لجريدة عمان:
2025-02-16@16:36:50 GMT

هل كلامُنا رجيعٌ مكرورٌ؟

تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT

«سُحقا لمن سبقونا فقد قالوا ما قُلْنا»، دوما كنتُ أتساءل عن نظرة التصغير والتقليل لِلاّحق منظورا إليه في ميزان السابق، وكانت اللّغة هي المدخلُ الرئيس لإظهار أنّنا محضُ أصداء لأصُولِ أصواتٍ تأسّست معانيها ومبانيها منذ أمدٍ، وكلّما تقدّمنا في الزمان فَقَدْنا أُلْق الأشياء، وبكارة المعاني، فهل يسير الأمر هكذا، أي على الشكل الذي عبّر عنه ابن رشيق في محنةِ الصراع بين القديم والمُحْدث، في مقام التنازع بين أفضليّة السبْق للشعر الجاهليّ وما نحا نحوه من شعرٍ شبيهٍ، ودونيّة الشعر المُحْدث باعتبار تأخّره الزمني وصناعته في زمن قد استقرّت فيه المعاني على الألفاظ، وأتى الأقدمون على ممكن المعاني، ولم يترك للاّحق إلاّ فَضْلة، على قولِ الفرزدق: «إنّ الشعر كان جملًا بازلًا عظيمًا فنُحر، فجاء امرؤ القيس فأخذ رأسه، وعمرو بن كلثوم سنامه، وزهير كاهله، والأعشى والنابغة فخذيه، وطرفة ولبيد كركرنه، ولم يبق إلا الذراع والبطن فتوزّعناهما بيننا»، وقوله هو إعلانٌ انتهاء الجدّة في ابتكار المعاني الشعريّة، كما أعلن دُعاة الأخلاق اكتمال الأخلاق وتحقّق نموذجها الأوفى، وكما ادّعى الفقهاء انتهاء النظر الفقهيّ واكتمال مدوّنته، فصدّوا بابَ الرأي، وفتحوا باب الاقتداء والاحتذاء.

