لرد الاعتبار لمحاكم نميري للعدالة الناجزة: بيتر نيوت كوك وإشكالية التشريع في السودان
تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
واحدة من "احتيالات" صفوة العلمانية دون الخوض العصيب في شأن الدين والدولة رمي دعاة أوبة الدين للدولة ب"استغلال الدين" وأنهم، والعياذ بالله، من شيعة "الإسلام السياسي". وفي ذلك هروب للأمام مما تواضعنا عليه بعد حل الحزب الشيوعي في 1965 أن استغلال الدين هو موضوع للبحث لا للإدانة وأن الإسلام السياسي مما يدور محركات التحري في الذهن لا اللعن أو الاشمئزاز.
ولبلوغ الغاية في توطين الصحوة الإسلامية كسياسة مشروعة، لا حالة تسلل للدين فيما لا يصلح له، أخذنا بأفضل النظرات المستجدة في الشاغل الفكري المعاصر حول المجتمع والسياسة. فبعد إهمال غريب للدين ها نحن نرى الباحثين يستردونه في تحليل الحركة الاجتماعية كقاعدة مشروعة لنقد المجتمع في حين كان فيما مضى موضوعاً للنقد أملاه "العقل" وزينه (لنكولن 1993). وهذا التحول من نقد الدين إلى نقد المجتمع من زاوية الدين هو الذي فوج المسلمين ك"مسلمين" على المسرح السياسي (برنر 1993). ومتى استرددنا الهوية الدينية لجمهرة المسلمين نظرنا في بواعثها وجدلها. ومما وجدته صالحاً لغرضي مفهوم "الهوان الاستعماري" الذي ورد عند بازل ديفدسون، المؤرخ لأفريقيا. فمن رأيه أن الحداثة الاستعمارية أهانت حس المسلمين بالدماثة والأصول. فصاروا أذلة وطأهم الكفار بعد أن كانوا أعزة. ومن أطرف ما في المفهوم أن هذا الهوان يصيب عامة المسلمين أكثر من خاصتهم. فبوسع الأخيرين، مهما يكن، التعاطي مع الاستعمار الذين هم صنع يديه (ديفدسون 1992).
وسنرى أن أهدى السبل لفهم الدين أن ننظر إليه ككيان مستورط في السياسة والتاريخ وليس كنظام مغلق من الرموز المقدسة. ولفهم الصحوة على هذا الضوء ستحللها الورقة كظاهرة لا فكاك منها من عقابيل ما بعد الاستعمار في الدول التي تحررت منه. وهي عقابيل جرى تعريفها ب" الشغل الذي لم نفرغ منه في تفكيك الاستعمار" (سميث 1999). وعليه سيفحص البحث الصحوة الاسلامية في السودان كمنتج من منتجات صراع مختلف القوى السياسية والفكرية التي حاولت استثمار البرزخ المهني في القضائية الثنائية التي تغلب فيها القضاة المدنيون على قضاة الشرع. ونريد للبحث، بأخذنا للإسلامية كحركة مشروعة لتفكيك الاستعمار، أن يكون قراءة جذرية مبتكرة لها كاستجابة لانفراط مركزية الغرب (سكوت 1995).
سنتوقف في بحثنا عند السؤال: هل كانت العدالة الناجزة وأسلمة الدولة فرضاً تاريخياً لا مهرب منه، أم أنه كان مجرد احتمال من بين احتمالات أخرى للتاريخ؟ وسنأخذ في تحليلنا لأسلمة النميري للدولة بمفهوم "موسيقى الدين" وهو وصف ماكس فيبر لمنهج صديقه جورج سمل في تحليل الظاهرة الدينية. قال فيبر إن سمل يبزه في أن له أذناً صاغية لصوت أو موسيقى المتدينين بينما خلا هو منها. ففيبر يدرس التجارب الدينية بتعاطف إلا أنه، شخصياً، وخلافاً لسمل، لا سعة له للدين. فسمل تمتع بموسيقية للظاهرة تركزت في تفرقته بين التقوى والدين. فالتقوى عنده هي الحساسية للدين، أو السعة له. أما الدين فهو ما يتعين في هيئات ذروتها الدولة مثل أسلمتها. فالتقوى خصلة روحية تسبق تديين الدولة (سمل 1997). فالغضبة للعدالة، التي انفعل بها الناس، وغمارهم بوجه أخص، في الثمانينات، تقوى لا تجد سبيلها إلى هيئة الدولة في كل حالة. فقد تنجح السياسة في ملاقاتها في طور التقوى قبل تسييسها في مثل "أوبة الدين إلى الدولة" في عبارة شائعة للإسلامي حسن الترابي. ومتى لقيناها قبل تسييسها تكفل التشريع القانوني العادي بمقتضياتها.
