بايدن وسياساته الانتخابية الخاطئة
تاريخ النشر: 14th, May 2024 GMT
يبدو أن الرئيس بايدن متأخر في جميع الولايات المتأرجحة، ويبدو أن حملته تركز بشكل كبير على تعزيز قاعدته السياسية اليسارية من خلال سياسته الجديدة تجاه إسرائيل، وميزانية بقيمة 7 تريليونات من الدولارات، وزيادات ضريبية هائلة، وفشله في التنسيق بين الأطراف بشأن القضايا الأساسية في الولايات المتحدة مثل التضخم والهجرة والطاقة.
لقد أمضيت عقودًا من الزمن في النظر في سلوك الناخبين المتأرجحين وكيف يجذبهم المرشحون، بما في ذلك حملة إعادة انتخاب بيل كلينتون في عام 1996. وإذا أراد بايدن أن يعاد انتخابه لأربع سنوات أخرى، فعليه التوقف عن الانجرار نحو اليسار، وأن يرسم مسارا مختلفا أقرب إلى المركز، بحيث يجذب هؤلاء الناخبين الذين يفضلون الحلول الوسط بين الحزبين للقضايا الأساسية والانضباط المالي وأمريكا القوية.
يفترض الناس عادةً أن مشاركة ما يسمى بالناخبين الأساسيين في الانتخابات هي الأكثر أهمية في تحديد النتيجة، نظرًا لأن عدد الناخبين المتأرجحين أقل. وصحيح أنه في بيئة الاستقطاب اليوم، يضمن كل من بايدن وترامب حوالي 40 بالمائة من أصوات البلاد في قاعدتيهما الانتخابيّة، ولن يغير رأي هؤلاء الناس أي شيء، لكن في نسبة الـ20% المتبقية من الناخبين، يتمتع الناخبون المتأرجحون بسلطة غير ثابتة بسبب قدرتهم على التحول. إنها عملية حسابية بسيطة، خذ هيئة انتخابية مكونة من 10 ناخبين في انتخابات متعادلة 5 إلى 5، فإذا تأرجح أحد الناخبين، يصبح الهامش 6 إلى 4. ثم يجب أن تتم مشاركة ناخبيْنِ اثنينِ فقط لربط الأمر، ويلزم وجود ناخب ثالث للفوز.
قوة بساطة هذه العملية الحسابية التي قادت حملة كلينتون برسالته حول «بناء جسر إلى القرن الحادي والعشرين»، وحملة جورج دبليو بوش بشعاره «المحافظة الرحيمة»، وباراك أوباما برسالته «الأمل والتغيير» قد تم حجبها من قبل مجموعات تخدم القاعدة الأساسية مثل النقابات أو لجان العمل السياسي التي لديها مصلحة خاصة في الحفاظ على نفوذها وسلطتها. خذ على سبيل المثال ميشيجان، وهي ولاية تشهد معركة شديدة، حيث تقدم ترامب على بايدن بما يصل إلى ثلاث نقاط مئوية في الشهر الماضي. وللتغلب على هذه الفجوة، سيحتاج بايدن إلى جمع ما يقرب من 250 ألف ناخب إضافي (3% من أكثر من ثمانية ملايين ناخب مسجل) فقط لربط الأمر في ولاية حققت بالفعل رقما قياسيا من الإقبال على الانتخابات الرئاسية بنسبة تزيد عن 70% خلال سنة رئاسية. أو يمكن لبايدن تبديل 125 ألف ناخب متأرجح فقط والفوز.
