متابعة بتجــرد: يعالج مسلسل Ripley، أحدث انتاجات “نتفليكس”، رواية طالما اقتبستها السينما والمسرح والمسلسلات، وطالما عدت من روائع الأدب البوليسي، منذ أن صدرت للمرة الأولى في 1955، بتوقيع الأديبة الشهيرة باتريشيا هايسميث، التي يمكن مقارنتها بملكة الأدب البوليسي أجاثا كريستي، وإن كانت أعمال هايسميث أكثر قتامة وتشاؤماً واستغراقاً في الجانب المظلم للطبيعة البشرية.
ومن بين أعمال هايسميث تظل رواية “السيد ريبلي الموهوب” هي الأكثر شهرة وتأثيراً، ويعتبرها البعض من أفضل الأعمال الأدبية على الإطلاق، فيما يعتبرها البعض من أفضل الأعمال البوليسية، كما يعتبر البعض شخصية ريبلي من أكثر الشخصيات الروائية تأثيراً على الأدب والثقافة بشكل عام.
وجدير بالذكر أن الرواية هي الأولى من عدة روايات تتبع مصير ريبلي، ذلك المحتال، القاتل، الذي ترصد هذه الروايات حياته وتدخل إلى أعماق عقله، وتحلل دوافعه بشكل يدفع القارئ إلى “التعاطف” معه، أو على الأقل التأرجح بين الانجذاب والنفور تجاهه.
بين ديلون وديمون وأحمد فهمي!
من المعروف أن أول معالجة سينمائية للرواية ظهرت في 1960 من خلال فيلم purple Noon من إخراج رونيه كليمون وبطولة آلان ديلون في شخصية ريبلي.
وقدم الفيلم شخصية ريبلي كضحية لظروفه ومعاملة الأثرياء المتغطرسين له، أما أشهر فيلم اقتبس عنها فهو The Talented Mr. Ripley، 1999، من إخراج أنطوني مينجلا وبطولة مات ديمون في شخصية ريبلي، بجانب جود لو وجونيث بالترو، وهو فيلم بديع كلاسيكي الطابع يتخذ مسافة واحدة من كل الشخصيات، وجدير بالذكر أن “نتفليكس” سارعت بشراء حقوق عرضه ليتزامن مع عرض المسلسل لهواة المقارنة.
الرواية، والحكاية، إذن، قد شبعت معالجات سينمائية وتليفزيونية مباشرة وأخرى غير مباشرة تأثرت بالرواية وبطلها بدرجة أو أخرى، في مختلف البلاد واللغات، ويرد إلى الذاكرة مسلسل “سفاح الجيزة” المصري من إخراج هادي الباجوري وبطولة أحمد فهمي الذي يحمل بعض بصمات الرواية، وهو ما يجعل أول سؤال يخطر ببال المرء حول مسلسل “نتفليكس” هو ما الجديد أو المختلف الذي تسعى هذه المعالجة إلى تقديمه؟ رؤية جديدة.. فنية
بداية يختلف Ripley “نتفليكس” عن معظم المعالجات الأخرى، وعن معظم أعمال “نتفليكس” البوليسية المشابهة، في توجهه الذي يتخذ من الرواية تكأة لتقديم عمل فني “رفيع” أكثر من اهتمامه بالحكاية أو الشخصيات.
مخرج ومؤلف العمل هو ستيفان زيليان، كاتب السيناريو الشهير الذي قدم أعمالاً منها Awakenings، Schindler’s List، وGangs of New York وغيرها، والذي حصل على الأوسكار والبافتا من بين جوائز كبرى أخرى، وزيليان هو أيضا منتج ومخرج أخرج عدداً من الأفلام متراوحة النجاح منها لعل أشهرها وأفضلها فيلمه الأول Searching For Bobby Fischer الذي يدور في عالم لعبة الشطرنج، وذلك في 1993، قبل The Queen’s Gambit بعقود.
يدخل زيليان، إذن، إلى عالم Ripley بعقل كاتب السيناريو المفكر، وعين السينمائي الفنان، آملاً في تحويل الرواية – شعبية الطابع- إلى عمل يمزج بين التشويق والترفيه والفن الراقي، إلى حد كبير يحقق المسلسل هذه المعادلة الصعبة، لكنه يفقد هذه الشعرة أحياناً، ربما بسبب طبيعة المسلسلات نفسها، فحتى مع كونه يقتصر على 8 حلقات مدة كل منها 50 دقيقة، إلا أن ذلك يتطلب كثيراً من الإسهاب والتفاصيل التي تبعد بالعمل عن الإحكام الفني والايقاع المشدود الذي تتميز به السينما.
