#ذكرى_النكبة و#النكسة ثم #الصمود
د. #حفظي_اشتية
آه، ما أشقى جيلنا!!
ولدنا بعد نكبة 1948م بعدة سنوات، ومع لبان الأمهات رضعنا حكايات مُرّة عن شعب كان آمنا في وطنه، راتعا في سربه، مدنه نجوم زاهرات، وموانئه بوابات العالم، وربوعه ميّاسه بالسنابل، وبرتقاله يطوف الدنيا، وقُدسه رديفة مكة والمدينة، وكنائسه مهوى الأفئدة في الشرق والغرب….
تكالبت عليه قوى الغرب الشريرة الماكرة، فتخلصت من سرطان الصهيونية في بلادها، وزرعته في جنبات هذا الوطن؛ ليكون رأس حربة مسنونة مسمومة في قلب العالم العربي الإسلامي إلى يوم الناس الأليم هذا.
حكايات عن المجازر التي تعرّض لها هذا الشعب تُحشى بها عقولنا الصغيرة، وتنحشر في حشايا قلوبنا الطرية: حكايات عن التشريد والتهجير والفزع الأكبر والترويع، وممتلكات يتركها أهلها وهم تحت هول القصف وهمجية العدوان يهربون لا يلوون على شيء، يفقدون الذاكرة، تتزلزل قلوبهم، ويتزعزع وعيهم، ويتضعضع إدراكهم، فتنسى المرأة مصاغاتها الذهبية وهي بين يديها وتحت نظر عينيها، بل تذهل كل مرضعة عما أرضعت فتراها تحمل الوسادة، ضنينة بها، حريصة عليها، تضمها في حضنها، تظنها وحيدها!! والرصاص فوق الرؤوس يلعلع في كل مكان، وموجات التتار تهاجم كالجراد المنتشر، طلعها كرؤوس الشياطين، وقهقهاتها العابثة الماجنة تملأ الرحب وتصكّ الآذان…. والمقاومون تدوسهم جنازير المدرعات وهم متمترسون في خنادقهم، والجيوش العربية المُنقذة تائهة حائرة متفرقة لا تنسيق بينها، عددها قليل وعتادها كليل، تحتاج إلى من ينقذها، رغم البطولات الهائلة التي أبداها الجنود الأبطال الشرفاء في محاولات النجدة والصمود.
هكذا كانت طفولتنا تئنّ تحت لظى حكايات هذه الذكريات، ونرى ــ عيانا ــ إخواننا المهاجرين المشردين قرب مدننا وقرانا في خيام بائسة، أو يتكدسون في بيوت كعلب الكبريت، قد هدمهم همّهم، يجترّون الأسى، يهدّهم حنينهم إلى وطنهم، ويكابدون الأمرّين للظفر بلقمة القوت المغمسة بالذل والهوان، يترقبون أي خبر عزيز المنال عن أقارب لهم تشتتوا في البلدان المجاورة، وتقطعت بينهم السبل والأسباب، ولا يبقيهم على قيد الحياة سوى أمل مرقوب بالعودة، تغذّيه “راديوهات الترانسستور” تحمل أنباء انقلابات دموية تعمّ أرجاء المشرق العربي، وخطابات مفرطة الحماسية بأن الغضب الساطع آتٍ، وثأر الموتور قادم، والوطن السليب ــ لا محالة ــ عائد عائد.
وانطوت باكورة أعمارنا على هذه الحال، إلى أن هبّت نسائم حزيران 1967م….
كانت تلك السنة سنة خِصب غير عادي : مطر غزير، وخير وفير، ومرعى أحوى، وأنعام منعَّمة، وأمواج السنابل في السهول والهضاب تأخذ بالألباب….
والقلوب المسكونة بالروع تخشى النعمة، وتستعيذ بالله من عاقبة الضحكة، كنا نسمع أهلنا من كبار السن الحكماء المشحونين بطيرة التجارب يرددون : “الله يسترنا من هالسنة”، فنستغرب إغراقهم في التشاؤم، وروعهم المَرَضيّ من مجهول الغيب المنتظر.
