د. قاسم بن محمد الصالحي

كُنت أتحدَّث مع صديق يكبُرني سنًّا، عن جيله وعن جيلي، وعمَّا خبره وسمعه من آبائه واجداده، عن فلسطين، عن صراع أهل الأرض مع الصهاينة الغاصبين، عمَّا حدث ويحدث في مدينة القدس، عمَّا دار ويدور في أروقة السياسة الإقليمية والدولية حول قضية الأمة الكبرى، عن مسارح الإبادة، التي هي ناتج طبيعي لعملية "طوفان الاقصى"، عن تشرذُم الأمة وتفرقها إلى شيع وجماعات، عن صخب وتوتر الأجيال، عن الصراع الإعلامي الذي أصبح أكثر اتساعا في مساحته، وأكثر عُمقا في تأثيره في جيل الشباب نتيجة طفرة المتغيرات العالمية الكبيرة: المعرفية والمعلوماتية والثقافية.

وفجأة، وسط جدل كثيف، قال مُحدِّثي بحسم: "إنها أدوات وأفكار عصرية حديثة بالنسبة لذلك العصر"، طَغَى عليها في الماضي مفهوم "أنسنة الصراعات"؛ فاستخدمه الصهاينة في نسج قصص إنسانية مُضللة لجذب القلوب، وتحقيق أهدافه الدعائية بشكل مباشر.

كان مُحدِّثي يستعير من ذاكرته ما عايشه في زمنه، وكنتُ أستعير الوقائع مما يحدث في غزة، ثم تنهدتُ، وكتبتُ مقالي تلخيصًا لذاك الحديث الذي دار بيننا.. لصراع بين الحق والباطل، بين الصدق والكذب، طال أمده، أصحاب حق على عتبة انتظار أن يُنصفهم المجتمع الدولي، لم يكونوا يطمحون منه أكثر من الاعتراف بحقوقهم في الحياة على أرضهم المغتصبة، عانوا من ظلم مستعمر صهيوني متغطرس، وصلت صفاقته إلى "فرم" ميثاق الامم المتحدة، من على ممرها العالمي، في غطرسة وتعالٍ، مُعلنا تماديه في الظلم والجبروت، مُتحديا الضميرَ الإنساني، رافعا الصوت بأنه يقف أمام أي خطوة يمكن أن تمنح الفلسطينيين فرصة في الحياة، أو استعادة حق سلبه منهم، قائلا: "لا عيش آمن، ولا سلام للفلسطينيين"، لكنه إن كان يعتقد أنه سيتوقى مكر التاريخ فعليه أنْ يعي أنَّ قوم عاد بدأوا كونهم أصحاب عماد، وفرعون كانوا ذوي أوتاد، وانتهوا جميعا، بينما وصل صوت الحق إلى أبعد مدى.

يُمكننا إذن أن نتخطى الظلم، أو حتى أن نقضي عليه، فهذا هو الرصيد في حصَّالة الصِّراع بين الحق والباطل.. هناك حقيقة أخرى، هي أن الصراع أمر واقع، وأن صوت الظلم وإن تمكن من الوصول في صراع العدل، في السرديات الدائر كالدوامة، بحمولاتها المخزونة في عقل الظالم، تنعكس -بأوضح ما تكون- على فتحنا لملف سيطرة الصهاينة على وسائل الاعلام في الغرب، لا كموضوع للبحث، بل كمناسبة لدعم الواقفين على العتبة.

ولكون الصهيونية سيطرت على معظم وسائل الإعلام التقليدي في الغرب، فقد استخدمتها لنسج الكثير من القصص عن معاناة اليهود بهدف جذب التعاطف معهم، مرة بمعاداة السامية وتارة تحت مسمى مكافحة الارهاب، وتمَّ التركيز في تلك القصص على الأطفال والنساء، وتمَّ تحويل الكثير من هذه القصص إلى أفلام ومسلسلات تليفزيونية، فكسبوا تعاطفا مع معاناة اليهود، وتم الحصول على مئات المليارات من التبرعات لإسرائيل من الجمهور في أوروبا وأمريكا، وفي الوقت نفسه كان تأييد إسرائيل والدفاع عنها هو المدخل لقلوب الناخبين السياسيين، فالذي يريد النجاح في الانتخابات يعبر عن تعاطفه مع اليهود ويدافع عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.