وعلى الرغم من هذه العمليّة الحسابية، فإن المرشحين الخائفين، حسب تجربتي، يروجون بسهولة لفكرة أن القاعدة الديمقراطية أو القاعدة الجمهورية ستبقى في مناطقهم في نوفمبر ما لم يتم إخبارهم باستمرار بما يريدون سماعه. مكالمة واحدة من رئيس جماعة دينية، أو رئيس مجموعة حقوق مدنية، أو رئيس مجموعة عمالية وآخرين (يسمون عادة «المجموعات»)، تستطيع أن تثير الذعر في الحملات الانتخابيّة. ومن الأمثلة الجيدة على ذلك مقال نشرته صحيفة نيويورك تايمز هذا الشتاء حول قساوسة سود يحذرون البيت الأبيض في عهد بايدن من أن سياسته في الحرب على غزة يمكن أن تعرض إعادة انتخابه للخطر. وربما لو كان بايدن يخوض الانتخابات ضد خصم وسطي محبوب، لكان من الممكن تبرير القلق. لكن خلال انتخابات الخريف ضد ترامب، سيشهد الشهر الأخير من هذه الحملة موجة من الجهود الداعية إلى التصويت، وأشك في أن القاعدة الديمقراطية ستقف مكتوفة الأيدي أمام فكرة ترامب التي ستجوب شارع بنسيلفانيا. الحقيقة هي أن الناخبين المتأرجحين في الولايات المتأرجحة الذين يشعرون بالاستياء من الهجرة والتضخم وما يعدونه سياسات مناخية متطرفة وضعفا في الشؤون الخارجية من المرجح أن يعيدوا ترامب إلى منصبه إذا لم يعمل بايدن للتأثير عليهم.
ولنتأمل هنا بعض التاريخ الانتخابي الديمقراطي. حصل جو بايدن على 81 بالمائة من الأصوات في الانتخابات التمهيدية الرئاسية للحزب الديمقراطي في ميشيجان في فبراير. لقد حصل على نسب مماثلة تقريبًا في الانتخابات التمهيدية في كولورادو وتكساس وماساتشوستس، وهي ليست أقل بكثير من الرؤساء الآخرين الذين كانوا مصنفين ضعفاء في الأداء الوظيفي. ومع ذلك، أشار المعلقون والناشطون الليبراليون، لعدة أشهر، إلى التصويت الاحتجاجي في ميشيجان كدليل على أن بايدن محكوم عليه بالفشل في نوفمبر بسبب موقفه تجاه إسرائيل. لكن ميشيجان لم تكن تكرارًا للانتخابات التمهيدية في نيو هامبشاير عام 1968 التي أنهت فعليًا محاولة إعادة انتخاب ليندون جونسون، فقد حصل يوجين مكارثي على 42 في المائة وكان ذلك دليلا كبيرًا.
أعتقد أن معظم الأصوات «غير الملتزم بها» التي خسرها بايدن في ميشيجان، والبالغ عددها 101.000، ستعود إلى موطنها التقليدي في النهاية لأنه ليس لديها مكان آخر تذهب إليه، وسيصبح التهديد الذي يشكله ترامب أكثر وضوحًا ورعبًا في الأشهر الستة المقبلة. لكن بغض النظر، هناك فرصة أكبر بكثير لبايدن إذا نظر في الاتجاه الآخر، فقد خسر ترامب ما يقرب من 300 ألف صوت أمام نيكي هيلي في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري في ميشيجان. هؤلاء الأشخاص يقعون في الوسط المعتدل، ويمكن إقناع الكثير منهم بالتصويت لصالح بايدن، إذا قام بصياغة رسالة مناسبة لإقناعهم بذلك. وتذكّر أن إقناع هؤلاء الجمهوريين البالغ عددهم 300 ألف بتجاوز الميول الحزبية يملك قوة تعادل إخراج 600 ألف ديمقراطي. وتنطبق نفس الحسابات على ولايات أخرى تشهد منافسة، مثل ولاية بنسلفانيا، حيث يبلغ عدد سكانها 158 ألف نسمة صوتت لصالح هيلي بدلا من ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري على الرغم من انسحابها قبل سبعة أسابيع من السباق الانتخابي.