وهذه ملاحظة القانوني بيتر نيوت كوك. قال إن إشكالنا في السودان من جهة التشريع أن الإصلاح القانوني، الذي كان بالوسع استدراكه بقوانين محسنة موضوعياً وإجرائياً، سرعان ما ينقلب إلى "ثورة قانونية" تهجم على هوية التشريع نفسه. ومن غرائب الصدف أن عهد نميري في أواخره شهد الثورة القانونية تخرج من رحم الإصلاح القانوني. فكان مجلس الشعب بقيادة الإخوان المسلمين يناقش إصلاحاً قانونياً لمطابقة القانون الوضعي بالشريعة. وكان ذلك التزام نميري للإخوان ليدخلوا في دين المصالحة الوطنية أفواجاً. وبينما هم في ذلك الإصلاح، الذي لم يجدوا سوى قوانين لا تتعدى أصابع اليد مخالفة لصريح الشريعة، خرج عليهم نميري بقوانين سبتمبر 1983. فجعلها ثورة قانونية بينما كان اكتفى أحذق دعاة الحاكمية لله بإصلاح القانون بتشريعات محسنة موضوعياً وإجرائياً.
ونواصل
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
مآلات السودان في مستقبل الأيام ما بين الوحدة والتقسيم
من الواضح أن السودان يسير في طريق التقسيم، حيث فشلت المشاريع السياسية، وعلى رأسها مشروع الإسلام السياسي، في تطوير نفسها لتشمل وطناً واسعاً، وبدلاً من ذلك اختارت تقزيمه ليتناسب مع حدودها الأيديولوجية. هذه المشاريع، التي قامت على أسس عنصرية وإقصائية، لم تثبت جدارتها في تحقيق السلام أو الاستقرار، حتى في الأقاليم التي تدّعي الانتماء إليها.
الوحدة: هل ما زالت الفرصة متاحة؟
التيار المدني الديمقراطي، المنحاز لوحدة السودان، يواجه تحدياً حقيقياً في بلورة رؤية واضحة حول إمكانية الاحتفاظ بوحدة البلاد. هذا يستدعي الإجابة عن أسئلة جوهرية:
ما هي استحقاقات الوحدة سياسيًا واقتصاديًا؟
ما هو شكل التحالف السياسي السوداني العابر للإثنيات والقبائل والأقاليم، والذي يمكن أن يكون رادعًا داخليًا للتقسيم؟
كيف يمكن صياغة معادلة مصالح اقتصادية وجيوسياسية تضمن دعماً إقليمياً ودولياً لوحدة السودان؟
تصميم تحالف داخلي وإقليمي لمناهضة التقسيم يتطلب فهمًا عميقًا للتقاطعات الدولية والاقتصادية في المنطقة والعالم. إذ لا يمكن الحفاظ على السودان موحدًا دون تقديم مصالح اقتصادية مغرية لحلفاء دوليين يفضلون وحدته على تقسيمه.