وهي فكرةٌ خطيرةٌ متى سادت وصارت يقينا واعتقادا، فالقدماء ليست لهم أسبقيّة الزمن، وإنّما كانوا مجيدين في فضاءاتهم ومقاماتهم التي احتوتهم وتأثّروا بها، ولم يأكلوا كلّ المعاني، ولم يأخذوا الجَمَل بما حمل، وإنّما فيهم الغثّ وفيهم السمين، والسمين منهم في أدبه غثّ وسمين، فأشعار الأعشى وزهير وامرؤ القيس وغيرهم هي أشعارٌ قليلة المعاني وفيرة الألفاظ، لا تصنَع معجزةً في القول لا تُؤتَى، ومعانيهم -كما ذكر ذلك أغلب الدارسين- هي معان سطحيّة، فتبقى أشعارهم ذات مرجعيّة تأصيليّة تأسيسيّة، وحسبُها أن تكون كذلك. إنّ فكرة أنّ الأوائل قد أتوا على جامِّ المعاني، ولم يتركوا لنا ما به نُعبّر خارج دوائرهم هي الفكرة العقيدة التي أغلقت باب الاجتهاد في تاريخ الفكر العربيّ، وأدّت بالفكر العربيّ إلى التآكل والذوبان والاجترار، ثقافة الاجترار جلبت إلينا ثقافةً سادت هي ثقافة الاستحمار لخلْق شعوب لا تؤمن بذاتها، وإنّما ترى أنّها تُواصل طريقا قد مُهِّدت وتأسّست وانتهت على قول ابن رشيق في كتابه «العُمدة»: «أنّ مثل القدماء والمُحدَثين كمثل رجلين ابتدأ هذا بناء فأحكمه وأتقنه، ثمّ أتى الآخر فنقشه وزيّنه»، يقتصرُ دورنا على التزيين والتجميل دون الابتكار والابتداع والاختراع (يُمكن لهذا السبب كانت فكرة الإبداع في الفكر العربي مرفوضة) وهذه فكرةٌ خطيرة جدّا، فالإنسانُ باقٍ دوما على اجتراح المعاني، وعلى مواجهة المعاني الحادثة التي لم تكن في الزمن الماضي. ولذلك فإنّ المقولات التي يُردّدها أنصار الإيمان بأنّ فكرنا هو رجيعٌ وتكرار وإعادةٌ على هيئة قولة قيتغنشتاين السابقة «سحقا لمن سبقونا فقد قالوا ما قلنا» وعلى هيئة ما قاله زهير بن أبي سُلمى (وهو صادقٌ في قوله باعتبار نُدرة المعاني وقلّتها في الفضاء الجاهليّ الذي كان يعيشه): ما أرانا نقولُ إلا رَجِيعًا/ ومُعادًا من قولِنا مكْرُورا. وفي رواية أخرى: ما أرانا نقولُ إلا مُعارًا/ أو مُعادًا من قولِنا مكْرُورا. أو قول عنترة: هل غادر الشعراء من متردّم /أم هل عرفت الدار بعد توهّم. وقس على ذلك من أقوالٍ يُرسّخها الفكر العربيّ تحديدا على أنّنا في زمن دائريّ قائم على الاستعادة، ومبنيّ على أنّ الرجوع إلى الماضي هو الفضيلة المُطْلَقة، وأنّ كلّ انفصالٍ عن الماضي هو الضلال والفراغ والانبتاتُ، هي مقولاتٌ دالّة على عقليّة سائدة في التفكير العربيّ لا ترى الزمن يسير بشكل خطّي إلى الأمام، بل تراه دائريّا، فضْل اللاّحق في استعادة السابق أو في البقاء في جُبّته. لقد فوجئت بابنتي عندما شبّت تسألني في غرابةٍ ودهشة، تقول: «ما أصْبَركم تجلسون فارغي الاهتمام تُنصتون إلى أغنية تدوم ساعتين، تُعيد فيه المغنيّة الجملة عشرين مرّة»، أو تقول: «من هذا الذي يطرب لعبد المُطّلب وهو يُكرّر ويعيد «حبّيتك وبحبّك وححبّك على طول»، أو كيف تطربون لأغنية تقول «ساكن في حيّ السيّدة وحبيبي ساكن في الحسين»، وتضحك منّا وتتعجّب، فأجد في كلّ ملاحظاتها منطقا ووجاهة، نحن من جيلٍ آخر يحبّ أن يشمّ أوراق الكُتب، لا يتفاعل كثيرا مع الكتاب الإلكتروني، لأنّا ارتبطنا مع الكتاب ارتباط وجود لا ارتباط تحصيل معرفة فقط، غايتنا منه ليست نفْعيّة فحسب، وإنّما علّمونا أنّ الكتاب هو الصديق وقت الضيق، وأنّه نِعم الرفيق. ولكن يجب أن نفهم أنّ هذا الجيل ينحت معانيه التي تخصّه، والتي تجعله يَسْخر ممّن يجلس لساعات يُنصت لأسطوانات مكرورة، أو يتصفّح كتبا صفراء بالية. هذا الجيل لا يُكرّر معانينا وإنّما يبني معانيه ويبني عوالمه التي ستصبح لاحقا بالية وقديمة، نحن نسير في خطّ مستقيم، لا حظّ فيه للتكرار، إلاّ إن فَهمْنا التَكرار بالمعنى الفلسفي النقدي الذي فيه يكون جوهر الإنسان قائما على معاني جوهريّة -وفق عبارة حازم القرطاجنّي- هي المعاني التي تتحكّم في وجود الإنسان في صورتها المطلقة، مثل الحبّ والكراهيّة، والغضب، الكُره، السعادة، الحزن، وهي المعاني الجوهريّة التي يعمل الإنسان على إخراجها في أشكالٍ تُظهرها. الفكر الحديثُ يقرّ ألاّ وجود لشيء مُكرَّر، لا أقوال تتكرّر وتُعادُ لسانيّا، وإن أعدنا نفس العبارة، فقد أعادها متكلّم مختلف في مقام مختلف وفي زمن مختلف، يُصبح التكرار إعادة صياغة، ونحن نعيد صياغة أنفسنا كلّ يوم بشكل جديد. إنّ مقولة مثل مقولة م. بلانشو في كتابه «الحوار اللامتناهي»: «من ذا الذي سيُولي عنايته لقولٍ جديد، قول لم يُنقل؟ ليس المهمّ أن نقول، وإنّما أن نكرّر القول، وفي هذا التكرار، أن نقوله مرة أخرى أوّلَ مرة»، يتلقّفه دعاة الفكر الدائري على أنّه إثباتٌ وتثبيتٌ لفراغ معانينا وجواهرنا، وأنّ عمْقنا في استعادة ما قيل، والحقّ أنّ المقولة أعمق وأنفذ، فالجدّة وابتكار المعاني حاصلة في نسق معرفيّ قائم. محمود درويش على سبيل المثال، وهو صنّاع المعاني، فاتق المباني، مخترعٌ في الشعر أبوابا لم تكُن فيه، هو سُلالة حركةٍ شعريّة كاملةٍ انطلق منها حتّى يُنْفِذ جديده، ويُلقي مِنْ فيه كُبّةً من الشعر لَم تُلْق في فَم غيره من الشعراء القدامى. هامّ جدّا أن نخرج من جبّة الماضي ونحن فيها، أن ننقدها ونحن آتون منها، وأن نخرج من فكرة أنّ الخلاص ماثلٌ في الاقتراب من القديم وفي استرجاعه.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الفکر العربی وإن ما