تطايرت أخبار عن نوايا العدو في الشمال، فانبرى الجنوب للفزعة والنصرة، وضجّت الإذاعات بالخطابات والتعبئة المعنوية المتخمة، وتجوّعَ السمكُ ينتظر الوجبات المُدسمة، وهبطت طائرات تحمل الوفود وأقلعت، وعُقدت اتفاقيات للدفاع العربي المشترك، وانعقدت اجتماعات على عجل للتعليق الطارئ عند الغارة، وأُغلقت معابر ومضائق، وتعهّد الأخ الكبير بأن يغطي السماء بطائرات الأبابيل تحمي الآفاق ليتفرغ الجنود على الأرض لمجابهة الأعداء، واصطخبَ صوت ساحر المذيعين، وتكثفت الحفلات الغنائية وليالي الأنس والسمر، وتحلّب اللعاب للحفلات القادمة قريبا على مسارح يافا وحيفا…..
وتمهيدا لذلك في ليلة 1/6/1967م،أي قبل أربعة أيام فقط من صبيحة النكسة، وفي سينما قصر النيل بالقاهرة، وسط جمهور كبير هائج مائج صائح جائح…. صدحت حنجرة أم كلثوم بلسان صلاح جاهين ونبضات قلب رياض السنباطي :
” راجــــعيـــن بــقـــوة الــســلاح راجعــين نــحــرر الــحــمـــى
راجــعين كما رجـــع الصـــباح مـــن بـــعد لـــيلــة مـــظلــمة
جيش العروبة يا بطل الله معـــك ما أعظمك ما أروعك ما أشجعك!
مأساة فلسطين تدفعك نحو الحــدود حوّل لها الآلام بارود في مدفعك
يا أرض يا مسجونة سجنك رح يزول شــعبك على الأبواب مسلّح بالأمل
كلمة فلســـطيـــن زي دقات الطـــبول بتقوّي وتحمّس وتدفع للعمل”!!!
كنا في حالة غريبة من الهستيريا العاطفية، نتلهف لهذا الأمل الموعود، والعمل على تحرير السجينة المنتظرة منذ عقود. كم غلبتنا الحماسة، وتفجرت في جوانحنا الآمال، وسما بنا الخيال فوق السحاب وشواهق الجبال!!! آااه، ما أشقانا بمُنانا!!!
وقد تكون المنية في الأمنية، فما هي إلا بضعة أيام حتى أفقنا مصدومين مصروعين من لذيذ المنام، وسحر الأحلام :
طائرات مدمَّرة في مرابضها، وجيوش شريدة طريدة، وأراضٍ عربية عزيزة محتلة جديدة، وجواهر من مدن الأوطان ودرّتها زهرة المدائن تضاف إلى الأسيرة السابقة السليبة الماجدة المجيدة….
إنه واقع انصدعت له أفئدتنا صدوعا لم يرأبها كرُّ السنين، وما زالت تقضّ مضاجعنا آناء الليل وأطراف النهار وفي كل حين.
وانطوت عقود تلو عقود، ونحن نتأرجح بين مرارة الواقع وبوارق الأمل، وتوالت محاولات، وتعاظمت تضحيات…. وكانت الثمرة الدانية الغالية الحقيقة أننا أتقنّا فنّ الصمود، والظفر برسائس الحياة، وإبقاء القضية العادلة ساخنة طازجة على موائد العالم الظالم في هذا الوجود.
وجاءت الوقعة الأخيرة ممهورة بصدق الشهادة وطهارة الدم ونزف الجراح، والصبر على الجوع والعطش والمرض والتشريد والأسر والتدمير والخذلان، مجبولة بالإعداد الصامت، والاستعداد الواعي، والعمل بعيدا عن التظاهر، عميقا في أحشاء الأرض المباركة، بالعزيمة الصادقة والهمة العالية، والتدريب الدائب…..
جاءت لتثبت أن الأوطان لا تحرر بالحفلات الغنائية والخطابات الاستعراضية العرمرمية، ولا بالألاعيب السياسية نكون فيها كمستبضع التمر إلى هجر، ولا بالركون إلى مكر الأعداء وموالاتهم واستظلال ضلالهم….
جاءت لتؤكد المؤكَّد أن حقا وراءه مطالب لن يضيع، وأن هالة قوة العدو رسمها خيال ضعفنا وتفرقنا وتآكل ثقتنا بأنفسنا. وها نحن قادرون على إذاقته المرار، وتجريعه كأس الذل، وكشف خَوَره ونقاط ضعفه، وإسالة دمه، وترويع جنده ومواطنيه لاستثارة تفكيرهم وإعادة حساباتهم في شأن مغادرة بلاد لا حق لهم فيها، ولا راحة سينعمون بها إن استكبروا وأصروا على استمرار عدوانهم، واغتصابهم لما ليس لهم.
