بقلم: حسن ابوزينب
الشمس زهرتنا التي انسكبت على جسد الجنوب
وأنت زهرتنا التي انسكبت على أرواحنا
فأدفع شراعك صوبنا
كي لا تضيع
وأفرد جناحك في قوافلنا
إذا اشتد الصقيع
وأحذر بكاء الراكعين الساجدين
فالله في فرح الجموع
محمد مفتاح الفيتوري
بقلم : حسن أبوزينب عمر
ما أكثر كؤوس الذكريات التي تجرعتها عبر محطات الزمن ولكن تظل وحدها اتي جمعتني بالشيخ الجليل على بيتاي أكثرها اشتهاء وأكثرها بقاءا متقدة وشما في طوايا الذاكرة .
(2)
كان رجلا اذا رأيته تقع في حبائله من الوهلة الأولى فلا تود مفارقته ..لم أشاهده وطوال فترة اقامته التي استطالت شهرا في النادي يوما مكدر الوجه فقد كانت تكسو وجهه دائما ابتسامة محببة بتأشيرة إقامة دائمة ..ولكن ليس هذا فقط السبب الذي جعل أفئدة من الناس تأوي اليه ..كان الطيبة وحب الناس والكرم الحاتمي الفياض يمشي على قدمين وقد انعكس ذلك على نادينا الذي تحول في غمضة عين وانتباهيها الى خلية نحل لا تعرف السكون منذ أن وطأت قدميه أرض النادي فأصبح قبلة للقاصي والداني حتى انتهى الأمر به وقد دبت في شرايينه الروح بزيارة وزير الري الذي لم نكن نعرفه من قبل ليلقي على الحضور الذي اكتظ بهم المكان ندوة عن أزمة مياه بورتسودان .. تعرفنا لأول مرة على وجوه من البشر هاجروا من ولايات الشرق منذ عشرات السنين واستوطنوا العاصمة .. بعضهم ينحدرون من أصول حضرمية وشامية وكان ولائهم الأول والأخير لمدن الشرق بورتسودان وكسلا وطوكر وربما أروما .
(3)
هؤلاء يشكلون رصيدا لكل قضايا الشرق اذا حرصت الناس على الحفاظ على خطوط التواصل معهم حية ونشطة .قناعات توصلت عليها بحكم التجارب التي خضناها معهم وبالذات على صعيد المساهمات المادية لتسيير دولاب العمل . وجبات الغداء التي كانت تقدم لزوار النادي وقتها كانت تتكون من الأرز تتوهط فوقه قطع اللحم (الطازة) من الخراف التي أتي بها الشيخ الجليل من همشكوريب والتي تتلوها فناجين القهوة تضاف الى كرم الشيخ في عطاياه المادية للنادي وطلاب جامعة الخرطوم بمبالغ مقدرة دسها ذات مرة في جيبي وحينما سألته عنها قال لي انها مساهمة بسيطة لطلاب جامعة الخرطوم وحينما اعترضت على استلامها وحجتي وقتها أن الجامعة كانت في أوج تأريخها وانها كانت توفر الأكل والايواء وحتى المنح المادية طلب منى الشيخ استلامها وتسليمها حتى لا نوصف بالبخل ..الطلاب الذين كان يستهدفهم الشيخ وقتها كانوا الراحل عثمان شيبة والأخوان عبد الله شنقراي والأمين طاهر وآخرين لم تسعفني الذاكرة الخربة بذكر أسمائهم أمد الله في أعمارهم .
(4)
كان اذا جلست على مائدة طعام لا يتركك وشأنك بل كان يحلق فوق رأسك راسما ابتسامته العريضة على وجهه وأصابعه تحمل قطعة لحم يضعها أمامك ويقول (تون تما .. تون نفركاتو) وترجمتها كل هذه فهي أحلى.. صاحب هذا الكرم والطيبة والتواضع هو المريض الذي اعتذر للنميري بالسفر للعلاج في القاهرة على حساب الحكومة ورفض أيضا الاستجابة للرئيس السادات بجاهزية المستشفي العسكري لاستقباله في الجيزة ..كان رجلا قوي الايمان زاهدا في الدنيا أن جسده ينبغي أن لا يبتعد عن تربة همشكوريب .. ذكرني الانتعاش الذي أصاب نادينا بعد أقامته فيه بقصة عاتكة بنت خالد بن منقذ بن ربيعة الملقبة بأم معبد الخزاعية وهي المرأة التي استضافت الرسول عليه الصلاة والسلام أثناء هجرته من مكة الى يثرب ومعه صديقه ابوبكر الصديق ومولاه عامر بن فهيرة وكيف ان ثدي الشاة العجفاء العاجزة عن الحركة درت من الحليب ما أشبع الجميع بعد أن حلبها بيده الشريفة ..أقول أن شيئا أشبه بمعزة (أم معبد) حدث لنادينا الذي كان يصارع سكرات الموت .