إقرأ أيضاً:

كاتب إسرائيلي يتحدث عن أسباب خشية النظام المصري من فكرة التهجير إلى سيناء

أكد الكاتب الإسرائيلي شاحر كلايمن، أن مصر تخشى الدخول في حالة حرب مع "إسرائيل"؛ كون كل هزيمة في حرب مآلها إسقاط النظام، موضحا أن "خوفها الأشد من نقل الغزيين إلى سيناء، هو تحول شبه الجزيرة إلى مربض مناوشات مع إسرائيل تفجر مثل هذه الحرب".

وقال كلايمن في مقال نشرته صحيفة "يسرائيل هيوم"؛ إن "رفض الهجرة من قطاع غزة، هو مبدأ مصري صلب بالضبط، مثل الحفاظ على السلام وعدم التدخل في أي حرب، وهذا هو ما قاله إبراهيم عيسى، المقدم التلفزيوني المصري المعروف بالقرب من النظام الحالي".

وأضاف الكاتب أنه "يحتمل أن يبدو هذا القول للإسرائيليين غريبا بعض الشيء، ففي كل بضعة أيام ينشر شريط آخر لمسيرة عسكرية في بلاد النيل، ويمكن للمرء حقا أن يسمع طبول الحرب، فضلا عن ذلك، قيل غير مرة؛ إن مصر هي جيش توجد له دولة وليست دولة يوجد لها جيش، فهل هذه الدولة بالذات تتحفظ على الحرب؟ كي نفهم المنطق يجب أن نفهم المبنى الهرمي للمجتمع المصري".

الجنرالات يسيطرون في الدولة
وذكر الكاتب أنه "منذ ثورة الضباط الأحرار في 1952، التي أطاحت بالملكية، تسيطر في مصر النخبة العسكرية، في أحداث الربيع العربي أيضا كان من أطاح بحسني مبارك هم الضباط الكبار، وفي بداية الأسبوع، أحيوا في القاهرة 14 سنة على الخطاب الدراماتيكي لنائب الرئيس، عمر سليمان، الذي أعلن فيه عن نقل الصلاحيات السلطوية من مبارك إلى المجلس العسكري الأعلى".

إظهار أخبار متعلقة


وأشار إلى أنه "في مصر، الجيش ليس مجرد منظمة عسكرية؛ فالجنرالات يسيطرون على مئات المخابز ومشاريع البناء والفنادق. حسب التقديرات، فإن ثلث الاقتصاد المصري يوجد تحت سيطرتهم، من هنا يمكن أن نفهم لماذا يعد التهديد الأكبر على الحكام في مصر واليوم عبد الفتاح السيسي، ليس الإخوان المسلمين، ولا حتى المتظاهرين الذين يحتجون بجموعهم، فهؤلاء وأولئك قابلون للقمع".