للأسف، لا يتواصل بايدن مع الناخبين المعتدلين بأفكار سياسية أو رسالة قوية، وكذلك لا يُظهر دليلا واضحًا على جلب أعداد كبيرة من الناخبين المتأرجحين في الولايات التي تمثل ساحة المعركة في هذه المرحلة. يبحث هؤلاء الناخبون المتأرجحون عن سياسات الضبط المالي دون زيادة الضرائب، وسياسات المناخ التي ستظل تضمن للناس خيار استعمال السيارات بالوقود، وسياسات الهجرة التي تتعاطف مع أولئك الموجودين في الولايات المتحدة مع غلق الحدود. إنّ الميزانية المتوازنة تظل واحدة من أقوى التدابير التي يريدها الناخبون المتأرجحون، فقد أدت جهود بيل كلينتون لتحقيق التوازن في الميزانية إلى إطلاق الثورة التي أسفرت عن فوزه بثماني نقاط حتى مع مرشحي الطرف الثالث في عام 1996، ورفعت معدلات قبوله الوظيفي إلى أكثر من 70 في المائة. وبدلا من تركيز بايدن على المركز عند التحدث إلى 32 مليون شخص استمعوا إلى خطابه عن حالة الاتحاد، ضاعف من استراتيجيته الأساسية من خلال عدة ضربات مثل هجومه على الشركات الغنية والكبيرة، والزيادة الكبيرة في الضرائب، وقروض الطلاب والهبات، والمزيد من التوسع في البرامج الاجتماعية على الرغم من العجز الذي يزيد عن 1.1 تريليون دولار، وهذه النتائج قد تبددت بسرعة.
لقد أخطأت حملة بايدن في حساباتها بشكل أساسي بشأن إسرائيل. إن ناخبي هيلي هم ناخبو دفاع أقوياء سيدعمون حليفة إسرائيل دون تحفظ، وأعتقد أنهم يريدون رؤية رئيس يمارس أقصى قدر من الضغط على حماس لإطلاق سراح الرهائن. ومن خلال استرضاء قاعدة الناخبين الذين ليس لديهم خيار آخر، يدفع بايدن أصوات هيلي لصالح ترامب، وبالتالي فإن سياسته الأولى بشأن إسرائيل كانت سياسة جيدة، إذ يؤيد 84% من المستقلين إسرائيل أكثر من حماس في الصراع. ويعتقد 63% أن وقف إطلاق النار يجب أن يتم فقط بعد إطلاق سراح الرهائن. كلما زاد ميل بايدن نحو اليسار من خلال تخفيف دعمه لإسرائيل، بدا أضعف وتراجعت تقييماته في السياسة الخارجية. وبدلا من الانسحاب بشكل حاسم من إسرائيل، يجب على بايدن أن يجد خطة تمكن إسرائيل من الدخول إلى رفح، وتتضمن مساعدات كافية للمدنيين في رفح حتى يتمكن الرئيس الأمريكي من دعمها.
في هذه المرحلة، يحتاج بايدن أيضًا إلى إلقاء خطاب جاد حول قضايا الجريمة والهجرة وما يحدث في مدننا الداخلية بسبب ذلك. عليه أن يجمع بين سياسات الشرطة العادلة ومعاملة المستفيدين من الإجراء المؤجل للقادمين في مرحلة الطفولة، وسياسات أكثر صرامة فيما يتعلق بالجريمة والهجرة. يريد 78% من المستقلين أن تصعّب إدارة بايدن الدخول إلى الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، لكن 63% يريدون في النهاية تشريعات تضبط الحدود، مع منح المستفيدين من الإجراء المؤجل للقادمين في مرحلة الطفولة طريقًا للحصول على الجنسية. فيما يتعلق بالجريمة، وعلى الرغم من ارتفاع العديد من مقاييس الجرائم العنيفة إلى مستويات ما قبل كوفيد العام الماضي، كان الناخبون أكثر قلقًا من أي وقت مضى. يريد 83% من الناخبين تطبيق قوانين السرقة من المتاجر بصرامة، ويؤيد 69% تدخل وزارة العدل ضد المدعين العامين في المدينة الذين يتراجعون عن محاكمة مرتكبي الجرائم العنيفة. ويجب أن يكون الرئيس بايدن أكثر استجابة لهذه المخاوف.