جاءت لتعيد فتح الكتاب من جديد، من السطر الأول، في الصفحة الأولى، بل من العنوان المشعّ المشرق بأن هذه الأرض عربية إسلامية لن تكون إلا لأهلها الشرعيين، ومُلّاكها الحقيقيين، نبقى صامدين فيها مهما عانينا وكابدنا، نستحضر ذكرى قوافل تترى من الشهداء العرب والمسلمين على هذه الثرى الطهور عبر العصور، وندفع كل فجر مهرها الغالي، ونُتبعه في الليل بما هو أغلى، إلى أن يكون لهذا الليل فجر صادق، وحتما سوف يكون.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: الصمود
إقرأ أيضاً:
على مدى عقود.. كيف طوّر السوريون لغة مشفّرة خوفا من نظام الأسد؟
نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية، تقريرًا، سلّطت فيه الضوء على اللغة المشفرة التي كان السوريون يستخدمونها، على مدى عقود، خوفًا من أجهزة نظام بشار الأسد المخلوع، التي كانت تزرع الرعب في المجتمع.
وقالت الصحيفة في تقريرها الذي ترجمته "عربي21"، إنّ: "السوريين توارثوا الخوف من النظام وأجهزته الأمنية جيلا بعد جيل، في المقاهي وسيارات الأجرة والأسواق، ولم يكن بإمكان معظمهم التحدث بحرية خوفًا من أن تتنصت عليهم مخابرات الأسد".
وأضافت أنّ: "النظام السابق عمل على زرع الخوف في المجتمع، إذ امتدّت جذوره إلى كل جانب من جوانب الحياة المدنية للحفاظ على قبضته، وأي شخص كان يُحتمل أن يكون مخبرًا".
يقول أيمن رفاعي (26 سنة)، وهو من سكان دمشق: "وصل الخوف في البلاد إلى درجة أنك تشعر أنه لا يمكنك أن تثق بأفراد عائلتك".
وحسب الصحيفة، فإنّ: "حالة الخوف جعلت السوريين يبتكرون طرقًا للتكيف مع هذا المناخ من المراقبة؛ حيث طوروا لغة مشفرة سمحت لهم بمناقشة كل المواضيع، بدءًا من التجارة اليومية إلى المخاوف الشخصية، وصولا للانتقادات المبطّنة للنظام، وكانت هذه الشيفرة تُستخدم بين العائلة والأصدقاء الموثوق بهم".
"خطه جميل"
تقول مؤلفة كتاب "الوطن الذي كان وطننا: مذكرات عن سوريا"، علياء مالك، إنه: "كان لا بد من وجود لغة مشفرة بين السوريين لأنه لم يكن هناك حرية تعبير حقيقية. لم يكن بوسعك أن تعرف من الذي يستمع إليك، بغض النظر عن مكانك". ووصفت النظام المخلوع، بالقول: "حتى في غيابه، كان حاضرًا".
وقالت ميسون (49 سنة)، والتي طلبت عدم ذكر اسمها كاملا خشية من انتقام أنصار الأسد: "لم نكن نتحدث إطلاقًا عن النظام. إذا أردنا التذمر من شيء ما، كنّا نستخدم أصابعنا ونشير للسقف الذي يعني الحكومة".
وأضافت ميسون التي عاشت في لبنان وفرنسا بعد أن هاجرت من سوريا، أنه عندما كان السوريون يشكّون في أن شخصا قريبا يعمل كمُخبر، يقولون: "هذا الشخص خطه جميل"، مشيرة أنها لم تشعر أبدًا بالأمان حتى خارج البلاد.
وأوضحت أنها كلما قابلت مجموعة كبيرة من السوريين، كانت تتساءل إن كان أحدهم "خطه جميل". هربت ميسون مع عائلتها من دمشق نحو بيروت سنة 2012، وهناك بدأت ابنتها البالغة من العمر 7 سنوات تسمع من الجيران قصصا عن فظائع الأسد، رغم أن والدها ووالدتها قد بذلا جهدًا كبيرًا حتى لا تسمعها.
