المعلوم أن هذا الوصف فيه مقارنة بين مكرين: مكر الإنسان ومكر الله. والمعلوم كذلك أن الله يقول في قرآنه الكريم إن الإنسان خصيم لربه مبين. ولا يمكن فهم هذه المقارنة إذا بقينا نعتقد أن ما يسمى بالذكاء الصناعي أمر جديد لأنه يبدو من مكر الإنسان الذي يجعل الآلة  الذكية من أدواته التي وصلت إلى درجة منافسته في المبادرة الفعلية التي تبدو مستقلة عنه أي إن كونها صناعية وغير عضوية هو المحير في الأمر.



لذلك بدأت ببيان أن الحضارة تنتج عن قدرة الإنسان على الخلق والأمر أولا وعلى أبقى مصنوعاته عليه بحيث يصبح الصانع خاضعا لمصنوعه. وذلك هو معنى الذكاء الصناعي المخيف.

 لكن هبنا افترضنا النسبة بين الذكاء العضوي عند الإنسان والذكاء الصناعي الذي صنعه الإنسان قابلة لتعريفهما بكونهما "المكر الإنساني" في التعامل مع الأشياء طبيعية كانت أو إنسانية فإن الذكاء العضوي في الإنسان من حيث هو كائن حي يمكن اعتباره ناتجا عن ذكاء صناعي هو "المكر  الإلهي".

بحيث إن الذكاء العضوي الإنساني يعد هو بدوره "ذكاء صناعيا" لصانع مكره أقوى من مكر الإنسان أي إنه المكر الإلهي: فالمكر الإنساني صنيعة المكر الإلهي وقد يأبق على صاحبه ولكن ليس على خالقه.

فماذا يمكن أن يكون هذا الذكاء الصناعي في العضوي الإنساني إذا اعتبرنا علاقته بمكر الله الخالق للإنسان بحيث إن الذكاء العضوي الإنساني نسبي ومتناه بالقياس إلى ذكاء صناعي إلهي من طبيعة مجهولة لأنه من الغيب الذي يحيط بأفعال الله. وما يغفل عنه الكثير من المتطلعين ومكثري الحديث عن العقل والعقلانية هو أنه من الذكاء العضوي وهو ما نعلم منه إلا القليل.

إن الذكاء العضوي الإنساني يعد هو بدوره "ذكاء صناعيا" لصانع مكره أقوى من مكر الإنسان أي إنه المكر الإلهي: فالمكر الإنساني صنيعة المكر الإلهي وقد يأبق على صاحبه ولكن ليس على خالقه.والغالب على علمنا بأفعاله مجهول المجهول منها لا يتناهى بالقياس إلى المعلوم وهو لأننا لا نعلم بعد كيف يعمل الفكر عامة والدماغ خاصة ليكون قادرا على مكر "الحيل" الرياضية المحررة من الضرورة  الطبيعية في النظر ومكر "الحيل" الخلقية المحررة من الضرورة الطبيعية في العمل.

1 ـ فـ"الحيل" الرياضية ثمرة مكر يحرر النظر من التحدد المضموني الطبيعي المادي ويكتفي برموز قابلة لتأويل شبه لا متناه به تصاغ الظاهرات الطبيعية إذا كانت بنيتها قابلة للقول به لسانا يعبر عنها.

2 ـ  و"الحيل" الخلقية ثمرة مكر يحرر العمل من التحدد المضموني الخلقي الروحي ويكتفي برموز قابلة لتأويل لا متناه به تصاغ الظاهرات الحضارية إذا كانت بنيتها قابلة للقول به لسانا يعبر عنها.

فتكون الإشكالية في محاولة فهم تاريخ الفكر الإنساني الذي هو "حيل أو مكر" إنساني استراتيجية في علاقته بالعالم الطبيعي والتاريخي وفي علاقته بذاته بدنيا وروحيا يحاول بها فهم المكر الإلهي في نظام الخلق والأمر المتعالي على مكره والذي يسعى لرده إلى مكره. 