كما أن سياسات الطاقة التي ينتهجها بايدن، وخاصة سعيه نحو المزيد من السيارات الكهربائية، لا تحظى بشعبية كبيرة. يعارض تسعة وخمسون بالمائة من الأمريكيين التفويض الذي يقضي بأن تكون نصف السيارات المباعة في الولايات المتحدة بحلول عام 2030 كهربائية. وفي ميشيجان، حدد ترامب استراتيجية ماكرة من خلال إخبار عمال السيارات أن السيارات الكهربائية ستدمر وظائفهم. وعلى عكس قضايا السياسة الخارجية، فإن التهديدات المتعلقة بفقدان وظائف صناعة السيارات يمكن أن تؤثر بشكل مباشر على مئات الآلاف من الناخبين في ميشيجان.
إن انتخابات عام 2024 تشبه إعادة مباراة بين فريقين، لكن لا ينبغي لبايدن أن يفترض أنه سيحصل على النتيجة نفسها التي حصل عليها في عام 2020 في ميشيجان وبنسلفانيا وأريزونا وجورجيا وغيرها من الولايات التي تمثل ساحة معركة من خلال اتباع قواعد اللعبة نفسها. هذه المرة، يُنظر إلى بايدن على أنه أكبر سنا، والتقييم الوظيفي الذي حصل عليه ضعيف. ورغم أنه لن يصبح أصغر سنا، إلا أنه لا يزال بإمكانه التحرك أكثر نحو الوسط، وجمع الناخبين المتأرجحين الذين يريدون بشدة رفض ترامب، وتعزيز صورته كزعيم من خلال القضاء على حماس، وحشد قاعدته الانتخابية في النهاية. لكن هذا يعني أولا التصدي للقاعدة بدلا من استرضائها، وتذكر أنه عندما يتعلق الأمر بحسابات الانتخابات، فإن الأصوات المتأرجحة هي الحاسمة.
مارك بِنْ كان خبيرا في استطلاعات الرأي ومستشارًا للرئيس بيل كلينتون وهيلاري كلينتون من عام 1995 إلى عام 2008. وهو رئيس مؤسسة (هاريس بُلْ) والرئيس التنفيذي لشركة (ستيج ويل إنكوربيشَن).
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الانتخابات التمهیدیة الولایات المتحدة على الرغم من من الناخبین فی الولایات فی میشیجان من خلال
إقرأ أيضاً:
قلق أوروبى من فك الارتباط مع الولايات المتحدة فى عهد ترامب
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
هل يمكن أن يدخل الناتو فى «بيات شتوى» طويل؟
خيار وحيد أمام القارة الأوروبية: إما الاستيقاظ في وضع مشحون للغاية أو الاضطراب المزمن
دول الاتحاد الأوروبى أثبتت عدم نضجها بعد أن أخرج الأوروبيون رءوسهم من الرمال الدافئة وصرخوا: «أصبحنا وحدنا فى العراء»!
الخوف يتصاعد فى شمال أوروبا.. ورئيس وزراء السويد: مستعدون لكل السيناريوهات.. ولكن على قارتنا أن تفعل المزيد من أجل سيادتها
دونالد ترامب ورئيسة المفوضية الأوروبية - صورة أرشيفيه
كل الدلائل فيما يبدو تشير إلى أن الأوروبيين أثبتوا عدم استعدادهم في مواجهة انتخاب ترامب،. وأثبتت دول الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة عدم نضجها المأساوي، وعدم قدرتها على الاتفاق على القضايا الكبرى والتحضير لإعادة انتخاب ترامب، على الرغم من أنه كان يمكن التنبؤ به، مما يعيد خلط أوراق العالم.
وفى تحليل متكامل، ترى الكاتبة الفرنسية ماريون فان رينتيرجيم أن زمنًا طويلًا مر منذ أن كان الفيل في الغرفة وكانت النعام تنظر في الاتجاه الآخر أو تدفن رأسها فى الرمال.. حتى جاء 6 نوفمبر 2024، حيث تم الإعلان عن فوز دونالد ترامب فى الانتخابات الأمريكية، فأخرج الأوروبيون فجأة رءوسهم التي ظلت مغمورة في الرمال الدافئة وصرخوا: «أوه، لكننا جميعًا وحدنا فى العراء»! ومن حولهم الصحراء.. لقد فقد الغرب هيمنته واحتكاراته لصالح دول الجنوب الصاعدة. وتمثل دول البريكس 45% من سكان العالم، كما أن حصتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي أعلى من حصة أوروبا في دول مجموعة السبع. لم يتنبه الأوروبيون إلى أن الهندسة المعمارية للعالم الذي بُني بعد عام 1945 آخذة في التلاشي، والقانون الدولي آخذ في الاختفاء. إن العدوان الكارثي على العراق عام 2003 دون ضوء أخضر من الأمم المتحدة أفقد الولايات المتحدة مصداقيتها على المسرح العالمي، وصدم الأمريكيين الذين تراجعوا تدريجيًا منذ ذلك الحين إلى الانعزالية.
