جوستاف لوبون(ت:1931م) فيلسوف فرنسي.. ذهب في كتابه «السنن النفسية لتطور الأمم» إلى أن الأمم منذ نشأتها تتشكل لديها «سنن نفسية»، تهيمن عليها بمر الأجيال وكر القرون، وأن نزعتها لسننها الأولى طبع يغلب على التحولات الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية.. بل إن الأمة تفيء إلى طبعها عندما ترتفع عنها المؤثرات الواقعة عليها، والمؤثرات.

. مهما كان نوعها وحجمها ومدة لبثها في الأمة لا تغيّر في السنن النفسية للاجتماع إلا ببطء شديد.

توجد طبقتان من السنن النفسية: الأولى.. عميقة في الاجتماع، فهي سجية في كل فرد، لأنها تشكلت مع البدايات الأولى لتكوّن الأمة، وظل الشعب يتوارثها عبر «جيناته النفسية»، وهذا ما يعنيه لوبون في كتابه سالف الذكر، وأسميها «السنن النفسية التحتية». والثانية.. سنن نفسية تظهر في الاجتماع البشري نتيجة تفاعله المتحرك، أسميها «السنن النفسية الفوقية»، وهذا ما أشار إليه لوبون كذلك في كتابه «سيكولوجية الجماهير». هذه السنن تتفاعل نتيجة دخول الفرد في الجماعة، حيث يتخلى مؤقتًا عن نفسيته الخاصة لصالح مزاجها العام. السنن الأولى أقوى أثرًا وأطول عمرًا، فهي تضمن بقاء المجتمع محافظًا بقدر كبير عن وقوع التحولات الجذرية فيه. وأما السنن الأخيرة فأقل أثرًا، وهي متفاوتة في أمدها، فمنها ما يمكث مدة وجيزة نسبيًا كالتي تحصل نتيجة السياسة والاقتصاد، ومنها ما يعمّر طويلًا في المجتمع كالتي تحصل من القبيلة والدين؛ لكنها كذلك لا تغيّر من السنن النفسية التحتية إلا بالقدر اليسير.

مجتمعنا العماني كغيره من المجتمعات.. تسري عليه السنن النفسية التي تهيمن على عموم الاجتماع، ومن السنن الراسخة فيه «الشَّف»، الذي سبق أن درستُه بكونه تحالفًا عُرفيًا بين الناس لتحقيق مصالح اجتماعية، والتي قد تصل إلى أحلاف سياسية وعسكرية، في مقال «الشَّفُّ العماني.. تحالفٌ خارج النسب والدين»، نشرتْه جريدة «عمان» بتاريخ: 9/ 8/ 2021م. ناقشت فيه آراء المؤرخ البريطاني جون ولكنسون في كتابه «الإمامة في عمان» حول الشَّف، وهو أول من كتب عنه، ثم تبعتُه، ولا أعلم غيرنا درسه، مع أنه مهم لفهم الاجتماع العماني وسننه النفسية التي ما فتئت تؤثر عليه حتى اليوم. ناقش المقال أسباب نشأة الشَّف، والأثر الذي تركه في المجتمع، فهو تجاوز أهم عنصرين لدى العرب: النسب والدين. ومما قلته: (إن العمق التاريخي للشَّفِّ، والهيمنة الاجتماعية التي فرضها؛ جعل أبرز نظامين شهدتهما عمان لا يصمدان أمامه؛ وهما: نظام الدم المتمثل في النسب، ونظام الدين المتمثل في الولاية والبراءة). ثم تساءلت: (بقيام الدولة الحديثة توارى الشَّف القبلي لتحل محله المؤسسات، ولكن هي الأخرى أوجدت أدواتها في التحالف الاجتماعي المعتمد على مراكز القوى، والتي تحتاج كذلك إلى تحليل اجتماعي، ويبقى السؤال: هل انتهى فعلًا الشَّف الذي عُمِّر آلاف السنين، أم أنه لا يزال كامنًا في عمق المجتمع؟)، والجواب: أن الشَّف هو أحد السنن النفسية التحتية التي شكّلت الاجتماع العماني، ونلاحظ ذلك من خلال بُعدين:

- صلابة الشَّف واستمراره.. فبرغم التغيرات الكبرى التي أحدثها الزمن في المجتمع العماني فإنه لا يزال باقيًا، ولم تقضِ عليه بُنية الدولة الحديثة، ليس لأن هيكلة الاجتماع لم تطلها الحداثة فحسب، وإنما لأن الشَّف بالأساس يشكّل سنة نفسية بعيدة الغور.

- صَهَرَ الشَّفُ عناصرَ الاجتماع العماني بداخله، بحيث إن الجماعة.. أية جماعة كانت؛ لاسيما المهاجرة إلى عمان، لكي تحافظ على وجودها داخل المجتمع، وتعيش متفاعلة مع مكوناته، لابد أن تنضوي تحت الشَّف، فتتحزب وفق معطيات التنافس الاجتماعي، أو أنها ستتلاشى.