اختيارات جيدة..وأخرى سيئة
اختار زيليان أن يكون العمل بالأبيض والأسود، وهو اختيار رائع ليس فقط لإنه يتماشى مع المرحلة التاريخية للعمل، ولكن ليعطي “جواً” فنياً ملائماً لطبيعة الدراما السوداوية، خاصة مع استخدامه المميز للوحات الفنان الإيطالي كارافاجيو، الذي يربط المسلسل بين لوحاته وحياته وشخصية “ريبلي” بطريقة ذكية ومؤثرة، كذلك يجيد المسلسل استخدام التحف المعمارية والتماثيل الإيطالية التي تعود إلى عصر النهضة، وأيضاً الشاطئ والبحر والأحياء الشعبية وحتى بلاط الشوارع وأبواب البيوت الإيطالية القديمة.
ولسبب ما اختار زيليان فترة بداية الستينيات لتدور فيها الأحداث، وهو زمن يختلف بالقطع مع زمن الرواية المكتوبة في الخمسينيات وتدور أحداثها في الثلاثينيات أو الأربعينيات. وهذا الاختيار للستينيات قد يكون سببه استخدام الأغاني والموسيقى الايطالية المميزة لهذه الفترة بجانب الملابس وبعض مظاهر الحياة وقتها، ولكن من ناحية ثانية يتسبب في خطأ درامي فادح.
يتمثل هذا الخطأ في انتحال الشخصية الرئيسية (ريبلي) لشخصية الشاب الأميركي الذي يقوم بقتله، ثم العودة إلى شخصيته الحقيقة عندما يحاصر، ومع ذلك لا يكتشفه أحد، سوى في المشهد الأخير من العمل الذي يرى فيه مفتش الشرطة صورة الشاب الأميركي لأول مرة، وهو شئ ربما يمكن حدوثه في عشرينيات أو ثلاثنيات القرن الماضي، عندما لم تكن الصور الفوتوغرافية منتشرة ولم تكن وثائق الهوية والتحقق منها بدقة الخمسينيات والثلاثينيات، ومن ثم تبدو الأحداث غير قابلة للتصديق بمعيار الستينيات.
شخصية تناسب عصرنا
شخصية “ريبلي” هي محور وعماد هذا العمل، وقد أداها في الماضي ممثلون بارعون عرفوا بقدرتهم على لعب أدوار الشرير الجذاب أو غريب الأطوار الذي يجمع بين الفتنة والخطر، وفي المسلسل يلعب أندرو سكوت دور “ريبلي” ببراعة شديدة وبمظهر يختلف كثيراً عن آلان ديلون ومات ديمون وغيرهما من الذين أدوا الشخصية.
سكوت هنا أميل للشخص العادي، ضعيف البنية وقليل الحيلة الهش، ومع ذلك لديه قدرة هائلة على الصمود والتحايل للنجاة من كل الأخطار التي تتهدده، وهي كثيرة، ومن المدهش رؤيته وهو محاصر بالتهديدات والخوف من رجال الشرطة وهاتف التليفون وجرس الباب وحتى الجيران والمارة في الشوارع، ومع ذلك يغالب، ويتغلب على، هذه التهديدات والخوف مثل حيوان صغير وسط وحوش الغابة.
هذا الأداء، مصحوبا بطبيعة التشويق الهيتشكوكي الذي يعتمد عليه زيليان، وهو متابعة التفاصيل الدقيقة لمحاولات “ريبلي” للنجاة، يجعل المشاهد يتعاطف، رغما عنه، مع المجرم، متمنيا ألا يتم الامساك به، وفي الوقت نفسه يشعر بالضيق من كونه ينجو بجرائمه، متمنياً أن ينال عقابه.كما ذكرت برعت باتريشيا هايسميث في رسم شخصيات المجرمين الذين يندمج معهم القارئ، وهذه الشخصيات التي كانت جديدة في الخمسينيات أصبحت المفضلة لدى صناع السينما والدراما هذه الأيام، حيث يحب جمهور اليوم تلك الشخصيات المعقدة المظلمة، والتي يبدو أنها تعبر عن عصرنا كأفضل ما يكون.بين الفتنة والخوف
مسلسل Ripley جدير بالمشاهدة ليس فقط لقصته الغريبة المحيرة، ولكن أيضاً للمتعة البصرية والسمعية التي يحققها، ومن أغرب الأشياء في العمل هو قدرة زيليان على استخدام الطبيعة الخلابة والتحف الفنية البديعة للمدن الإيطالية، بطريقة تجمع بين الافتتان بها، والخوف منها أيضاً، وكأن هذه الطبيعة نفسها تحولت إلى “ريبلي”، أو كأن “ريبلي” تحول إلى ما هو عليه بسبب هذه الجمال المخيف.