وأكد الكاتب أن "التهديد الأكبر يوجد في صفوف الجنرالات، وإذا لم يواصل السيسي تضخم ميزانيات الجيش، فالقرار سيؤثر فورا على مصالحهم الاقتصادية والشخصية، عتاد أقل وقوات أقل يعني مال أقل وهكذا، ولهذا السبب، فإن الحرب تشكل خطرا، مشكوك أن تكون القيادة في القاهرة مستعدة لأن تأخذه".

وقال: "يكفي التذكير بأن هزائم الجيوش العربية أدت في الماضي إلى انقلابات وإلى تغييرات في الحكم، وفي سوريا وزير الدفاع حافظ الأسد صعد إلى الحكم بعد حرب الأيام الستة (نكسة 1967)، والمعركة تلك أيضا أدت إلى نهاية طريق الرئيس المصري جمال عبد الناصر، وبعد ثلاث سنوات من ذلك، توفي وحل محله نائبه أنور السادات، باختصار، لا طريقا أكثر ضمانة لفقدان الحكم من حرب ضد إسرائيل".

مصالح وكراهية لاذعة
في المقابل، قال الكاتب؛ إنه "حتى نحو خمسة عقود على اتفاقات السلام، لم تلغ جنون الاضطهاد المصري. في بلاد النيل يوجد تخوف دائم في أوساط دوائر معنية من تطلعات التوسع الإسرائيلية".

وأوضح كلايمن أنه "في مناورات دورية، السيناريو هو اجتياح من الجيش الإسرائيلي، والأخطر من ذلك أنه على مدى عقود لم تبذل القيادة المصرية جهدا لتغيير مضامين تحريضية ضد إسرائيل، وفي السنوات الأخيرة فقط طرأ بعض التغيير في المضامين، هكذا نشأ اتفاق سلام بارد يقوم على مصالح أمنية وسياسية فقط".

وأضاف: "إذا كان ثمة درس ينبغي استخلاصه من قصور 7 تشرين الثاني/ أكتوبر 2023، فهو أنه لا تكفي المصالح للحفاظ على الاستقرار والهدوء في الشرق الأوسط".

إظهار أخبار متعلقة


وبين أنه "أحيانا الكراهية اللاذعة من شأنها أن تخرب على الاعتبارات العقلانية، صحيح حتى الآن يخيل أن هذا ليس الوضع في مصر، وصحيح أن السيسي أقرب إلى السلام من أسلافه، لكنه بعيدٌ سنوات ضوء عن مواقف أصولية على نمط الإخوان المسلمين، العكس هو الصحيح الرئيس المصري أدى بالذات إلى تعزيز التعاون مع إسرائيل".

وختم أن "معارضته الحادة لخطة ترامب لإخلاء الفلسطينيين، ينبغي أن نعيدها إلى التهديد بأن تصبح شبه جزيرة سيناء عش إرهاب برعاية الغزيين، ولا يزال، إسرائيل تعلمت بالطريقة الأصعب بأنه يجب الاستعداد لكل سيناريو".

مقالات مشابهة

  • بعد كلام تحريضي.. المخابرات توقف أحد الأشخاص في زحلة
  • موقع روسي: هذا هو الهدف الحقيقي من فكرة تهجير سكان غزة
  • كلام لافت.. هكذا علق وزير الاتصالات على حادثة طريق المطار
  • ما الواجب المباشر تجاه الفكر الحر في ظل استمرار السردية التكفيرية؟
  • محاكمة سقراط.. عندما يصبح الفكر جريمة
  • كلام عن تجنيس الفلسطينيين في سورية
  • هذا ما كشفته المنار عن أحداث طريق المطار.. كلام عن تحرك مشبوه!
  • أسوان تشهد ندوة تثقيفية لزيادة الوعى ومواجهة الفكر المتطرف
  • كاتب إسرائيلي يتحدث عن أسباب خشية النظام المصري من فكرة التهجير إلى سيناء
  • خبراء أردنيون: القمة العربية التي دعت لها مصر رسالة للعالم بوحدة الصف العربي ضد التهجير