الأبناء هم زينة الحياة، وقرة العيون، وبهجة النفوس، ومصدر سعادتنا في هذه الحياة، قال الله جل في علاه: {المال والبنون زينة الحياة الدنيا}[الكهف:46].
لا يقر قرار الإنسان، ولا يسعد إلا أن يرى أبناءه سعداء صالحين، مطيعين لربهم، نافعين لدينهم وأنفسهم وأوطانهم. ومن هنا كان سعي الآباء في تربية أبنائهم تربية صالحة ليسعدوا بها في دنياهم وآخراهم.
غير أن تربية الأبناء من أشد ما يقاسيه الإنسان ويعانيه في واقعنا المعاصر؛ إذ ليست التربية خطبة يخطبها الأب في أبنائه أو يلقيها المربي على أسماع من يربيهم، ولا هي درس يلقيه عليهم، أو حتى مجموعة من القواعد يحفظهم إياها في يوم أو يومين أو حتى شهر أو شهرين ثم يكونوا بذلك قد تلقوا تربية حسنة، وقام نحوهم بواجبه..
وإنما التربية عملية تراكمية تراتبية طويلة الأمد تمتد لسنوات طويلة، تبدأ من الولادة وتمتد حتى يشب الصغير ويترعرع ويبلغ مبالغ اليافعين والشباب.
معوقات وتحديات
إن العملية التربوية عملية معقدة جدا، ومُهمة أيضا جدا؛ إذ هي بناء للعقول، وتزكية للنفوس، وتهذيب للأخلاق، وإثراء للعلوم والفهوم، جنبا إلى جنب مع بناء الأبدان والأجسام، فهي عملية بناء متكامل بناء عقدي، وبناء علمي، وبناء خلقي، وبناء نفسي، وبناء جسدي.
ولو كان هذا البناء يتم دون معوقات لكان صعبا مضنيا، فكيف إذا كان مع كل هذا العناء يقابله تحديات كبيرة جدا، ووسائل هدم هائلة جدا: في المدرسة والمعهد والجامعة، وفي البيئة والوسط والجوار، في رفقاء السوء، وكذا مخططات الأعداء والمتربصين، وفي وسائل الإعلام التي تعرض فيها الشهوات، وتثار فيها الشبهات، وفي الفن الهابط الذي يثير الغرائز، ويؤجج المشاعر، ويدعو للفواحش، ويروج للخيانات الزوجية والأخلاق الردية، والتصرفات غير السوية، ويصدِّر للشباب قدوات تنادي بأعلى صوتها أن القيمة ليست في العلم، ولا التدين، ولا الأخلاق ولا المروءة ولا الشرف، وإنما يعلو المجد كل ساقط ومنحرف، ويحصد المال كل تافه فاسق، أو بلطجي فاجر، أو لاعب فارغ.
وأما العلم والعلماء، والجادون والمخلصون فلا نكاد نرى لهم وجودا كبيرا على الشاشات، ولا في المقابلات ولا بين القدوات.. زد على هذا كله مداخل ووساوس الشيطان، وأهواء النفس الأمارة بالسوء.
إنه بحر متلاطم من المغريات والتحديات والمعوقات غرق فيه كثيرون، وهرب آخرون من خوض لججه، وقدم كثير من الآباء والأمهات استقالة تربوية، تركوا على إثرها أبناءهم ليواجهوا أمواجه ويقاسوا أهواله كما يقاسي اليتامى أهوال الحياة بعد موت أبيهم أو أبويهم.. وهؤلاء أيضا يتامى لكنهم يتامى تربية وإن كان آباؤهم أحياء.. كما قيل:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من .. .. هـم الحـياة وخلـفاه ذليلا
إن الــيتيم هــو الذي تلـقى لـه .. .. أما تخلت أو أبا مشغولا
أثر الهرب من مسؤولية التربية
إن الهروب من المسؤولية التربوية لا يعود بالضرر فقط على الأولاد فيتركهم حيارى مشتتين ممزقين نفسيا، يقاسون الاضطراب والتشتت والتخبط، ومنازعات النفس في المقارنة بين ما هو مطلوب وما هو كائن، وبين الأخلاق والمروءة وما يعيشه الناس من تسفل وتدن، وبين ما يدعوهم إليه الدين ويمليه عليهم الضمير الحي والفطرة السليمة، وبين ما يشاهدونه في واقع حياتهم.. وهو أمر يسبب ندبا نفسية، وانكساراتٍ تربويةً لا علاج لها إلا بوجود أبوين أو مربٍّ حاذق مع ندرته.