قيل يومًا "إنَّ الإعلام العالمي يخدم دولة الاحتلال الإسرائيلي؛ حيث يحول قتلاها إلى قصص، بينما يقدم الضحايا الفلسطينيين مجرد أرقام"، دراسة تلك المقولة يُمكن أن تفتح لنا مجالات جديدة للكفاح، وبناء صفحة إعلامية عالمية جديدة، أدواتها جيل جديد من تكنولوجيا المعلومات، بإمكانها أن تستثمر قصص شهداء المقاومة الفلسطينية وأبطالها في زيادة وعي جيل التواصل الاجتماعي، تفضح سردية ماكينة الإعلام الصهيوني، التي تنسج الأكاذيب والخرافات كي تفجر بها دموع النساء في أوروبا.

الآن.. نعم هذه اللحظة، تُسهم وسائل التواصل الاجتماعي في إبراز الحق بوضوح، دون مونتاج، وعلى المباشر؛ حيث يتسارع تأثيرها في صراع الصِّدق مع ماكينة الإعلام الصهيوني الكاذبة، بشكل لافت، وأثرها بارز في تضييق الفجوة في الكشف عن متطلبات يُمكن استثمارها لطرح القضية الفلسطينية وعدالتها، والكشف عن زيف سردية الكيان الصهيوني، بشكل أكثر فاعلية، فقد أوضحت مؤشرات جريمة الإبادة التي يرتكبها الكيان الصهيوني في غزة أثرها الإيجابي في إبراز عدالة القضية ومظلومية شعبها؛ إذ اقتنعت المجتمعات الأوروبية، والمجتمع الأمريكي، وأحرار العالم بسموم ما تبثه الماكينة الإعلامية الصهيونية، وآمنت بمظلومية الشعب الفلسطيني، وازداد الوعي لدى الأجيال الجديدة بأهمية نضال أهل الأرض.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الحرب الناعمة ومؤامرة تدمير الأجيال.. كيف تحصّن الدورات الصيفية الأجيال؟

 

في ظل التحديات الكبرى التي تواجه الأمة، تبرز الحرب الناعمة كأخطر أدوات الاستهداف التي تستخدمها قوى الاستكبار العالمي لإضعاف الشعوب والسيطرة عليها دون الحاجة إلى احتلال عسكري مباشر. هذه الحرب لا تعتمد على الدبابات والصواريخ، بل تسخّر الإعلام، التعليم، والثقافة لزعزعة الهوية الإيمانية، وإفساد القيم، وتشويه المفاهيم. وفي هذا السياق، جاءت كلمة السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي خلال افتتاح الدورات الصيفية لتضع النقاط على الحروف، كاشفةً أبعاد هذه المؤامرة، وموضحةً الدور المحوري للدورات الصيفية في تحصين الأجيال، وخلق وعي راسخ يحبط مخططات الأعداء.

الحرب الناعمة ليست مجرد دعاية مضللة أو حملات إعلامية عابرة، بل هي استراتيجية شاملة تستهدف الإنسان من خلال الثقافة، التعليم، الإعلام، التكنولوجيا، والفنون. وكما أكد السيد القائد، فإن هذه الحرب أخطر من القتل الجسدي؛ لأنها تقتل الإنسان من الداخل، وتسلبه هويته، وتحوله إلى تابعٍ ذليلٍ لجلاديه. الأعداء يدركون أن السيطرة على العقول تصنع أجيالًا مهزومة دون الحاجة إلى معارك عسكرية، وهو ما تسعى إليه أمريكا وإسرائيل عبر عملائهما في المنطقة.

أحد أخطر مظاهر الحرب الناعمة هو استهداف قطاع التعليم، حيث تسعى الأنظمة الموالية للهيمنة الغربية إلى تغيير المناهج الدراسية لتتناسب مع مشاريع الاحتلال الثقافي، فتُحذف منها القضايا الجوهرية كفلسطين، ويتم تشويه تاريخ الأمة، واستبدال المفاهيم الدينية والوطنية بأفكار تدعو إلى التبعية والانسلاخ عن الهوية. وكما أشار السيد القائد، فإن هذه السياسات ليست مجرد خيارات تعليمية، بل هي إملاءات مباشرة من الأمريكي والإسرائيلي تهدف إلى خلق أجيال ضعيفة، فاقدة للهوية، لا تعي المخاطر التي تحيط بها.