كل الرؤساء سواء
سواء كان اسمه باراك أوباما، أو دونالد ترامب فى ولايته الأولى، أو حتى جو بايدن، فإن الفيل الذي لم يرغب الأوروبيون في رؤيته ظل يحاول إخفاء نفسه منذ فترة طويلة من دون أن يحذرهم.. وتخفى جو بايدن مهندس مدرسة الحرب الباردة فى شكلها الجديد، وراء دعم أوكرانيا، حيث لم تعد أوروبا أولوية بالنسبة للولايات المتحدة. كما كان أوباما قد أعلن بالفعل عن «التوجه نحو آسيا».
ومع إعادة انتخاب دونالد ترامب، المرشد العالمي للقوميين الشعبويين الذي يعلن أن «الاتحاد الأوروبي عدو»، والذي ينوي التفاوض لإنهاء الحرب فى أوكرانيا والذي يهدد بإضعاف التحالف الأطلسي، فإن الولايات المتحدة ستواجه تحديات جديدة.. لقد تضاعف حجم الفيل ثلاث مرات ولم يعد لدى النعامة ما يكفي من الرمال لإخفاء عينيها.
منذ فترة، رأى الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون كل شيء على حقيقته، عندما وصف حلف شمال الأطلسي بـ«الميت دماغيًا». وكانت خطاباته في جامعة السوربون في عامي 2017 و2024 أو في براتيسلافا في عام 2023، من بين خطابات أخرى، تؤكد على ضرورة قيام الاتحاد الأوروبي بتأسيس سيادته الاستراتيجية. من المؤكد أن الاتحاد قطع خطوات عملاقة في مواجهة أزمة كوفيد أو من خلال دعمه لأوكرانيا. لكن الأمور ليست على ما يرام فى أوروبا. إن فرنسا، التي أضعفتها ميزانيتها الهشة وبرلمانها الذي لا يمكن السيطرة عليه، لا تملك القدرة على النطق بكلماتها، ولا يملك رئيسها السلطة اللازمة لإسماع صوته. وتضع ألمانيا، القوة الاقتصادية الرائدة، مصالحها التجارية قبل الجغرافيا السياسية، ويتراجع مستشارها أولاف شولتز، الذي أصيب بالشلل بسبب ائتلافه الحكومي الذي انهار رسميًا الآن، إلى الوراء. ويظل اعتماد الدفاع الأوروبي على الولايات المتحدة كاملًا، على الرغم من التحذيرات.
ماكرون وشولتز رعيما أكبر اقتصادين فى أوروبالقد أثبتت دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين، المقسمة بطبيعتها والتي أفسدتها الموجة القومية الشعبوية، عدم نضجها المأساوي، وعجزها عن الاتفاق على القضايا الكبرى والاستعداد لإعادة انتخاب ترامب، مهما كان متوقعًا. في الوقت الذي يجد فيه الاتحاد الأوروبي نفسه في مواجهة تحديات لم يسبق لها مثيل في تاريخه، فهو محاط من الشرق بالحرب في أوكرانيا، ومن الجنوب بالحرب في الشرق الأوسط.
وفي بودابست، حيث اجتمع أيضًا زعماء الجماعة السياسية الأوروبية، وهي المنظمة التي من المفترض أن تعزز الروابط بين الاتحاد الأوروبي وأولئك الذين يشاركونه قيمه، كرر إيمانويل ماكرون: «نحن، الأوروبيين، لا يتعين علينا أن نفوض أمننا إلى الأبد للأمريكيين». وحتى دونالد تاسك، أول أنصار الأطلسي، يعترف بأن «عصر التعاقد من الباطن الجيوسياسي قد انتهى».