أقول: إن التملص من المسؤولية التربوية يعود بالضرر أيضا على الوالدين.. وذلك من جهتين:
الأولى: خسارة الأبناء أخلاقيا وتربويا، فالابن الذي لا يربى على آداب الإسلام ومكارم الأخلاق وقواعد المروءة والنجدة والرجولة، يخرج في الغالب متفلتا أخلاقيا، معوجا نفسيا، عاقا لوالديه، بعيدا عن برهما، جاهلا بحقهما، وكثير منهم بعيد في معاملتهما عن اللطف واللياقة، ومتى كبر والداه فكثير منهم يأخذه ليرميه في دور العجزة والمسنين، إذ ليس في قاموسه بر ولا مروءة وحتى رد الإحسان بالإحسان.
وأما الجهة الثانية: فهي أن الأبناء أمانة جعلها الله في أعناقنا، ورعية استرعانا الله عليها، وأمرنا بالإحسان في تربيتهم، وسيسألنا عنهم يوم القيامة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[التحريم:6].
وقال سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه: (عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَلَا كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالْأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ، وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ)[متفق عليه].
قال العلماء: الراعي هو الحافظ المؤتمن الملتزم صلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره، ففيه أن كل من كان تحت نظره شيء فهو مطالب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه ومتعلقاته.
وقال عليه الصلاة والسلام: (ما مِنْ عبدٍ يسترْعيه اللهُ رعيَّةً، يموتُ يومَ يموتُ وهوَ غاشٌّ لرعِيَّتِهِ، إلَّا حرّمَ اللهُ عليْهِ الجنَّةَ)[البخاري ومسلم].
التربية علم وفن
وينبغي هنا أن نذكر ـ وبإلحاح شديد ـ أن العملية التربوية علم وفن، فقد أصبحت ـ خصوصا في زماننا ـ علما له قواعد وأصول، استحدثت فيه نظريات، وأجريت فيه أبحاث ودراسات، وألفت فيه كتب ومؤلفات ومجلدات، فينبغي على الآباء إن أرادوا تربية أولادهم تربية صحيحة أن يقرؤوا ويتعلموا، ويبحثوا ويأخذوا بأصلح ما يقرءون وما يتعلمون، فليس كل ما سُطِر في هذه الكتب يصلح للأخذ به لكل الناس، فإن ما يصلح لقوم لا يصلح لغيرهم، وما ينفع أهل ثقافة قد لا يتناسب مع أهل الثقافات الأخرى المختلفة عنهم، كما أن كل أصحاب عقيدة لهم ما يميزهم تربويا عن أصحاب العقائد الأخرى... ومن هنا اختلفت مقاصد العملية التربوية وأهدافها والتي على أساسها تتوجه العملية التربوية برمتها.
وإذا كانت بعض المناهج التربوية إنما تبحث عن إنتاج المواطن المجد العامل الدافع للضرائب، بغض النظر عن معتقداته أو أعماله أو تعاملاته فلا يحكمها حلال أو حرام، ولا شرع ولا دين. فإن الإسلام يريد من المسلم أن يربي ولده ليكون عبدا صالحا، مؤمنا تقيا، يؤمن بالله وبدينه، ويلتزم أخلاقيات الإسلام، ويراقب الله تعالى في علانيته وسره، وخلوته قبل جلوته، وهو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ثم هو يسعى بالعدل في الأرض ورفع الظلم عنها، وعن كل مظلوم، وهو في حياته عبد يعمر الأرض بقانون الله على مراد الله، فهو صالح في نفسه مصلح لغيره.
