من أسْره وعنه، وثّق القيادي الفلسطيني في حركة فتح مرْوان البرغوثي تجرِبته مع غرف التحقيق الإسرائيليّة وآلة التعذيب الوحشية التي طالته شهورًا عديدة، قبل أن يغيّبه السجن كما يغيب الآلاف من أبناء فلسطين.

هناك جيلٌ وأكثر غاب عنهم اسم مرْوان البرغوثي، ذلك المناضل الذي كان يومًا معقد آمال الفلسطينيين ليكون أحد قادة ركب النضال في حركة فتح بعد الشهيد ياسر عرفات – رحمه الله – ولكن شاء الله إلا أن يذوق كأس الابتلاء، حيث يذوق كأس الأسر الذي يقبع فيه الآن منذ أكثر من 22 عامًا، ويذوق معه مجددًا صنوفًا من التعذيب وثّقها بقلمه ونشرت في كتاب صدر في 2011 يحمل عنوان: "ألف يوم في زنزانة العزل الانفرادي".

تبدأ رحلة التعذيب في غرف تحقيق سجن المسكوبية الذي يسمّونه: "المسلخ" لاشتهاره بالوحشية، وكان ذلك في منتصف أبريل / نيسان 2002، وفي خضم الانتفاضة الثانية التي كان البرغوثي أحد رموزها. كان اعتقاله بمثابة صيد ثمين لقوات الاحتلال، ولذلك فقد تقاطر ضبّاط الشاباك إلى غرفة التحقيق في أجواء احتفالية، وهم يظنّون أن اعتقاله يعني نهاية الانتفاضة.

قال لابنه يوماً: "كان حُلمي دومًا ومنذ اعتقالي الأول قبل ثلاثة عقود؛ ألا أرى ابني يومًا في السجن، وأن نتمكن نحن وجيلنا من إنهاء الاحتلال، ونيل الحرية والاستقلال، وبناء الدولة التي ينعم فيها أولادنا بالحياة الحرّة الكريمة

من بين مَن دخلوا عليه محقّقٌ ذكّره بنفسه، فقد شارك في تعذيبه عام 1978، عندما كان البرغوثي طالبًا في الثانوية، وفي ذلك الوقت صعقه بالكهرباء في أعضائه الحسّاسة ثم همس في أذنه بعد أن أفاق من غيبوبة أصابته؛ بسبب الألم قائلًا: إنّ هذه الصعقة ستحرمه من إنجاب أبناء يشبهونه. ثم ها هو اليوم يدخل عليه مجدّدًا بعد أن أصبح مسؤولًا كبيرًا ليقول له: إنه لا يفترض أن يكون حيًا، وأن هذه هي نهايته، حيث سيقضي ما تبقى من عمره وراء القضبان.

تذكّر البرغوثي عندها أنّ النبوءة الأولى لهذا المحقق قد خابت، إذ لم يتمكنوا من أن يحرموه من الإنجاب، فقد أصبح أبًا للقسّام ورُبى وعرب وشرف، فما الذي يضمن ألا تخيب نبوءته الثانية، ولا سيما في خضم نضال لا يتوقف من أجل الحرية يخوضه الشعب الفلسطيني؟! تذكّر هذا فتحدّاه، ووعده أن تستمرّ الانتفاضة حتى ترتفع راية النصر في القدس عاصمة فلسطين.

يذكر البرغوثي ألوانًا من التعذيب عاشها على مدار شهور طويلة، وقد روى تفاصيلها في كتابه ابتداءً من تناوب 30 ضابطًا عليه ليلًا ونهارًا، وحرمانه من النوم، ولو للحظة واحدة لأيام متتالية، وشبحه لساعات وعلى رأسه كيس مليء بالنّتن، وتسليط الإضاءة على عينيه، وإجلاسه على كرسي مخصص للتعذيب بالوضعية التي يسمّونها "كسر الظهر".

قال مرْوان للمحقّق غزال: "إنني أفضّل الموت على أن أعيش عبدًا تحت احتلالكم، وأعتزّ بالانتفاضة العظيمة التي لن تتوقف إلا برفع راية النصر في مدينة القدس عاصمة فلسطين". وفي مواجهة هذا المناضل الثائر، عاد المحقّق لاستخدام أساليبه التقليدية في التعذيب الجسدي؛ وجولات التحقيق التي استمرّت أسابيع طويلة، مع التجويع الشديد، وفي مواجهة ذلك الذي أسماه: "الموت البطيء" لم يكن يجد سوى الدعاء أن يمنّ الله عليه بالصبر والعزيمة ليحافظ على تماسكه.