شمال أوروبا
وإذا كانت أصوات عديدة بدأت تعلو داخل القارة العجوز لتحذير دول الإتحاد الأوروبى مما هو قادم بعد نجاح الشعبوى ترامب، فإن الخوف يتصاعد بشكل واضح فى شمال أوروبا، ويحاول الزعماء أن يظهروا بمظهر جيد في مواجهة فوز دونالد ترامب.. واحدًا تلو الآخر، هنأوا الرئيس الجمهوري الجديد، لكن وراء هذه الرسائل المهذبة يكمن القلق من رؤية الولايات المتحدة تنسحب من حلف شمال الأطلسي، مما يعرض أمن المنطقة للخطر، وفقًا لرؤيتهم.
على سبيل المثال، فإن ليتوانيا تخصص حاليًا 3.5% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع وستواصل زيادة استثماراتها، وأصبح يسود اعتقاد بأن أوروبا يتعين عليها تنمية عضلاتها الخاصة ولا يمكن أن تظل معتمدة على الولايات المتحدة فقط من أجل أمنها.
نفس القصة في ريجا، حيث تؤكد رئيسة وزراء لاتفيا، إيفيكا سيلينا، أن أولوية بلادها هي الاستمرار في تعزيز العلاقات عبر الأطلسي، كما ترغب في التأكيد على أن لاتفيا تخصص أكثر من 3% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع، كما دعت رئيسة الحكومة الإستونية كريستين ميشال، الرئيس المقبل للولايات المتحدة إلى تعزيز العلاقة عبر الأطلسي.
وفي فنلندا، يعتقد رئيس الحكومة المحافظ بيتري أوربو أيضًا أن أوروبا يجب أن تلعب دورًا أكثر أهمية، ولا يجب أن تعتمد كثيرًا على دعم الولايات المتحدة، وحذر على قناة Yle التليفزيونية من أخطار الوضع فى أوروبا، قائلًا: «لقد علمنا التاريخ أنه إذا اتفق الكبار على الآخرين، فإن هذا ليس في مصلحة دولة صغيرة أو مستقلة، ونأمل أن يؤخذ ذلك في الاعتبار بوضوح عند التوصل إلى اتفاق سلام فى أوكرانيا في نهاية المطاف».
قيمة وجودية
وفي مؤتمر صحفي في ستوكهولم، تحدث رئيس الوزراء السويدي أولف كريسترسون، الذي أكد أن بلاده مستعدة لكل السيناريوهات، بما فى ذلك مخاطر فك الارتباط مع الولايات المتحدة، وشدد على أنه لا يوجد موضوع آخر له مثل هذه القيمة الوجودية بالنسبة لهذا الجزء من العالم، معتقدًا أن أوروبا يجب أن تفعل المزيد من أجل سيادتها. كما أعرب عن قلقه بشأن مخاطر الحمائية المتزايدة من جانب واشنطن، والتي يمكن أن تكون مدمرة للاقتصاد السويدي، الذي يعتمد بشكل كبير على الصادرات.
ومن جانبهم، شجب زعماء البيئة في الدول الاسكندنافية بالإجماع فوز دونالد ترامب، وأعربوا عن قلقهم بشأن عواقبه على المناخ. وبصوت مخالف، أشاد زعيم اليمين المتطرف السويدي، جيمي أكيسون، بفوز ترامب واعتبره رسالة قوية إلى الغرب.
ويبقى السؤال الذى يردده الأوروبيون: هل فات الأوان؟.. ليس أمام الأوروبيين إلا خيار واحد: فإما أن يستيقظوا في وضع مشحون، أو يتفككوا. إذا لم يشكلوا ركيزة أوروبية لحلف شمال الأطلسي، وإذا لم يصبحوا ذوي سيادة في شئون الدفاع، بما في ذلك النووية، فإن الدول الكبرى في القارة الأوروبية سوف تظل مجرد ألعاب صغيرة في أيدي الأقوياء العالم.. فهل يمكن أن يدخل الناتو فى «بيات شتوى» طويل؟.