(5)
كان الرجل مصلحا اجتماعيا فقد لعب دورا محوريا في انتشال المنطقة وانسانها من براثن الجريمة والضياع ليس بتشييد الخلاوي فحسب بل قام بتوظيف سواعد كانت تحترف القتل والسلب والقتل لأعمار أرض بلقع لا تطرح سوى أشجار الشوك والدوم والزقوم (طعام الكفار) في الآخرة وحولها الى بساتين خضراء غطت ولبت كل احتياجات الاستهلاك المحلية وفاضت للمساهمة في بناء الخلاوي والمساجد حتى خارج همشكوريب الى مناطق الجزيرة فقد رأيت بأم عيني رجلا من أحد قرى الجزيرة العامرة بالتربة الخصبة والمياه الغزيرة يطلب من الشيخ مساعدة فطلب على الفور من مساعديه تزويده بلوري مشحون ذرة تبرعا منه .
(6)
أجريت معه حوارا صحفيا أعتبره الأصدق والاجمل في مشواري الصحفي لأن المتحدث لم يكن من الذين رزئت بهم والذين كان هدفهم الوحيد استخدامك بوقا لتسليط أضواء على انجازات لهم هي بكل المقاييس وهمية بل كان شخصا آخر ..فحينما طلبت منه الحديث عن تجربته التي لفتت أنظار الكثيرين وعلى رأسهم الرئيس نميري طلب باستدعاء طاهر وهو أحد مريديه ..كان طاهر رجلا ملتحيا لحية خفيفة أنيقة ويرتدي ملابس بيضاء ونظيفة وكان ينظر الى أسفل أثناء الكلام ربما خجلا من جرائم كان قد ارتكبها هو مع أصحابه الذين أجبروا حكومة كسلا بمنع سفر العربات ليلا خوفا من قطاع طرق همشكوريب..وكان يسرد بصوت هامس ماضيه الذي كان يغلفه الضلال راجيا من الله أن يغفر له ..خاض الشيخ على بيتاي تجربة فريدة في بيئة جافة طاردة سامة أشبه بمثلث برمودا الداخل فيه مفقود والخارج منه مولود مسلحا بايمان راسخ وإرادة صلبة فقد لفت نظر حكومة نميرى بنيران القرآن ليلا ثم العمل الدؤوب في الحقول نهارا.. كنت أشاهد اللوحات الزجاجية على أسوار وزارة الاعلام وهي تحمل صور نساء المنطقة يتلون كتاب الله وهن يرتدين الفوط بألوان قوز قزح (أحمر أزرق أصفر أخضر زي شفق المغارب ) كما يقول عبد العزيز المبارك .. وكانت المنطقة قبلها مستنقعا للجريمة فأذا اشتكى أحد الأعراب القادمين من مدن الساحل الباحثين عن الماء والكلأ وطلب اعانته في البحث عن بعير فقده يأتيه الجواب أنه اذا دخل البعير أرض الجميلاب وهي أرض شيخنا على بيتاي فعليه أن لا يهدر وقته بحثا عنه بل يضرب عليه مأتما وعويلا .
(7)
أحداث المحطة الثانية في السيرة العطرة للراحل المقيم الشيخ على بيتاي كانت في حي المرسلات أحد أحياء شمال شرق العاصمة السعودية الرياض ..في منزل زميلنا على وجدت والده الشيخ محمود رحمه الله وقد جاء لتوه في زيارة الى السعودية .كان الرجل يحدثني خلال (الونسة) عن قصة امتلكت كل جوارحه وحينما يسرد تفاصيلها كنت أحس بأنفاسه الحرى وكأنها تضطرب في صدره ..ملخصها أن أحد منسوبي قبيلتهم (الأشراف) كان يقيم معه أسرته في منطقة نائية في خاصرة خور بركة المتاخمة للحدود مع أريتريا ..استقبل ذات مرة ضيفا ينتمي الى قبيلة الجميلاب وبعد السلام وتقديم ما يلزم من كرم الضيافة دار حوار قصير لا يخرج عادة عن أخبار المرعى والمطر التي تعتبر الروح في هذه المناطق القاحلة وبعدها سأل المضيف ضيفه أن كان يبحث عن حيوان مفقود فأجاب الضيف انه لا يبحث عن حيوان وحينما سأله المضيف عن ماذا يبحث اذن كان رد الضيف صادما صاعقا وعدوانيا بأنه يريد أحد السيدتين اللتين تقيمان معه وكانتا زوجته وابنته ..هنا تأكد انه أمام رجل تأبط شرا فأسرع بإخراج سيفه من غمده دفاعا عن العرض فكان الضيف أسرع منه أذا عاجلة بضربة من سيفه أطارت رقبته ..وهنا تقدمت أحد النساء وشقت رأسه بفأس كانت تحمله وأردته قتيلا في الحال .