في مواجهة هذا الطوفان الجارف، تشكل الدورات الصيفية حصنًا منيعًا لحماية الأجيال من السقوط في فخاخ الحرب الناعمة. فهي ليست مجرد أنشطة ترفيهية، بل هي مشروع متكامل لتحصين الشباب بالوعي والبصيرة، وغرس القيم الإيمانية والأخلاقية، وتزويدهم بالمعرفة الحقيقية التي تمكنهم من مواجهة حملات التضليل والتشويه. وكما شدد السيد القائد، فإن هذه الدورات تمثل ركيزة أساسية في معركة الوعي، إذ تعزز روح العزة الإيمانية، وتغرس الإحساس بالمسؤولية، وتؤهل الأجيال لتكون جزءًا من مشروع النهوض والنهضة.

لا يمكن فصل الحرب الناعمة عن الدور الذي يلعبه الإعلام المضلل، حيث تعمل شبكات إعلامية كبرى، ممولة من قبل قوى الاستكبار، على الترويج للانحراف الأخلاقي، وتمييع القيم، وتصوير الاحتلال والعمالة على أنها تحضر وتمدن. وكما نبه السيد القائد، فإن هذه القنوات لا تدخر جهدًا في تشويه صورة المقاومة، وتقديمها على أنها إرهاب، بينما تسوّق الخضوع للعدو على أنه طريق السلام والاستقرار.

في ظل هذه المعركة الشرسة، يؤكد السيد القائد أن الحل يكمن في التمسك بالهوية الإيمانية، وتعزيز الوعي، والتحصن بالثقافة الإسلامية الأصيلة. فالمعركة اليوم ليست فقط مواجهة عسكرية، بل هي صراع بين مشروعين: مشروع الهيمنة والاستعباد، ومشروع الحرية والاستقلال. والتاريخ يشهد أن الأمم التي تدافع عن هويتها وقيمها تنتصر، مهما كانت قوة العدو.

الحرب الناعمة التي يقودها الأعداء ليست مجرد تهديد مؤقت، بل هي أخطر مشروع استعماري يستهدف تدمير الأجيال القادمة من خلال هجوم منهجي على هويتها، وعيها، وقيمها. وكما حذر السيد القائد، فإن هذه المواجهة تتطلب أكثر من مجرد رد فعل؛ بل هي معركة مفتوحة تتطلب وعيًا استثنائيًا، وتحصينًا مستمرًا ضد محاولات العدو لتشويه الفكر وزرع بذور الفتنة. وللوقوف أمام هذا المدّ، يجب تعزيز الدورات الصيفية كأداة محورية لبناء جيل متسلح بالعلم والإيمان، وتعزيز التعليم الواعي الذي يعيد صياغة المفاهيم، وتفعيل الإعلام المقاوم الذي يكشف الحقائق ويواجه كل محاولات التضليل. فبدون وعي راسخ، لا يمكن تحقيق النصر، وبدون صمود عظيم، لا يمكن استعادة الحرية، ولن يكون للأمة مستقبلٌ مشرق إلا إذا تمسكنا بجيل قادر على فهم عمق المعركة، ووعي حجم التحديات التي نواجهها.

مقالات مشابهة

  • المغاربة يقضون قرابة 6 ساعات يومياً أمام وسائل الإعلام
  • أسبوع الآلام بين المسيحية وغزة
  • الرسوم الجمركية ومخاوف الركود تلقي بظلالها على أرباح وسائل الإعلام الأمريكية
  • هيئة الإعلام والاتصالات تدعم الانتخابات المقبلة
  • الحرب الناعمة ومؤامرة تدمير الأجيال.. كيف تحصّن الدورات الصيفية الأجيال؟
  • مفتي عمان يهاجم مواقف بعض الدول العربية المتماهية مع إجرام الكيان الصهيوني
  • يملك طائرة وشركات.. وسائل الإعلام البريطانية تنشر قصة وفاة غامضة لملياردير بريطاني بالمغرب
  • صناعة الابتكار في بيئات العمل متعددة الأجيال
  • غدًا .. مسرح الإعلام يشهد الكشف عن تفاصيل الدورة 29 لمعرض مسقط الدولي للكتاب
  • الكيان الصهيوني يغرق برسائل احتجاج تطالب بوقف الحرب على غزة