوسات وغيرها، بغية أرشفتها والحفاظ عليها؛ لكونها (البطاقة المدنية لهُويتها الثقافية) وفي هذا السياق لاحظ (إيريك هُوبزباوم) في كتابه (عصر النهايات القصوى وجيز القرن العشرين الجزء الأول عصر الكارثة) ملاحظة مهمة تقول: «إن تدمير الماضي، أو بالأحرى الآليات الاجتماعية التي تربط التجربة المعاصرة لأحدهم بتجربة أجيال أسبق، هو أحد أبرز الظواهر المُخيفة والمتميزة لأواخر القرن العشرين. فمعظم الأجيال الشابة من رجال ونساء في نهاية هذا القرن تنمو بنوع من الحاضر الدائم المفتقر إلى أية صلة عضوية بالماضي العام للأوقات التي يعيشونها» ونفهم من ذلك كما يقول (إيريك) في الفقرة نفسها «أن المؤرخين ينحصر عملهم في أن يتذكروا ما ينساه الآخرون». تبدو اللفظتان (المُخيفة والمتميزة) لائقتين بالذكاء الاصطناعي؛ فهناك مَن يشجع ويصفق لاستعمالات الذكاء في تنظيم حياة المجتمعات، وبين مَن ينفخ مخاوفه كسم الأفعى.
ومرة أخرى، الأمر الواضح اليوم أن تطور التكنولوجيا ليس له حدود معروفة طالما أن العقل البشري يُفكر ويكتشف ويُجرّب، فلا يقتصر على استهلاكنا اليومي للتطور التقني في وسائط التواصل الافتراضي، أو امتلاك أقوى هاتف خلوي، أو قراءة الكتب، أو تأليف النصوص عبر الجهاز اللوحي، أنه أبعد من ذلك بكثير.
إن مساءلة موضوع علاقة الذكاء الاصطناعي بالهُويات الثقافيّة للبشرية والحفاظ عليها قضية تتصل بالراهن في التحولات السياسية الكبرى والتكتلات الديموغرافية الحاصلة في العالم، في المتغيرات الاقتصادية التي تدفع شعوب البلاد المضطهدة إلى الهجرة، ومغادرة أراضيهم والأماكن التي ترعرعوا فيها، إلى أراض وأوطان بديلة يهدفون من ورائها إلى بناء هويات للاندماج في المجتمعات الجديدة. لا شك أنهم ينتقلون أو يهربون أو يهاجرون ومعهم ذاكرتهم وكلماتهم وأغانيهم، وما يُعزز انتماءهم إلى هُوية ثقافية وحضارة محددة، وسوف يُلاقون صعوبات كثيرة لبناء هُوية جديدة في بلاد تعج بالنزاعات والصراعات الإثنية وبأنواع مختلفة من الضغوط.
في هذا السياق، يؤكد الدكتور أنس عضيبات في مقالته المنشورة بجريدة الرأي الأردنية المعنونة: (الحفاظ على الثقافة من خلال الذكاء الاصطناعي)، أن العلاقة ما بين الذكاء الاصطناعي والثقافة علاقة ديناميكية، ويمكن أن ينجح استثمار ذلك في عدة طرق منها: «الترميم الرقمي، وإحياء اللغات المهددة بالانقراض، وقدرة الخوارزميات في معالجة كميات هائلة من البيانات للكشف عن الاكتشافات الأثرية، وتوثيق التراث الثقافي، والحفظ ضد تغير المناخ، وتعزيز إمكانية الوصول لذوي الإعاقة عبر تمكين الذكاء الاصطناعي من تقديم أوصاف صوتية للأعمال الفنية وغيرها)، أما أهم التحديات، فتتصل بالاعتبارات الأخلاقية، ويتمظهر ذلك حسب رأيه في «المخاوف المتعلقة بخصوصية البيانات، والتحّيز في الخوارزميات، وخطر تقليل المشاركة البشرية في جهود الحفاظ على الثقافة».