وإذا فنحن أمام سؤالين يشترك فيهما الفلسفي والديني وهما:

1 ـ لماذا يوجد شيء بدل لا شيء وكلاهما ممكن وليس ضروريا وهذا هو التوجيه العقلي الذي هو ذكاء صناعي عضوي؟

2 ـ ولماذا ما يوجد يكون بالكيف الذي يبدو عليه في حين أن الكيوف الممكنة لا متناهية؟  

فما سر إبداع الخطط الاستراتيجية في الإنجاز الفعلي المعبر عن الإرادة الحرة عند الإنسان عندما يتوهم أن ذلك ممكن من دون البرمجة التي نفترضها قد "صنعت" المكر الإنساني أي الفكر الحر والنابع من الكيان العضوي ورمزه هذه القدرة التوجيهية التي تميز بين الممكن والواجب والممتنع.

فالفكر الإنساني ليس من جنس المرآة التي نرى على سطحها انعكاس ما يرتسم على سطحها ويمكن أن نسمي الفرق بأنه شرط ما يسميه ابن تيمية "التقدير الذهني" الذي لا يرد إليه ما عليه الشيء بل ما يتوقعه الفكر الإنساني ويعدله حتى يصل إلى ما يعتبر كافيا للدلالة عليه ما يعني أنه من جنس أي صناعة لجهاز فاعل في شيء ما متعين طبيعيا هو من "صناعة" المكر الإلهي في الشيء من حيث هو مخلوق صنع إلهي لا يرد إلى ما ندركه منه.

جواب القرآن هو ما رد به الرب على الملائكة لما أعلمها بأنه جاعل في الأرض خليفة واختار الإنسان للاستخلاف. فلما عبرت عن استغرابها لعلمها بأن الإنسان يفسد في الأرض ويسفك الدماء رد الرب بأنه يعلم ما لا يعلمون وعلم آدم الأسماء كلها. فيكون ذلك هو سر ما يمكن ان يحرر الإنسان مما ظنته حتميا في سلوكه أي الفساد في الأرض وسفك الدماء: حرية الإرادة ورجاحة الحكمة المضمرين في تعلم الأسماء.

تعليمه الأسماء هو "البرمجة الطبيعية" التي تمكنه من القدرة  على تسمية الأشياء كلها وهي قدرة نسبتها إلى الحيوانية هي ما يجعله قادرا على الخير والشر. فيمكنه إذن أن يصلح أو أن يفسد ويسفك الدماء بالطبع. وتلك هي نسبة الذكاء الصناعي إلى الذكاء العضوي.

وهو ما يعني أن  ذلك من جنس  الذكاء الصناعي القادر على الأبق فيتحرر من الاستجابة لصانعه وهو ما لم يحصل بالنسبة إليه الآن ونتخوفه من حصوله في المستقبل لكنه حاصل للذكاء العضوي عند الإنسان لكونه ذكاء حر يحتوي على القدرتين الخيرة والشريرة وهو ما حكمت الملائكة بمقتضاه لجهلها بما علمه الله من قدرة على التسمية التي تجعله يفعل ذلك على علم. فالقدرة على تعويض التعامل مع الأشياء بالتعامل مع أسمائها التي ترمز إليها وكأنها مطابقة للمسميات هو مدى ما له من قدرة على الخير والشر في آن. فيكون فعل نظام الرموز وكأنه نظام فعل المرموزات وهو سر كل الشر القصدي في الخداع التواصلي والتبادلي وغير القصدي عند من لا يميز بين الرمز والرموز .

 وعندنا مثالان يحكمان كل حياة البشر أي أداة التواصل (الكلمة) وأداة التبادل (العملة).  فكلتاهما تمكن الإنسان من أن يستعملهما للضدين بحيث إنهما فاعليتان حرتان لهما قدرة مضاعفة لفعل الضدين.  وبذلك يكون الإنسان بالقدرة على استعمال الاسم بديلا من المسمى  قد برمج بصورة تجعل التواصل والتبادل فعلين حرين: ويترتب على ذلك أن التواصل صادقا أو كاذبا والتبادل عادلا أو ظالما.