المقال.. يتطرق إلى الشَّف بكونه سنة نفسية مؤثرة على الاجتماع العماني في انتخابات مجلسَي الشورى والبلدي. يحاول فهم ظاهرة الانتخابات على وقع تأثيره عليها، لأن الكثيرين من الناشطين في هذا المجال متحمسون لمزيد من الصلاحيات للمجلسَين.. بل يرى بعضهم أنه لابد أن يحصل تحول ديمقراطي على مستوى أوسع في إدارة الدولة، وهذا «تغيير فوقي» من دون نظر إلى السنن النفسية التحتية للمجتمع، فالمجتمع.. تشكّل عبر آلاف السنين، ولا يمكن أن تُغيِّر من سجاياه بسرعة.

مع رغبة الدولة العمانية الحديثة بالمشاركة الشعبية في إدارة الحكومة؛ راعت أمرين:

- التحولات السياسية -عالميًا- نحو الديمقراطية.. وخط الديمقراطية استمر يتطور في أوروبا نحو ألفَي عام، أي أنه استطاع أن يتغلب على المعوقات الاجتماعية للديمقراطية ببطء كبير وتضحيات جسيمة، وكانت هناك معالجة عميقة للنفس الإنسانية بتطوير النظرية الليبرالية من قِبَل دهاقنة الفلسفة التنويريين، فهي قبل أن تتحول لمشروع سياسي أحدثت تحولًا جذريًا في النفس؛ وأرست «الفردانية» في إطار القانون، بعد أن كانت «الجماعية» محكومة بالدين، لقد أعاد فلاسفة التنوير صياغة المزاج النفسي للإنسان الأوروبي لصالح الفردانية، ومع السيادة الغربية على العالم فُرِض هذا المزاج عالميًا بأدوات تحقق المصالح للقوى الغربية، وكانت منطقتنا ضمن العالم الذي هبّت عليه رياح الديمقراطية الغربية، بيد أنها لم تستطع اقتلاع السنن النفسية التحتية لمجتمعاتنا، وإنما أثّرت نوعًا ما على بُنيتها النفسية الفوقية.

- سيادة نظام الإمامة طويلًا بعمان.. وهو نظام استطاع عند نشأته أن يتعامل مع معطيات النظام الملكي الحاكم في عمان منذ ما قبل الإسلام، وأن يلتزم بمبدأي العدل والشورى الاجتماعيين؛ وهما من السنن النفسية التحتية بعمان.. بل لدى العرب عمومًا في جزيرتهم، فلذلك؛ أكد عليهما الإسلام. وقد تطور هذا النظام مع الزمن، إلا أنه خاض نزاعات سياسية وقبلية في المجتمع العماني، بسبب أن قادته في سبيل العمل بالعدل والشورى فاتتهم الموازنة مع سنن نفسية أخرى كالشَّف.

السياسة العمانية الحديثة.. أخذت لنظامها ما يناسبها من التجربتين: الشورى الإباضية والديمقراطية الغربية، متجنبة الدخول في نزاع مع مكونات الشَّف، وشبكته المعقدة في الاجتماع العماني. وهي بدمجها قيمًا من تلك التجربتين الطويلتين كانت تلاحظ الشَّف وعمق أثره على هذا الاجتماع، بل طورت بتراكم خبرتها السياسية في إدارة المجتمع آلية تعامل جيدة معه.

وفقًا للسنن النفسية للأمة العمانية.. فإن الشَّف الذي كان له دور فاعل في الحكومات السابقة لنظامَي الإمامة والسلطنة، لا يزال أحد محددات الانتخاب في مجلسَي الشورى والبلدي، فالمنتخِب.. ليس بالضرورة يراعي المصلحة العامة للمجتمع.. بل هناك محددات قائمة بالأساس في المجتمع -منها الشَّف- هي ما يراعيها المنتخِب قبل غيرها. إن المنتخِب عمومًا ليس في ذهنه الآليات الديمقراطية التي ينادي بها المثقف السياسي، وإنما همّه الأول أن ينتخِب المرشَّح الذي يحقق مصالحه ومصالح جماعته؛ والتي ليست بالضرورة قبيلته. فالشَّف.. يظل يسري في عروقنا ونحن نقدم من يمثلنا في إدارة المجتمع.

لا أقول: إن علينا الاستسلام للقَدَر الصاعد إلينا من قعر التاريخ، بل لابد أن تأخذ الحياة مجراها، ولو أن علماء الاجتماع درسوا الشَّف بكونه سنة نفسية راسخة في الاجتماع العماني؛ لربما استطاعوا أن يستفيدوا منه في فهم المجتمع، ويفيدوا منه لتحسين إدارته وتنظيمه. وحتى الآن ما زالت البحوث العلمية حول الاجتماع العماني وتطوره عبر الزمن قليلة، وغالب ما لدينا كتابات احتفائية بتاريخنا ومنجزاته، أو أصوات تغرد خارج مسار التاريخ، حالمةً بأن ينتقل المجتمع بين عشية وضحاها إلى الديمقراطية الغربية، التي عجزت عن تحقيقها دول كثيرة. وهذا لا يعني أنه لا توجد قضايا علينا أن نعالجها لإدارة حياتنا السياسية بما ينسجم مع لحظتنا الراهنة، وبما يحقق أفضل أداء ممكن لإدارة الحكومة، كأن نركّز على القيم العليا مثل: رفض الظلم، ومكافحة الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية، والتفوق العلمي والتقني، والريادة الاقتصادية، وتوفير فرص للعمل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الاجتماع العمانی فی الاجتماع فی المجتمع فی إدارة فی کتابه من السنن