وقد خاضوا ضده حربًا نفسية قاسية، أبرزها عبر البذاءات والإهانات التي كانوا يمطرونه بها لينالوا من عرضه وعرض أهله، فكان كما يقول يشعر بغضب وغليان في الصدر والرأس، ثم يذكّر نفسه أن المحقق لا يستهدفه شخصيًا بهذه الإهانات، بل يستهدف الحالة النضالية الوطنية التي يمثّلها.

وفي إطار محاولة كسر إرادته، حدّثوه مطولًا عن التفاوت الشديد في موازين القوى، وأن هؤلاء المنتفضين إنما يحاربون دولة تغلبت على أقوى الدول العربية، وتمتلك أسلحة تمكنها من هزيمتهم مجددًا. ثم حدّثوه عن بيع أصحابه له. قالوا له: السلطة الفلسطينية فاسدة، ومسؤولوها باتوا تجارًا أثرياء وأصحاب ملايين، وقادتها لا يريدون أن يروا مروان البرغوثي، بل هم يتمنون أن يموت في السجن، وأن بعضهم تآمروا عليه ووشوا به ليتخلصوا منه، وها هو قد ضاع مستقبله إلى الأبد، وسيموت في السجن، فهل كانت لتضحياته من نتيجة؟!

أدرك أنهم يريدون إصابته بالإحباط، ودفعه إلى البحث عن خلاصه الفردي، فعاند.

قالوا له أيضًا: العرب أصفار في الكون، يعانون من تخلف عقلي، والفلسطينيون عرب فاشلون كغيرهم، لا حق لهم في هذه البلاد، ثم عرضوا له أقوال "العقلاء" من العرب الذين يتحدثون يمنة ويسرة عن أضرار الانتفاضة والمقاومة، واللاجدوى من مقاومة إسرائيل، واتهام هؤلاء لمروان بالمسؤولية عما أسموه بكارثة الانتفاضة.

لم تكن السويعات القليلة التي يعيدونه فيها إلى زنزانته القذرة المظلمة مساحة للراحة كذلك، فهناك كانوا يقذفون له الجاسوس تلو الآخر في صورة أسير يتحدث بلسان المقاومة، ويحاول أن يستدرجه ليقول شيئًا، وعند المحاكمة ظهر هؤلاء على منصة الشهود ضده، ولكنّ أحدًا منهم لم يكن قد خرج منه بما يشفي صدورهم.

كانوا قد سألوه مرارًا عن سبب تسميته لابنه باسم "القسّام"، وهل هو احتفاء بالشيخ عز الدين القسام؟ أم بالكتائب المسلحة التي أسّستها حركة حماس؟ وبعد عام من اعتقاله، أسروا ابنه "القسّام" وهو دون الثامنة عشرة من العمر، فكتب له يثبته في مواجهة محنته ويقول له إنه سمّاه "القسام تقديرًا لذلك الشيخ العربي السوري الذي قاد النضال لتحرير فلسطين فاستشهد فيها، وأن علينا أن نخلّد الثورة بتخليد رموزنا الثورية فنمنح أبناءَنا أسماءَهم.

قال لابنه أيضًا: "كان حُلمي دومًا ومنذ اعتقالي الأول قبل ثلاثة عقود؛ ألا أرى ابني يومًا في السجن، وأن نتمكن نحن وجيلنا من إنهاء الاحتلال، ونيل الحرية والاستقلال، وبناء الدولة التي ينعم فيها أولادنا بالحياة الحرّة الكريمة، وألا يعيشوا العذاب والمعاناة اللذين عشناهما على مرّ السنين.. لكن ما أخشاه قد وقع الآن، وها هو القسّام ينضم إلى والده في الاعتقال، ولم يكمل سنّ الثامنة عشرة".