بعد مرور سنة، قرروا العودة إلى سوريا متشبثين ببصيص الأمل في مستقبل أفضل، لكن سرت شائعات بأن الحراس عند نقاط التفتيش كانوا يسألون الأطفال عن القائد السياسي المفضّل، كحيلة لقياس ميول الوالدين.
قبل مغادرتهم إلى سوريا، جذبت ميسون ابنتها الصغرى جانبًا وقالت لها: "لا تصدقي ما قاله جيراننا عن الأسد. هو رجل جيد".
البقدونس والنعناع
تابعت الصحيفة، أنه عندما أطاح الثوار بالأسد هذا الشهر، بعد هجوم مفاجئ، شعر السوريون أنهم أصبحوا قادرين على التحدث بحرية.
وأوضح رفاعي: "نحن نقول للناس لماذا تخفضون أصواتكم؟"، مضيفًا أنه لم يصدق أنه يمكنه استخدام اسمه الكامل أثناء حديثه مع الصحفي، وتابع: "ليس هناك ما يدعو للخوف".
وقال ثابت برو، (60 سنة)، وهو عالم حاسوب نشأ في دمشق ويعيش في دبي: "الآن يمكنني استخدام اسمي الحقيقي". على مدار سنوات، كان يستخدم أسماء مستعارة للتعبير عن آرائه على الانترنت.
وأضاف برو أنه أثناء إقامته في سوريا، لم يكن يقول كلمة "دولار" في الأماكن العامة، مضيفًا: "كان الناس يشيرون إليه بالأخضر. وبمجرد أن اكتشفت السلطات تلك الشيفرة، قاموا بتغييرها إلى أسماء أخرى تشير إلى اللون الأخضر، مثل البقدونس أو النعناع".
ولم يكن الاتجار بالعملات الأجنبية قانونيا في معظم فترة حكم الأسد، حيث يُعاقَب عليه بالسجن لسنوات، وذلك بهدف السيطرة على سعر صرف الليرة.
كذلك، كان الخوف من الاعتقال قد سيطر على أذهان السوريين منذ بداية حكم حافظ الأسد، والد بشار. منذ ذلك الحين، كانوا يشيرون إلى الذهاب إلى السجن على أنه "الذهاب إلى بيت خالتك"، مثلما روى العديد من السوريين.
حفل استقبال وفنجان قهوة
حسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، قد تعرّض أكثر من 110,000 معتقل "للاختفاء القسري" على يد النظام منذ سنة 2011، وتوفّي أكثر من 15,000 بسبب التعذيب.
اعتُقل عبد الوارث لحام (45 سنة) لمدة يومين في كانون الثاني/ يناير 2012؛ حيث تم اعتقاله أثناء مشاركته في مظاهرة مناهضة للحكومة خلال الانتفاضة الشعبية ضد الأسد.
قال لحام إنه تعرّض للضرب لساعات باستخدام السياط والقضبان المعدنية، مضيفًا: "لقد فوجئت بمدى قدرة الجسم البشري على التحمل".
يتذكر لحام تجربة الاعتقال، قائلا إنه كان يُطلق على الضرب الذي يتعرض له السجين في بداية اعتقاله "حفل استقبال". بعد ذلك، يلقى الحراس محاضرة على السجناء عن "المعنى الحقيقي للحرية".
وذكرت الصحيفة أنّ: اللغة المشفرة لم تقتصر على المدنيين، فقد استخدم نظام الأسد معجما خاصا به. قالت علياء إنه عند استدعاء شخص ما للاستجواب، كانت الشرطة السرية أو المخابرات تدعوه إلى "كوب من الشاي"، بينما أوضح لحام أن ذلك يُطلق عليه : "فنجان قهوة، إذا كان الأمر أكثر شدة".
ومن عبارات التهديد التي كان أتباع النظام السابق يستخدمونها: "هل تعرف مع من تتحدث؟"، في إشارة إلى أن الشخص قريب من آل الأسد، وقال لحام: "لقد عانينا من هذه العبارة. أنّها تنهي أي محادثة".
وختمت الصحيفة أنه رغم سقوط نظام الأسد وعودة آلاف السوريين إلى وطنهم، فإن عقودًا من الخوف لا تزال آثارها راسخة في نفوسهم. إذ عبّر برو عن ذلك بالقول: "لا تزال الكوابيس تراودني بأن هذا الأمر برمته مجرد حلم، وأنهم سيأتون في النهاية ليعتقلوني".