مصادر تربوية
وفي دين الإسلام ومنهجه وضع الله لنا في التربية خطوطا عامة وقواعد ضابطة، يجدها من تصفح كتاب الله ودرس سنة رسول الله وكيف كان يربي أتباعه وأبناء المسلمين، ويعلمهم كيف يربون أبناءهم. وأمثلة ذلك كثيرة جدا، في تعليمه للعقائد والعبادات والأخلاق والآداب والمعاملات، وفي كل ناحية من مناحي الحياة.
ومع ذلك لا يمنع أبدا أن يقرأ المسلم ويبحث عن الكتب النافعة في هذا الباب فإنه واسع جدا، وهناك أشياء لا يمكن تحصيلها إلا في بطون الكتب خصوصا ما كتبه أهل التخصص.
فينبغي الاستفادة من هذه المؤلفات، مع معرفة خصائص كل مرحلة، وكيفية التعامل مع أصحابها، فالتعامل مع الطفل يختلف عن التعامل مع الغلام ثم اليافع ثم المراهق ثم الشاب... وكذا التعامل مع الذكور يختلف كثيرا عن التعامل مع الإناث، وأهل التخصص يفرقون بين العوامل المشتركة بين الأبناء، وبين ما يتميز به كل طفل عن الآخر، فلا ينبغي أبدا إهمال الفوارق والاختلافات في الطباع وغيرها.
تكاتف لا بد منه
إن العملية التربوية عملية متكاملة ينبغي أن تتكاتف فيها كل الجهات والهيئات في المجتمع، وتتوحد فيها الأهداف والمقاصد، وتتعاون جميعها في إخراج المنتج المطلوب بالمواصفات المرجوة.
إذ لا يمكن أن تفلح عملية التربية وتؤتي ثمارها إذا كان البعض يبني والبعض الآخر يهدم، كما قيل:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه .. .. إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟
هذا إذا كان الهادم واحدا، فكيف إذا قل البناة وكثر الهادمون؟
فلو ألفُ بانٍ خلفَهم هادمٌ كفى .. .. فكيف ببانٍ خلفه ألفُ هادم
عن اسلام.ويبالمصدر: أخبارنا
كلمات دلالية: العملیة التربویة التعامل مع إذا کان م س ئ ول بین ما
إقرأ أيضاً:
خالد الجندي يشيد بمجلة "وقاية" الصادرة عن وزارة الأوقاف
أشاد الشيخ خالد الجندي، عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، بمجلة "وقاية"، الصادرة عن وزارة الأوقاف المصرية لمواجهة التفكك الأسرى فى المجتمع، لافتاً إلى أنها تسهم بشكل كبير فى مواجهة المشكلات الأسرية فى المجتمع.
وقال عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، خلال حلقة برنامج "لعلهم يفقهون"، المذاع على قناة "dmc"، اليوم الخميس، إنه تحدث في مقال له فى المجلة عن أهمية مفهوم "عقد الاتفاق" بين الأبناء والآباء، لافتاً إلى أن هذا الأمر ليس مجرد مصطلح حديث، بل هو مستمد من تعاليم الشريعة الإسلامية، حيث يشمل تربية الأبناء وتنشئتهم على قيم وأخلاقيات تؤسس لعلاقة منضبطة ومتوازنة معهم.
وأضاف أن هذا العقد لا يحتاج إلى توقيع رسمي، بل يكفي أن يتم تذكير الأبناء بالقيم والمبادئ التي يجب أن يسيروا عليها، مثلما كان يتم وضع الإرشادات على الحائط أو على ظهر الكراسة في الماضي.
وشدد على أن القرآن الكريم والسنة النبوية قد وضعا لنا أسسًا واضحة في التعامل مع العقود والعهود، وأنه من الضروري أن نلتزم بها في حياتنا اليومية بما يعود بالنفع على المجتمع والأسرة.