(8)
خلال ثوان كانت هناك جثتان ملطختان بالدم وخبر انتشر انتشار النار في الهشيم وعم القرى والحضر كما يقول شاعر(حبيببة عمري) الحسين الحسن ..الخبر أثار موجة عارمة وحرائق من الغضب لدي قبائل الأشراف التي دعت لاجتماع في كسلا هدفه تصفية الحسابات مع قبيلة الجميلاب ..وفي الاجتماع الحاشد قرر المؤتمرون الغاضبون عل اختيار شخصيتين لتمثيل القبيلة في اجتماع همشكوريب أحداها شخصية سليطة اللسان سامة الكلمات والثانية شخصية هادئة متصالحة ناعمة الحديث وكان الاتفاق أن يكون ممثل الجميلاب أول من يبدأ الكلام فاذا كانت اللغة متصالحة والنبرة ناعمة يعلق أخونا الطيب المسكين واذا كان استفزازيا من زارعي الفتن يرد عليه راس الهوس ..ولكن شيئا من هذا لم يحدث فقد حشد الشيخ على بيتاي مريديه قبل اللقاء على حافة الطريق الى همشكوريب وهم يلهجون بالشكر لله أنه بعث لهم هؤلاء الأشراف وكان صدى كلمات الترحاب و(ايتانينا) يتردد في الآفاق وذلك ضمن خطوة ذكية لامتصاص حالة الغضب ..,كانت المفاجأة التي لم تكن في الحسبان انه لم يبدأ الحديث أحدا بخلاف الشيخ على بيتاي الذي رحب بهم ولخص الحل في كلمتين قائلا ( ان قبيلته جاهزة لدفع دية قتيل الأشراف وجاهزة لمسامحة قاتل الأشراف اذ يرفضون قبول أية تعويض أو دية لقتيلهم . فارتفعت في السماء عبارات الله أكبر ..الله أكبر والقوم يهللون ويكبرون ويتبادلون الأحضان .
(9)
هكذا وبنفس سامية وعقل كبير ومعالجة واعية تمكن الشيخ على بيتاى من حقن الدماء .. النتيجة ان هذا الرجل البسيط لم يضع أسسا لكيفية إيجاد مخارج لصراع قبلي معقد كان كفيلا بارتفاع منسوب الدماء الى الركب فحسب بل تطاول بتجربته الإنسانية وقدم دروسا مجانية لعلماء ومتخصصي إدارة الأزمات في العالم crisis managment الذين يهدرون الجهد والمال ويلفون ويدورون دوي جدوى حول أنفسهم كالأسطوانة المشروخة ..لكن يبقى السؤال هنا هل تصلح التجربة عظة وعبرة لنافخي الكير في السودان وهل يأتي سلام أو تتم مصالحات في غياب الإرادة واعلاء التضحيات وتقديم التنازلات بالعزيمة المطلوبة وفوق هذا وذاك تقوى الله في المشردين والتائهين ممن نهبت ممتلكاتهم واغتصبت أمامهم بناتهم وزوجاتهم حين المثول أمام المنتقم الجبار؟
oabuzinap@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
ما هي قاعدة “حتسور” الجوية الصهيونية التي استهدفها حزب الله للمرة الثانية
يمانيون – متابعات
في إطار معركة “أولي البأس” نفذ مجاهدو حزب الله اليوم الأحد عملية نوعية استهدفت قاعدة حتسور الجوية الصهيونية في عمق الكيان جنوب يافا المحتلة التي يطلق عليها العدو تسمية “تل أبيب”.
وتعد هذه هي العملية الثانية التي يتم استهداف القاعدة بصواريخ مجنحة لأول مرة يتم الكشف عنها.
فما هي قاعدة حتسور الجوية؟
قاعدة حتسور الجوية، هي مطار عسكري وقاعدة عسكرية جوية رئيسية تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي، تقع في بئر السبع، بالقرب من “كيبوتس حتسريم” جنوب “تل أبيب” وشرقي مدينة أسدود، وتبعد عن الحدود اللبنانيّة الفلسطينيّة 150 كلم.
تم إنشاء القاعدة في أوائل الستينيات، وأعلن تشغيلها في 3 أكتوبر 1966، كما يوجد في “حتسيريم” متحف القوات الجوية الإسرائيلية، وبها أكاديمية الطيران التابعة لسلاح الجو الإسرائيلي منذ ابريل 1966.
تم بناء القاعدة بأمر من قائد القوات الجوية الإسرائيلية، عيزر وايزمان، وصممها المهندس المعماري يتسحاق مور، وكان القائد الأول للقاعدة يوسف الون.
وتضم قاعدة “حتسور” جناحاً جوياً رئيساً، يحوي على تشكيل استطلاع مؤهل وأسراب من الطائرات الحربية، وتعد مقراً لأسراب 101 أو ما يعرف باسم “المقاتل الأول” الذي يمثل نخبة سلاح الطيران للعدو، وسُمي “105” العقرب لأنه يحمل العقرب كشعار.
واستهدفت المقاومة الإسلامية في لبنان -حزب الله- القاعدة للمرة الأولى في21 – 11 – 2024م بصلية من الصواريخ النوعية المجنحة.
وكشف حزب الله عن إدخال سلاح الصواريخ المجنحة للحرب المتواصلة مع جيش العدو الصهيوني خلال هذه العملية.