في ختام التحقيق، وجهوا له 52 اتهامًا منها تأسيس "كتائب شهداء الأقصى"، وحكمت عليه المحكمة -التي رفض التعامل معها- بـ 45 عامًا في السجن.. طالبت ممثلة النيابة بإضافة 26 عامًا، فوعدت المحكمة بالنظر في ذلك بعد انتهاء المحكومية الأولى. قال البرغوثي للمحكمة: "إنكم لا تختلفون عن طياري الأباتشي الذين يغتالون شعبي ليل نهار، وأنتم قتلة تشاركون في المجازر والجرائم، وتقدّمون الغطاء القانوني والقضائي للعدوان والاحتلال الذي يتعرّض له شعبنا".

وأضاف: "لا يهمني أن أفقد حريتي في سبيل حرية شعبي العظيم، وإن نهاية الاحتلال قريبة، ولن تنفع سياسة القوة والتدمير، ولن تنال من صمود وصلابة وإرادة شعبنا".

البرغوثي اختار لأبنائه الأربعة أسماء تعبّر عما يعتزّ به في حياته كـ"القسّام" الذي استشهد من أجل القضية، والـ"عرب" التي يفتخر بها، و"ربى" فلسطين التي يتوق لتحريرها، والــ"شرف" الذي يعتبره صفة لصيقة بالأحرار أصحاب الكرامة.

يقبع هذا البطل الذي اعتبروه من آباء الانتفاضة الثانية في زنزانته منذ 22 عامًا، ولكن النضال لم ينتهِ، بل واصل نموَّه وصولًا إلى هذا الطوفان الجارف الذي داهم إسرائيل قبل شهور.. سيتواصل النضال، ويستحق آباؤه وأبناؤه الكثيرون ممن غيّبهم الموت أو الأسْر أن نذكرهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات وان البرغوثی فی السجن مر وان

إقرأ أيضاً:

الجزيرة نت تكشف تفاصيل خطة انتقال الحكومة السودانية من بورتسودان للخرطوم

الخرطوم- شرعت الحكومة السودانية في ترتيبات لنقل مقر وزارتها من بورتسودان العاصمة الإدارية المؤقتة إلى الخرطوم، وينتظر أن تكتمل العملية خلال 6 أشهر.

واتخذ مجلس السيادة بورتسودان عاصمة إدارية مؤقتة للبلاد عقب خروج رئيس المجلس وقائد الجيش عبد الفتاح البرهان من مقر القيادة العامة للجيش بوسط الخرطوم في أغسطس/آب 2023، بعدما ظل محاصرا منذ اندلاع القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في منتصف أبريل/نيسان 2023.

وباشرت الوزارات الاتحادية مهامها من بورتسودان بنحو 20% من قوتها العاملة حيث نزح غالبية العاملين إلى الولايات ولجأ آخرون إلى خارج البلاد مع عائلاتهم هربًا من الحرب وتداعيتها. واتخذت الوزارات من مبانٍ صغيرة مقرا لها، كما اكتظت المدينة بالمواطنين وارتفعت أسعار الإيجارات بمبالغ لا يستطيع العاملون توفيرها.

الداخلية تبدأ العودة

وقررت وزارة الداخلية السودانية، انتقال رئاسة قوات الشرطة للعمل رسميا من العاصمة الخرطوم بدءا من الاثنين المقبل.

وفي جدول زمني حصلت الجزيرة نت على نسخة منه، حدّدت وزارة الداخلية مواقيت لانتقال الهيئات والإدارات العامة ومكتب الوزير ومدير الشرطة إلى الخرطوم ابتداءً من الاثنين المقبل على أن تنتهي إجراءات النقل في 27 أبريل/نيسان الجاري.

إعلان

ومن أبرز الهيئات والإدارات التي تبدأ بالانتقال إلى الخرطوم، هيئة تأمين المرافق والمؤسسات العامة وقيادة قوات الاحتياطي المركزي، والمباحث الجنائية ثم الجوازات والسجل المدني ومباحث التموين وحماية المستهلك والمرور.

وقالت مصادر قريبة من مجلس السيادة للجزيرة نت، إن الأمانة العامة لمجلس الوزراء حددت خريطة زمنية -لانتقال مقار الوزارات من بورتسودان إلى الخرطوم- ستكتمل خلال 6 أشهر أو قبل نهاية العام؛ إن لم تنفذ الخطوة بطريقة دقيقة.