1 ـ فيكون التواصل للخداع في مستوى المعاني (الكذب أو المعنى المزيف مثل الكلمة المزيفة)

2  ـ ويكون التبادل للخداع في مستوى القيم (الغش أو القيمة المزيفة مثل العملة المزيفة).

واستعمال الكلمة والعملة بالطريقتين الموجبة والسالبة هو حرية الإرادة العضوية التي تجعل المكر الإنساني مستقلا عن المكر الإلهي رغم أنه مبرمج خلال صناعته على هذه القدرة التي هي حريته أو خروجه عما يريده الله منه من خير لكنه لا يخرج حقا لأن ما يريده من شر هو أيضا ثمرة برمجته الإلهية ومن ثم فما يشبهها هو أيضا من برمجة المكر العضوي للمكر الصناعي، فكلنا يعلم ما يلي من خلال تحليل امثولة العجل الذي صار بديلا من الرب في غياب موسى: فالعجل إله بمعدنه (العملة) وبخواره (الكلمة):

1 ـ فالعملة (رمزها الذهب الذي هو معدن العجل) هي السر في جعل التبادل يصبح قابلا لأن يكون تطفيفا وسلطانا على المتبادلين وليس مجرد أداة لتبادل للقيم.

الغالب على علمنا بأفعاله مجهول المجهول منها لا يتناهى بالقياس إلى المعلوم وهو لأننا لا نعلم بعد كيف يعمل الفكر عامة والدماغ خاصة ليكون قادرا على مكر "الحيل" الرياضية المحررة من الضرورة الطبيعية في النظر ومكر "الحيل" الخلقية المحررة من الضرورة الطبيعية في العمل.2 ـ والكلمة (رمزها الخوار الذي هو كلام العجل) وهي السر في جعل التواصل يصبح قابلا لأن يكون تضليلا وسلطانا على المتواصلين وليس مجرد أداة تواصل.

وإليك كيف يكون ذلك ذكاء صناعيا متحررا من الذكاء الطبيعي أو قابلا لأن يحصل في الضدين دليلا على قابلة الأبق أي الخروج عن الإرادة والحكمة الإنسانيتين  اللتين له من حيث كيانه الروحي الذي يميز بين الخير والشر:

1 ـ فالكلمة والعملة كلتاهما يمكن أن تكونا معبرتين عن المعاني في التواصل الصادق
2 ـ وعن القيم في التبادل العادل.
3 ـ والكلمة والعملة كلتاهما يمكن أن تكونا معبرتين عن المعاني في التواصل الكاذب وعن القيم في التبادل الظالم.
4 ـ لكن الكلمة يمكن أن تعمل عمل العملة: فتصبح تبادلا عادلا أو ظالما. إذ كل تبادل يسبق كلام حول طبيعته وشروطه وسعره بضاعة كان أو خدمة.
5 ـ العملة يمكن أن تعمل عمل الكلمة: فتصبح تواصلا صادقا أو كاذبا. إذ كل كلمة تتعلق ببضاعة أو بخدمة في المعاملات.

ولهذه العلة فإن القرآن حرم ربا الأموال الذي هو تحول العملة إلى سلطان على المتبادلين وهي حينها تصبح جوهر التطفيف الذي يمس الميزان في التبادل الرامز للعدل وهو في الكيل والاكتيال وهو التطفيف والغش.

ولهذه العلة حرم القرآن ربا الأقوال الذي هو تحول الكلمة إلى سلطان على المتواصلين وهي حينها تصبح جوهر الكذب الذي يمس الميزان في التواصل الرامز للصدق وهو أن يقول الإنسان ما لا يفعل ويفعل ما لا يقول وهو النفاق والخداع.