(2)
وعطفا على التحيّز في الذكاء الاصطناعي، يقول الباحثان ناظم حسن رشيد، ومي ابلحد أفرام في بحثهما المنشور في مجلة (Journal of Contemporary Business and Economic Studies Vol. (60) No. (1) (2023) بعنوان (تدقيق التحيز في الذكاء الاصطناعي في ضوء إطار عمل تدقيق الذكاء الاصطناعي لمعهد المدققين الداخليين (IIA)- دراسة نظرية تحليلية) التالي: «القضية الرئيسة هي أن التحيّز نادرا ما يكون واضحًا. البيانات جميعها متحيزة. هذه حقيقة قد يكون التحيز متعمدا. قد يكون لا مفر منه بسبب الطريقة التي يتم بها إجراء القياسات، ولكن هذا لا يعني أنه يجب علينا تقدير الخطأ...»
والسؤال الذي يطرح، طالما أن المخاطر موجودة وحاصلة، وأمامنا النموذج الحي المتمثل في حرب الإبادة ضد غزة منذ ما يقرب المائتي يوما، وتاريخيا فإن احتلال فلسطين بدأ في (1948م) فكيف يسعنا أن نفهم قياس خوارزميات الذكاء الاصطناعي في جوانب كالثقافة والإنسان والمجتمع؟
إن كل ما يحصل اليوم في غزة، وتتناقله قنوات الأخبار، يشير إلى أن تراث فلسطين مهدد بالاندثار والامحاء، فيظهر دور العاملين في الذكاء الاصطناعي ونسألهم: ماذا ستنتخب خوارزميات الذكاء الاصطناعي من تراث مادي أو غير مادي من ذاكرة فلسطين المحتلة ككل؟ من تراث أسماء الآباء والأمهات والشيوخ والأشبال والأطفال والشهداء؟ ومن تراث طواقم الأطباء والممرضين، ومن تراث حفظة القرآن وعلماء المساجد، ومن تراث الصحفيين والمعذبين جميعهم، ومن تراث الذين دفعوا مبالغ عالية جدا للخروج من المعبر؟ ما السلوك الذكي الذي ستقدمه الآلة بعد تعبئة أجهزة الحواسيب بالبيانات؟ أين ستتدخل السياسية والمصالح الاقتصادية والتحيزات العنصرية والدينية في الموضوع؟
إن واقع الذكاء الاصطناعي يُثبت انتصاره في تطبيق فرض وسائل السيطرة والمنع والحجب، وظهر ذلك بكثرة بعد السابع من أكتوبر 2023م، حيث حُجبت الكثير من الحسابات الشخصية التي دعمت قضية فلسطين بنشر الصور والأفلام والتغريدات ومقاطعة البضائع الداعمة للكيان، كما منعت حسابات بعض المشتركين في التطبيقات الافتراضية من الظهور لدى المتعاملين مع بعضهم ضمن مجموعات، وأرسلت رسائل تهديد من مالكي هذه التطبيقات لمستخدميها المشاغبين (لا يختلف سلوك مالكي التقنية دعاة الديمقراطيين عن سلوك الجهات الأمنية عندما تستدعي أصحاب الرأي لمناقشة موضوع ما)، وتساوت في ذلك وسائل التواصل الافتراضي جميعها، وبلا استثناء!
واللافت للانتباه هو التناقض الحاصل في طموحات مفهوم الذكاء الاصطناعي! هل يرغب العالم عبر التكنولوجيا المتطورة جعل العالم كله آلات تنجز كل شيء ابتداء من الإنسان الآلي (الروبوت) بشكل لانهائي له؟ إننا نفهم ونقدّر أن الذكاء الاصطناعي «كما لخصه (جون مكارثي- واضع هذا المصطلح سنة 1955) بأنه علم وهندسة صنع آلات ذكية»، وإذا كان القصد منه إحلال الآلة مكان البشر، فإنّ المصدر الأول لاكتشاف الآلة هو الدماغ البشري، وعند إحلال الآلة مكان البشر، سيختفي هؤلاء (البشريون) ولا ندري إلى أين سيذهبون أو يختفون؟ فكيف تكون الآلة نفسها هي وسيلة الدراسة نفسها، وهي المستقبل وهي الصراع؟ الظاهر أن الآلة ستظل وحدها تصارع آلة أخرى لتتفوق عليها! فما الغاية من هذا كله إن لم يكن الهدف هو الطمأنينة والأمن والسلام للبشر؟
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی من تراث
إقرأ أيضاً:
الذكاء الاصطناعي وصناعة القرار السياسي: هل حان وقت التغيير؟
صراحة نيوز- بقلم / عبد الملك عوجان
في زمن تزداد فيه تعقيدات القرارات السياسية، لم يعد المنهج التقليدي في صناعة القرار كافيًا لوحده. فالعالم يتغيّر بوتيرة متسارعة، وتحليل البيانات بات ضرورة لا ترفًا.