وكشفت المصادر الرسمية -التي طلبت عدم الإفصاح عن هويتها- أن الوزارات لن تعود إلى مقارها القديمة في وسط الخرطوم التي شهدت دمارا واسعا، بل ستنتقل إلى مقار جديدة في شرقي الخرطوم وتحديدا في المناطق الممتدة من شارع عبيد ختم شرق مطار الخرطوم إلى شارع الستين الذي يربط شمال العاصمة مع جنوبها نحو سوبا في جنوب شرق المدينة.

البرهان يحط بطائرته داخل مطار الخرطوم ويعلنها من القصر الجمهوري "الخرطوم حرة" (مواقع التواصل) الانتقال شرقا

وأوضحت أن منطقة وسط الخرطوم المركزية، التي يوجد بها مقر القصر الرئاسي ومجلس الوزراء، شهدت دمارا واسعا وتحتاج إلى إعادة تعمير يتطلب وقتا طويلا وأموالا طائلة. كما أن موقعها القريب من السوق العربي أكبر أسواق العاصمة وغالبية المصارف يشكل زحاما مما يتطلب مراجعة تخطيطها.

وحسب المصادر ذاتها، فإن منطقة شرق الخرطوم الممتدة من حي المنشية مرورا بأحياء الرياض والطائف والمعمورة وأركويت وحتى المجاهدين نحو سوبا لم تشهد مواجهات عسكرية أو تبادلا لقصف مدفعي خلال مرحلة الحرب في الخرطوم ومعظم مبانيها لم تتضرر سوى من النهب.

وأضافت المصادر الرسمية أن انتقال الوزارات سيواكبه تأهيل مطار الخرطوم حيث قدرت وزارة النقل أن يباشَر العمل فيه بعد 6 أشهر. وستبدأ خدمات الركاب بصالة الحج والعمرة في جنوب المطار التي لم تتضرر بشكل كبير، كما يجري تأهيل المدرج الرئيسي وبرج المراقبة الجوية في غضون أسابيع، بعدما تدمرت صالات المغادرة والوصول بصورة كاملة ويحتاج تشييدها فترة زمنية طويلة.

إعلان عودة الحياة

وعن توفر الخدمات، ذكرت المصادر الرسمية أن شركات عربية وسودانية ستبدأ خلال الأسابيع المقبلة في تأهيل الطرق الرئيسية في شرق الخرطوم وجنوبها. كما ستنفذ شركة الكهرباء حملة لصيانة واستبدال محولات الكهرباء التي دمرتها قوات الدعم السريع، وصيانة محطات المياه، مما سيشجع سكان الخرطوم على العودة إلى منازلهم وعودة الحياة للعاصمة.

وكان الخبير والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للبيئة والترقية الحضرية بولاية الخرطوم التجاني الأصم، قال للجزيرة نت إن وسط العاصمة دائرة مركزية مغلقة لا تصلح لأية أعمال حيوية إلا بعد إجراءات ومعالجات علمية.

وأفاد أن وسط الخرطوم حيث مركز العاصمة يحتضن مراكز متعددة ومتنوعة من المعامل الكيميائية والفيزيائية والبيولوجية والطبية والمتاحف الطبيعية، تم تدميرها. وتحررت هذه المراكز والمواد الكيميائية وأصبحت سابحة وملوثة، وتحتاج لمعالجة علمية على مراحل تبدأ بقياس معدلات التسمم البيئي.

مقالات مشابهة

  • ما الذي يحدث في العالم؟
  • الجزيرة نت تكشف تفاصيل خطة انتقال الحكومة السودانية من بورتسودان للخرطوم
  • هجوم واسع على مصطفى البرغوثي بعد انتقاده الإمارات (شاهد)
  • هكذا أثرت حرب السودان على مشروع الجزيرة الزراعي
  • السجن سنتين للسيدة التي صفعت قائد تمارة رغم تنازل الداخلية
  • دراسة تكشف: صحراء الجزيرة العربية كانت واحة خضراء قبل 8 ملايين عام
  • أحكام قضائية رادعة في مواجهة متعاونين مع الدعم السريع في الجزيرة
  • كاميرا الجزيرة داخل معسكر طيبة الذي استعاده الجيش السوداني
  • والي الجزيرة: الشهداء قدموا أرواحهم للحفاظ على وحدة البلاد
  • الرئاسة الفلسطينية تعقب على تصريحات مصطفى البرغوثي بشأن الإمارات