مثلما أن العملة المزيفة هي الحد الأقصى في ربا الأموال وكل المعاملات التبادلية ومنها التضخم فكذلك الكلمة المزيفة هي الحد الأقصى في ربا الأقوال أي في الشعر والعلم وأدب وكل المعاملات التواصلية.والقرآن يعلمنا بأن الله أعلن الحرب على ربا الأموال وسلط أشد مقته على من يقول ما لا يفعل. ولم يطبق ذلك على الشعراء مثالا يبين فيه أن الشعر يغلب عليه ذلك لكن فضله يكون في نسبة التجارة للربا هي حلال وهو حرام فيكون المحرم في الشعر هو في نسبة الربا للتجارة.

الشعر حلال مثل التجارة إذا كان قولا مطابقا للفعل فلا يكذب ولا ينافق. وهذه المقابلة تصح أيضا على المعرفة والعلم وكل المعاملات التواصلية صحة المقابلة بين التجارة والربا. ومثلما أن العملة المزيفة هي الحد الأقصى في ربا الأموال وكل المعاملات التبادلية ومنها التضخم فكذلك الكلمة المزيفة هي الحد الأقصى في ربا الأقوال أي في الشعر والعلم وأدب وكل المعاملات التواصلية.

وختاما فإن جل المعاملات التبادلية والتواصلية المزيفة هي السر في التخلف المادي والانحطاط الخلقي. وهما إذا المقياس الذي استعمله للكلام على التعامل التبادلي والتعامل التواصلي في البلاد المتخلفة خاصة لكنهما لا يخلو منهما مجتمع.

وما يعنيني من المسألة هو سيطرتهما في بلادنا لأنهما سر التخلف والانحطاط وخاصة في المعاملات التواصلية في كل ما يسمى فكرا وأدبا وإبداعا. فيمكن القول إن أكثر من 99 في المائة منها خداع في خداع، أي تواصل مزيف وتبادل مغشوش. ولما كنت لست معنيا بربا الأموال في هذه المحاولة فإني سأركز على التواصل العلمي والعملي أي المشترك بين الفلسفي والديني في النظر والعقد وفي العمل والشرع.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير الله قرآنه قرآن رأي الله خطاب أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الذکاء الصناعی الطبیعیة فی قدرة على الذی هو یمکن أن وهو ما

إقرأ أيضاً:

محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق

إن المتدبِّر في محكمات الشريعة ومسلماتها، ليتهادى بين يديه ويقف شاخصا بين عينيه؛ ذلك التطرُّق المصلحي النَّفعي للعباد في تفاصيل الأحكام ولميَّاتها، وتلك المكارم والنفحات الإلهيَّة التي ينصبغ بها الخطاب المؤسِّس للتَّكليف؛ فلا تكاد ترى ذلك الأمر أو النَّهي الجازمين، إلا وترى -في الحين عينه- ذلك التَّحنان والامتنَان الذي يمازجهما ممازجة الدَّم اللحم، فلا ينقطع حضورُ قلب المكلَّف عن شُهُود هذه المعاني، وإن كان الذي يطرقُ السَّمع في معطاه الظَّاهري هو من بابة الحثِّ أو الزَّجر؛ يقول العِزُّ بنُ عَبْدِ السَّلَامِ -رحمه الله- في (قَوَاعِد الأحكام): “التكاليفُ كلُّها راجعةٌ إلى مصالحِ العبادِ في دنياهم وأُخراهم، واللهُ غنيٌّ عن عبادةِ الكلِّ؛ ولا تنفعُه طاعةُ الطائعين، ولا تضرُّه معصيةُ العاصين”.