ولعل السؤال الأخير الذي يخرج به المرء من هذا العمل هو سر ذلك الشعور بالقلق، ليس من الحكاية التي شبعت معالجات، ولكن من الجاذبية الغامضة التي تثيرها الحكاية وصاحبها.
main 2024-05-13 Bitajarodالمصدر: بتجرد
إقرأ أيضاً:
قيادي في الجبهة الديمقراطية: نتنياهو يُطيل العدوان لأهداف شخصية والمقاومة لن تُركع
يمانيون../
أكد القيادي في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، أركان بدر، أن العدو الصهيوني، بدعم أمريكي مباشر، يستخدم سياسة التجويع كأداة حرب ممنهجة لإبادة الشعب الفلسطيني، موضحاً أن من لا يُقتل بالقصف يُستهدف بالحصار والحرمان من الغذاء والدواء، في ظل تواطؤ وصمت دولي مشين.
وفي مداخلة له على قناة المسيرة، أوضح بدر أن ما يجري في غزة والضفة الغربية ليس سوى تنفيذ صارخ لمخطط أمريكي–صهيوني يهدف إلى تهجير الفلسطينيين قسرًا، وتحويل غزة إلى منطقة سياحية ضمن مشروع ترامب القديم، المتماهي مع مشروع نتنياهو التوسعي لما يسمى “إسرائيل الكبرى”.
وأشار إلى أن هذا المشروع الاستعماري يتضمن تقطيع الضفة الغربية وضمّها تدريجياً، في إطار خطة متكاملة لفرض “دولة إسرائيل” من النيل إلى الفرات، لكنه أكد أن صمود الشعب الفلسطيني والمقاومة البطولية على الأرض أفشل وستفشل هذه المخططات.
وانتقد القيادي الفلسطيني المواقف المتخاذلة للأمم المتحدة، وعلى رأسها “الأونروا”، التي قال إنها باتت غائبة عن واجبها الإنساني، متسائلاً عن دورها في ظل المجازر اليومية التي يتعرض لها الأطفال والنساء في غزة.
كما استنكر بشدة الموقف الرسمي العربي، قائلاً إن غالبية الأنظمة اكتفت بالصمت أو التصريحات الجوفاء، في حين برز الدور اليمني الداعم على المستويين الشعبي والعسكري، إلى جانب الدعم الإيراني والمواقف المشرّفة من جنوب إفريقيا وعدد من الدول الحرة.
وفي ما يتعلق بالمفاوضات غير المباشرة مع كيان الاحتلال، أوضح بدر أن المشكلة الحقيقية تكمن في تعنت بنيامين نتنياهو، الذي يسعى لإطالة أمد العدوان من أجل تحقيق مكاسب سياسية وشخصية، عبر تصدير أزماته الداخلية وتضييق الخناق على المقاومة والشعب الفلسطيني.
وشدد على أن نتنياهو يحاول فرض شروطه عبر سياسة الأرض المحروقة، من خلال ارتكاب المجازر واستهداف المدنيين في الخيام ومنع إدخال المساعدات، إلا أن المقاومة ثابتة في موقفها، والشعب الفلسطيني مصمم على الصمود وعدم الاستسلام مهما بلغت التضحيات.
واعتبر بدر أن نتنياهو لا يتردد في التضحية بكل شيء داخل الكيان، سواء بالجيش أو بالمؤسسات، بل عمد إلى إقصاء المعارضين وجلب الموالين لضمان بقائه في السلطة، في مؤشر واضح على فشل المشروع الصهيوني من الداخل.
وأوضح أن القوات الصهيونية منهارة ومنهكة ميدانياً، ولم تعد قادرة على التقدم، مشدداً على أن الخيار الوحيد المتاح أمامها هو وقف العدوان والانسحاب من الأرض الفلسطينية.
وفي ختام حديثه، شدد بدر على أن المقاومة لن تضع سلاحها، وأن الحقوق الفلسطينية لن تُنتزع إلا بالمقاومة، مؤكداً أن مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي تقوده واشنطن وتل أبيب بات في مواجهة حقيقية مع مشروع المقاومة الذي يتوسع ويترسخ.
وأشار إلى أن الخطر الصهيوني يتعدى فلسطين، ليهدد لبنان وسوريا وكل شعوب المنطقة، داعياً إلى وعي جماهيري وسياسي بخطورة المشروع الاستعماري، مؤكداً أن الشرق الأوسط الجديد لن يكون أمريكياً أو إسرائيلياً، بل سيكون شرقاً مقاوماً يصنعه محور الصمود والكرامة.