التقسيم: هل من مخرج بأقل الخسائر؟
إذا بات التقسيم مسألة وقت فقط، فالسؤال المطروح هو: ما هو الشكل الأكثر أمانًا لهذا التقسيم؟ هل يمكن تحقيق "تقسيم رحيم" دون إبادة جماعية أو تهجير قسري كما حدث في جنوب السودان؟ كيف يمكن تجنب حرب تمتد لعقود؟
هناك مخاوف حقيقية من أن يؤدي التقسيم إلى تدخل إقليمي واسع:
كيف يمكن لشمال ووسط السودان حماية نفسه من التبعية المصرية، سواء عبر الاستعمار المباشر أو عبر حكم عسكري موالٍ للقاهرة؟
أين يقع شرق السودان في معادلة التقسيم؟ هل سيكون مستقلاً أم تابعًا لإحدى القوى الإقليمية المجاورة؟
كيف يمكن منع الدول المنقسمة من أن تصبح ضحايا لمخططات دول الجوار؟
إعادة هيكلة الدولة: الحل المفقود
تجاوز أزمة الحكم في السودان ممكن إذا توفرت الإرادة السياسية الصادقة. هناك العديد من النماذج السياسية والإدارية التي يمكن أن تحل إشكالات الدولة المركزية، ولكن لا يمكن لأي نظام حكم أن ينجح، سواء كان ديمقراطياً أو دكتاتورياً، مركزياً أو فيدرالياً، ما لم تُحل مشاكل الهوامش جذرياً.
الهوامش السودانية تعاني من مشاكل متفاوتة:
في الشرق والشمال القصي، المشكلات ذات طابع ثقافي وتنموي.
في الغرب والنيل الأزرق، تمتزج القضايا الإثنية بالمعضلات التنموية والبيئية.
الحلول يجب أن تأتي بتوافقات محلية، حيث يجب على المجتمعات المتصارعة أن تتبنى التعايش وقبول الآخر من داخلها، قبل أن تفرض عليها من الخارج. الدور الرئيسي هنا يجب أن تلعبه النخب الاجتماعية، التي يقع على عاتقها نشر ثقافة التسامح والتعايش.
العدالة الانتقالية: مفتاح الحل
العدالة الانتقالية ليست مجرد آلية لمحاسبة المجرمين وتعويض الضحايا، بل هي وسيلة لإعادة تشكيل الوعي الاجتماعي، وربط المشكلات الاجتماعية والسياسية والتنموية ببنية الدولة. إذا تم تطبيق العدالة الانتقالية بشكل فعال، فقد تكون المفتاح لتحقيق سلام مستدام.
الفيدرالية: تجربة قديمة بحلة جديدة
على عكس ما يظن البعض، لم تكن الفيدرالية تجربة حديثة في السودان، فقد كانت موجودة في الأنظمة القديمة، مثل العصر المروي والممالك المسيحية والسلطنة الزرقاء. غير أن الدولة المركزية فرضت نفسها منذ الغزو التركي-المصري، وظلت نموذج الحكم السائد في معظم الفترات اللاحقة.
في العهد المايوي (1969)، جرى تطبيق نظام الحكم الشعبي المحلي، الذي منح صلاحيات واسعة للمحافظات، لكنه لم يكن كافياً لحل مشكلات الأقاليم. لاحقًا، أُدخل نظام الحكم الذاتي في الجنوب بعد اتفاقية أديس أبابا 1972، لكنه أدى إلى تناقضات إدارية بين الشمال والجنوب.
اليوم، إذا كانت الفيدرالية مطروحة كحل، فيجب أن تكون مبنية على أسس تحقق العدالة التنموية، وتمنع الصراعات الإثنية والجهوية، وإلا فإنها ستعيد إنتاج المشاكل ذاتها.
السودان يقف على مفترق طرق خطير. بين خيارات الوحدة والتقسيم، يجب أن يكون الهدف هو تجنب الحروب والمآسي التي شهدها في العقود الماضية. سواء عبر بناء تحالف سياسي جامع للوحدة، أو عبر السعي لتقسيم بأقل الخسائر، فإن الرهان الحقيقي يكمن في إعادة هيكلة الدولة على أسس تحقق العدالة والتنمية للجميع، بعيدًا عن المشاريع الإقصائية والهيمنة المركزية.
zuhair.osman@aol.com