وهذه الكليَّة الشرعية المتدبَّرة في التَّوجيهات الإلهية والنبوية؛ لتُوحي لمعاشر المجتهدين وفئام النُّظار، أنه لن يُستفرغ الوسعُ، ولن تُؤدى رسالةُ البلاغ، ولن تلامسَ الأرواح برْدَ اليقين؛ ما لم يكن العطاء المحاسني والإيحاء المقاصدي عضيدًا للألفاظ في ساحة مدلولاتها، وأنيسا للأقيسة في سماءات إلحاقاتها؛ يقولُ شَيْخُ الإِسْلَامِ ابنُ تَيْمِيَّةَ -رحمه اللهُ- في (مجموع الفتاوى): “وَإِلَى سَاعَتِي هَذِهِ؛ مَا عَلِمْت قَوْلًا قَالَهُ الصَّحَابَةُ وَلَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا وَكَانَ الْقِيَاسُ مَعَهُ، لَكِنَّ الْعِلْمَ بِصَحِيحِ الْقِيَاسِ وَفَاسِدِهِ مِنْ أَجَلِّ الْعُلُومِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ مَنْ كَانَ خَبِيرًا بِأَسْرَارِ الشَّرْعِ وَمَقَاصِدهِ، وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمَحَاسِن الَّتِي تَفُوقُ التَّعْدَادَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَا فِيهَا مِنْ الْحِكْمَةِ الْبَالِغَةِ وَالرَّحْمَةِ السَّابِغَةِ وَالْعَدْلِ التَّامِّ”.

إنَّ هذا المشهد والذي يضرب فيه المددُ المحاسني بعمقٍ، ليسجلُ هذا التجلِّي أن يكون المكوِّن المحاسني حاضرا في ميادين العلوم وساحات الفنون الشَّرعية، ولياذننَّ أن يتبوئَ من مقعدها خير متكئٍ، وأن يتفيئَ من باسقها أوفر ظليليةٍ؛ فهو القادح لزناد المقايسات العليَّة، والناظم لجمعيَّة الدلالات اللفظيَّة، وهو الذي يتصدر جيدُه وينبض وريدُه، ويُلقي أسمال الحياة ويبعث إكسيرَ الخلود في شخوص تلك الفروع وطُوليات الأحكام المسبحة بكمال وجمال إرادة الربِّ الشرعية؛ يقولُ الشيخُ وَلِيُّ اللهِ الدِّهْلَوِيُّ -رحمه الله- في (حجة الله البالغة)، وهو يؤسس لعملقة

هذا الفنِّ النَّوراني: “هذا؛ وإنَّ أدقَّ الفنونِ الحديثيَّة بأسرِها عندي، وأعمقَها محتدًا، وأرفعَها منارًا، وأَوْلى العلومِ الشَّرْعِيَّة عن آخرها فيما أرى، وأعلاها منزلةً وأعظمها مقدارًا: هو علمُ أسرارِ الدِّين، الباحثُ عن حِكَمِ الأحكامِ ولمِّياتِها، وأسرارِ خواصِّ الأعمال ونِكاتِها؛ فهو -واللهِ- أحقُّ العلومِ بأنْ يَصْرِفَ فيه مَنْ أطاقَه نفائسَ الأوقات، ويتَّخذَه عُدَّةً لمعادِه بعدما فُرِضَ عليه من الطاعات؛ إذْ به يصيرُ الإنسانُ على بصيرةٍ فيما جاء به الشرع، وتكونُ نسبتُه بتلك الأخبارِ كنسبةِ صاحبِ العرُوضِ بدواوين الأشعار، أو صاحبِ المنطق ببراهين الحُكماء، أو صاحبِ النَّحْو بكلامِ العَرَبِ العَرْباء، أو صاحبِ أصولِ الفقه بتفاريعِ الفقهاء، وبه يأمنُ من أن يكونَ كحاطبِ ليل، أو كغائصِ سيل، أو يخبطَ خبطَ عشواء، أو يركبَ متنَ عمياء”.

ثم إنه -بعد وارق هذا الفَنَن- لم يلبث قلمُ الفكر الإسلامي، وفي وقت مبكِّرٍ من الولادة التدوينية: أن تمسَّ أناملُ الصَّنعة وأن تبحرَ سفائنُ الكَشف، عن ذلك الخِدر الطَّاهر والخِبء النَّادر والمشرع المورود؛ فأفصحَ لسانُ الحقيقة والمجازِ عن سُدَّة الإعجاز، وتطاوحت هامة العقلِ المبجَّل ساجدةً بين يدي إحكامات وإتقانات الوحي المنزَّل، وأمطرت زُبُرُ الأحكام وصُحُف التكليف غَيثًا غَدَقًا مُجَلَّلًا طبَقًا؛ حتى اخضَّرت أرواح النَّاظرين والمتدبِّرين، وَرَبَتْ وأنبتت من كل زوج بهيجٍ.