هنا، يدخل الذكاء الاصطناعي كأحد أقوى الأدوات التي يمكن أن تُحدث ثورة حقيقية في طريقة فهم الواقع وصياغة السياسات.
.فهل آن الأوان لأن تتبنى الحكومات – وخاصة في العالم العربي – الذكاء الاصطناعي كعنصر فاعل في إدارة شؤون الدولة؟
ما هو الذكاء الاصطناعي في السياق السياسي؟
للذكاء الاصطناعي منظومات تحليلية قادرة على:
دراسة أنماط سلوك المواطنين،
تحليل توجهات الرأي العام،
توقع الأزمات قبل وقوعها،
تقديم توصيات دقيقة مبنية على ملايين البيانات.
تخيّل لو أن قرارًا اقتصاديًا في وطننا الحبيب مثل رفع الدعم، يُتخذ بناءً على تحليل ذكي لتأثيره التفصيلي على الفئات المختلفة، مترافقًا مع سيناريوهات تنبؤية مدعومة بالذكاء الاصطناعي… كم كنا سنوفر من أخطاء سياسية وإدارية؟
كيف يمكن للحكومات استخدام الذكاء الاصطناعي بذكاء؟
تحليل البيانات الضخمة:
البيانات موجودة في كل وزارة، لكنها مشتتة وغير مستغلة. الذكاء الاصطناعي يستطيع ربطها وتحليلها، مما يمنح صانع القرار صورة أوضح وأكثر شمولًا.
محاكاة سيناريوهات السياسات:
قبل اتخاذ قرار حاسم، يمكن استخدام خوارزميات لتوقع النتائج الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وبالتالي اختيار البديل الأقل تكلفة وأكثر فاعلية.
رصد الرأي العام والتوجهات المجتمعية:
من خلال تحليل المحتوى في مواقع التواصل، يمكن فهم نبض الشارع بشكل دقيق وفي الوقت الفعلي، بدلًا من الاعتماد على استبانات تقليدية محدودة.
مكافحة الفساد الإداري:
أنظمة الذكاء الاصطناعي قادرة على كشف الأنماط غير الطبيعية في التعيينات، المشتريات، والإنفاق الحكومي.
لماذا العالم العربي متأخر في هذا المجال؟
أسباب التأخر ليست تقنية فقط، بل سياسية وإدارية. هناك خوف من الشفافية، وضعف في البنية التحتية للبيانات، بالإضافة إلى مقاومة لأي تغيّر تقوده الخوارزميات لا البشر.
لكن الدول التي لن تتبنى الذكاء الاصطناعي ستجد نفسها تتخذ قرارات خاطئة، بطيئة، ومكلفة.
الذكاء الاصطناعي لا يلغي الإنسان..
من المهم التأكيد أن الذكاء الاصطناعي لا يحلّ مكان العقل السياسي البشري، بل يدعمه. يبقى القيم، والحدس، والقيادة، صفات بشرية لا يمكن استبدالها. لكن السياسات الذكية في 2025 وما بعدها، يجب أن تستند إلى أدوات ذكية.
نحن في الأردن نمتلك طاقات شبابية تقنية جبارة، وجيلًا واعيًا سياسيًا. لماذا لا نبادر لتأسيس أول وحدة ذكاء اصطناعي في رئاسة الوزراء مثلًا؟