إقرأ أيضاً:

وزير الخارجية العماني يستقبل صقر غباش

 استقبل معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية في سلطنة عمان الشقيقة، اليوم الاثنين، في مبنى وزارة الخارجية، معالي صقر غباش رئيس المجلس الوطني الاتحادي، الذي يقوم بزيارة رسمية إلى سلطنة عمان على رأس وفد برلماني.

وجرى خلال اللقاء بحث علاقات الشراكة الإستراتيجية التي تربط البلدين الشقيقين وتشهد نموا على الصعد كافة، والقضايا ذات الاهتمام المشترك، وآخر تطورات الأحداث في المنطقة، مع التأكيد على حرص البلدين على تعزيز الأمن والسلام والاستقرار في المنطقة والعالم.

وأكد الجانبان أن علاقات الأخوة الراسخة والمتجذرة بين دولة الإمارات العربية المتحدة، وسلطنة عمان الشقيقة، تشهد تطورا ملحوظا وتحظى بدعم لا محدود من قبل صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة “حفظه الله”، وصاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق ” حفظه الله” سلطان عمان.

وثمن معالي صقر غباش الزيارات المتبادلة بين مسؤولي البلدين وعلى مختلف المستويات، مضيفا أن هذه الزيارة تأتي في إطار حرص دولة الإمارات العربية المتحدة والمجلس الوطني الاتحادي، على الدفع بعلاقات التعاون في مختلف المجالات قدما ، لا سيما البرلمانية منها من خلال تعزيز التنسيق والتشاور واستثمار الدور الفاعل للدبلوماسية البرلمانية، التي تعتبر أحد مرتكزات السياسة الخارجية للدول، في ظل ما تشهده المنطقة والعالم من تطورات.

وقال معاليه إن العلاقات البرلمانية الإماراتية العمانية تؤكد أهمية دور المؤسسات البرلمانية خلال مشاركتها في الفعاليات الإقليمية والدولية، في خدمة القضايا الوطنية وتعزيز التعاون وتقريب وجهات النظر، ودعم مختلف الجهود تجاه مختلف القضايا ذات الاهتمام المشترك.

وأشاد معاليه بنهج سلطنة عمان وسعيها وتطلعها إلى أهمية تعزيز الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، وهو ما يتطابق مع نهج دولة الإمارات في تعزيز مبادئ التسامح والتعايش والعمل مع الدول الشقيقة والصديقة والمنظمات المعنية لتحقيق الاستقرار والتنمية والازدهار في المنطقة.

بدوره أكد معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي، عمق علاقات التعاون والشراكة القائمة بين دولة الإمارات وسلطنة عمان، متمنيا لدولة الإمارات مزيدا من التقدم والازدهار في ظل قيادة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة “حفظه الله”.

حضر اللقاء، معالي محمد بن نخيرة الظاهري سفير دولة الإمارات لدى سلطنة عُمان، ووفد المجلس الوطني الاتحادي الذي يضم سعادة كل من سالم حمد العامري، والدكتور أحمد عيد المنصوري، ومحمد حسن الظهوري، والدكتورة مريم عبيد البدواوي، ومنى راشد طحنون، وسعيد راشد العابدي، والدكتور عدنان حمد الحمادي، أعضاء المجلس، والدكتور عمر عبدالرحمن النعيمي الأمين العام للمجلس، وطارق أحمد المرزوقي الأمين العام المساعد لشؤون رئاسة المجلس.


مقالات مشابهة

  • الزعاق يفسر مقولة “شباط مقطع الرباط” وتأثير الرياح الماكرة .. فيديو
  • حوار المعرفة العماني التركي يستكشف فرص التعاون العلمي والبحثي
  • وزير الخارجية العماني يستقبل صقر غباش
  • أدوية إنقاص الوزن.. خطر جديد على الصحة النفسية والجسدية
  • مستشارة أسرية: التسامح ضرورة لصحتك النفسية .. فيديو
  • مجلس النواب يناقش إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وتشكيل حكومة موحدة
  • آخر تطورات الوضع في البحر الأحمر وتأثير اتفاق وقف إطلاق النار على الملاحة
  • الجيل يعقد اجتماعا موسعا بشأن الانتخابات البرلمانية والمحليات بالدقهلية.. صور
  • أحمد فهمي يتحدث عن لجوئه لطبيب نفسي وتأثير التعليقات السلبية!
  • المسرح العماني.. تطور وتحديات الحداثة وما بعدها