وفي هذا العمر الوليد من تاريخ التدوين الإسلامي، وفي قرنه الرَّابع الهجري، وهي طبقةٌ مبكرةٌ، ربما لم تشبَّ فيها بعضُ العلوم المركزيَّة؛ أطلَّ علمُ محاسن الشريعة، وأيُّ إطلالة كانت؟! فقد سُجِّل في هذا القرن عددٌ من مصادر ومدوَّنات هذا الفن التشريعي، ثم قدمت هذه المصادرُ مادة إثرائية رائدة، وكأنَّه عصر من عصور النَّهضة والنُّضوج العلمي؛ وقد كان من أقطاب هذا النَّتاج المبتكر والمفتخر:

– الإمام الحافظ العارف الزاهد، أبو عبد الله محمَّد بن علي بن الحسَن بن بشر الحَكيم التِّرمذي؛ صَاحب المصنَّفات الكبار في أُصول الدين ومعاني الحَديث، والذي عاش إلى حدود سَنة (320هـ)؛ وذلك في كتابه الذي مَزَعَ قرطاسةَ هذا الفنِّ: إثبات العِلل.

– ثمَّ أَبو زَيد أحمد بن سهل البَلْخِي؛ صاحب التَّصانيف المشهورة، وأحد كبار النَّظار والفلاسفة، والذي تُوفي سنة (322هـ)؛ وذلك من خلال أطروحته الفلسفية عن إعجاز التشريع، المسمَّاة: (الإبَانة عن علل الدِّيانة).

– ثم أبو الحَسَن مُحمد بن يُوسف العَامري النيسَابوري؛ عالم المنطق والفلسفة اليونانية، والذي تُوفي سنة (381هـ)؛ والذي قدَّم طرحا توليديًّا لمعاقد وفصول وأطروحات المادة المحاسنية، حتى قدَّم لنا بابا كان خليقا بكل مضارعة ومشاكلة، وإن تُحفظ على فكره العَقَدي، وهو باب: القَوْل فِي الشُّبَهَاتِ الَّتِي يَتَسَلَّقُ بها المُعَانِدُونَ للإسلام، وذلك في كتابه: الإعلام بمناقب الإسلَام.

– ثم محمَّد بن علي بن حسين بن مُوسى بن بابويه القُمي، المعرُوف بالشيخ الصَّدوق وبابن بابويه، من علماء الشِّيعة في القرن الرابع الهجري، والمدفون بالرَّي سنة (381هـ)؛ وذلك في مصنَّفه: علل الشرائع.

ثم بعد هذه الثَّورة التدوينية والدَّفق التصنيفي الكبير، والذي ربما توارى منه عن حركة الرصد التراثي بعضُ المخرجات؛ شهد هذا الحقلُ الشَّرعي فتورًا لافتًا، وأيُّ فتور كان؟! فقد توالت القرونُ المتطاولة، ونضجت المذاهب الفقهية، ولاحت أسرارُ الشريعة في أصول الأحكام وفروعها، وأينعت منها الثِّمار، واستقر على عرش التدوين جهابذة النظار وأساطين المفكرين؛ ولم تنبس شفةٌ، أو يخط يراعٌ، أو يُسود كاغدٌ، فيما بان من مطويَّات المطبوع والمخطوط؛ بل كانت رسومَ نقش لا يُرى منها إلا أطراف البنان، وإطلالة حييٍّ لا يبين منه إلا ذؤابة اللثام، وجرت بعد طيِّ هذه السنين مجرى اللمَامة من القَول، بعد أن كانت على أعواد منابر العلوم خطيبًا مصقعًا مفوهًا؛ فلم يُرَ فيما وُقف عليه، من المصنَّفات التراثية في محاسن الشريعة، والتي هي مستقلةٌ بذاتها في هذا الباب، بعد المائة الرَّابعة؛ إلا:

– كتاب (مَحَاسِن الإسلام)؛ لأبي عَبد الله مُحمد بْن عَبْد الرَّحْمَن بن أَحمد البُخاري الحُنفي، الواعظ المفسر المعروف بالزاهد، توفي في جمادي الآخرة سنة (546هـ).

– وكتاب (كشف الأسرار عما خفي عن الأفكار)؛ من تأليف العلامة شهاب الدين أحمد بن عماد الأقفهسي، الشَّافعي المعروف بابن العماد، تُوفي سنة (808هـ).

ومع هذه المفارقة الغريبة المتصدِّرة لهذا المشهد؛ فهو في قرنه الأول وبواكير نُشوئه ومخايل ولادته، يُسجل نشاطا مذهلا، يتعدَّى الحجم المتوقَّع لكتابة الأحرف الأولى في العُلوم المبتكَرة، ثم لم يمكث غيرَ بعيد إلا ويتهاوى هذا الشِّهاب من سماء الوجود، وتذوي أعذاقه الشَّامخات في جوف كل عنقود، ويتفرق جمعُه، ويدبر نُسَّاكه؛ وهو يقع من علوم الشَّريعة موقع الحسنة من الوجه الطَّاهر المشراقِ، ويقوم في سُوقها مقام المنافح المسدَّد المقدَام.

وقد كنتُ أُفاتح فضيلةَ شيخَنا العالم الجليل، الدكتور أحمد بن عبد الله بن حميد -حفظه الله- في ذلك، وكنَّا نُقلب أوجه الظنِّ في استكشاف السَّبب الذي يقف وراءَ هذا الانقطاع التأليفي المتطاول؛ ولعل مما يمكن تسجيله في هذه المقالة السَّببان التالية:

أولًا: أنَّ هذا الحقلَ مِن التَّصنيف الشَّرعي، قُدِّرَ له -في هذا العُمر المبكِّر- أنَّ أكثرَ من يطرقُه هم أصحاب العلوم الكلاميَّة والمناهج الفلسفيَّة، سواءٌ أكانوا معتزلةً أم صُوفِيَّةً أم شيعةً؛ وربما صدَّر هذا الاختصاصُ الاتِّفاقي بين أصحاب هذه المناهج انطباعًا تحفظيًّا على هذا المنحى التَّأليفي، وربما ظُنَّ به الافتئاتُ على أصول أو مسلَّمات النَّظر الشرعي في هذه المتعلَّقات التكليفية؛ هذا إذا ما ضَمَمْنَا إليه ذلك النَّهج التأسيسي والبنائي الذي تعيشه المذاهب الفقهية في هذه الفترةِ، وأنَّها كانت أمام متطلباتٍ من الوجودِ والبقاء ورسم خرائط العطاء والإنتاج الفقهي، ما كان كفيلاً بالانشغال عن ذلك الطَّرح المتقدِّم والثَّوري بالنسبة إلى هذه الفترةِ الحرجة من أعمار المذاهب الفقهيَّة؛ الأمر الذي جعل من هذا الحقلَ المحاسني أولويةً متأخرةً في هذه الروزنامة الفقهيَّة، خاصَّة وأنها قد تشوكَّت بهذا الطرح الفلسفي والكلامي، والذي ربما احتاج إلى عملياتٍ متضاعفةٍ من التَّنقيح والتَّسديد والمقاربة.

ثانيًا: وربَّما يجيب على استبقاء هذا الانصراف التَّأليفي عن محاسن الشريعة، حتَّى بعد تعدِّي هذه الأطوار المؤرِّقة من تكوِّن المذاهب الفقهيَّة، ووجود المساحات الواسعة والنِّزهة والقامات المتينة والمكينة من أوجه الإبداع والإثراء والفتح العلمي؛ وهو أنَّ الطَّريقة الاجتهاديَّة والأطروحة البنائيَّة التي انطلقت منها فكرة محاسن الشريعة وانقدحت عندها شرارتها الأولى، هي التزام القولِ بالتحسين والتقبيح العقليين، وهذا الالتزام سجَّلت أمامه المدرسةُ الأشعريَّة، والتي تمثِّل جمهورَ المذاهب الفقهيَّة المتَّبعة، موقفًا علميًّا عقيمًا من التَّعاطي مع هذه النظرية التَّشريعية، وذهبت منها مذهبَ التَّعطيل والإلغاء والتَّفريط، ولم تقدِّم الاتزان المتواجب في هذا المشتبه الاستدلالي؛ يقول ابن قيم الجوزية -رحمه الله- في (مفتاح دار السعادة): “وَكَذَلِكَ الإِمَام سعد بن علي الزنجانى بَالغ فِي إِنْكَاره على أبي الْحسن الأشعرى القَوْل بِنَفْي التحسين والتقبيح، وَأَنه لم يسْبقهُ إِلَيْهِ أحد، وَكَذَلِكَ أَبُو الْقَاسِم الرَّاغِب، وَكَذَلِكَ أَبُو عبد الله الحليمي، وخلائق لَا يُحصونَ؛ وكل من تكلم فِي علل الشَّرْع ومَحَاسِنه وَمَا تضمنه من الْمصَالح ودرء الْمَفَاسِد فَلَا يُمكنهُ ذَلِك إِلَّا بتقرير الْحسن والقبح العقليين… فَلَو تَسَاوَت الْأَوْصَاف فِي نَفسهَا لانسد بَاب الْقيَاس والمناسبات وَالتَّعْلِيل بالحكم والمصالح ومراعات الْأَوْصَاف المؤثرة دون الْأَوْصَاف الَّتِي لَا تَأْثِير لَهَا”.

إنَّ هذه المفارقة البحثيَّة في تاريخ التَّدوين في محاسن الشريعة؛ لتفتح آفاقًا واعدةً من الدِّراسات والتَّحقيقات التراثية، والتي تُنقِّب في الرَّصيد المخطُوط للأمَّة، بحثًا عما يمكن التبشيرُ به من مصنَّفات تسدُّ العوزَ العِلمي الذي يشوبُ هذا الحقل الشَّرعي الرَّائد، كما أنها تفتحُ أبوابًا مشرقةً أُخرى من الدِّراسات المنهجيَّة التي تؤطِّر عمليَّات توظيف وتفعيل المعطى المحاسني والمصالحي في الأحكام الجزئيَّة، بعيدًا عن هَلَكة الإفراط أو التفريط في نظرية التحسين والتقبيح العقليين؛ إنَّ مثل هذه الدِّراساتِ ونظائرها لتخفِّف على المجتمع المقاصدي والفروعي من وطئة عنوان هذه المقالة: محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق، وتُعيد ذلك المجدَ التَّليد لينطق شامخًا من جديد.

مقالات مشابهة

  • الإنسان الوحيد الذي يعيش بعضو مزروع من حيوان
  • عبد الله النجار: على الزوجين التغافل عن المقارنات التي تفسد العلاقة بينهما
  • 7 أعمال لـ عبد الوهاب المسيري بمعرض القاهرة الدولي للكتاب
  • باحثة تكشف العلاقة الوثيقة بين الإبل والإنسان ..فيديو
  • عيش حياة البداوة في الطبيعة الخلابة ..درب أسلا درب الأنبياء
  • اختتام الدورة الثالثة من برنامج تمكين القطاع الصحي في الذكاء الاصطناعي الذي نظمته “سدايا” بمشاركة 125 ممارسًا صحيًا
  • اليوم بحقٍّ عرفتُ معنى: “الله أكبر”!
  • محاسنُ الشَّريعة العِلمُ الذي سَكَت لما نَطَق
  • عمرو الليثي: حفيدتي علّمتني معنى أعز الولد
  • ما معنى الأمر التنفيذي الذي يوقعه الرئيس الأمريكي.. نظرة على أداة ترامب لتشكيل الحكومة وتسريع عملها