نصف قرن على رحيل علال الفاسي العلّامة المجدد
تاريخ النشر: 13th, May 2024 GMT
في 13 مايو/أيار من سنة 1974، لبّى الزعيم (كما كان يُعرف) علال الفاسي نداء ربّه في بوخارست، وهو في لقاء مع رئيسها تشاوشيسكو.
كان علال الفاسي يُحدّثه عن القضية الفلسطينية، ويلتمس منه فتح تمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية في بوخارست، وقبِلَ الرئيس على الفور، وما لبث علال الفاسي أن شَعَر بألمٍ، والتمس من الرئيس الخروج من المكتب على أن يكمل نائبه امحمد بوستة عرضًا عن الوَحدة الترابية للمغرب.
كان قبلها بأيام في ندوة بمشهد، في إيران عن الإمام الطوسي، وارتأى منظمو الندوة أن يعهدوا له برئاستها، وكان حقًا أمرًا عجَبًا أن يرأس سُنّي ندوة يُنظمها علماء شيعة عن واحد من كبار محدّثي الشيعة.
لعل في سبحي الطويل فيما كتب الرجل، جملة قوية الأثر وردت في كتابه: "دفاع عن الشريعة"، قال عن نفسه: إن أسرته جاءت من الأندلس، ولما أفلت راية الإسلام بها، رحلت إلى المغرب، ولو قُدر أن تأفل راية الإسلام من المغرب لارتحل عنه
رأى منظمو الندوة أن علال الفاسي يتجاوز أي تقسيم من شأنه أن يفُل من الإسلام، وحدّث علال الفاسي حديث العارف بعلم الكلام، وأسهبَ في أيادي الطوسي، وليد طوس، شأنه شأن الغزالي، حُجة الإسلام لدى السُّنة، وختم بالقول: ألّا شيء يجيز الفُرقة بين السُّنة والشيعة، وأن الخلاف سياسي ينصرف إلى الماضي، وأن على السُّنة والشيعة أن يوحِّدوا الصفوف ليرتقوا بالحضارة الإسلامية، واعتبر في صورة مجازية، نقلًا عن جابر بن حيان، أن الله خلق للأبواب مفتاحين، وضع أحدهما في يد العرب، والثاني في يد الفرس، فإذا افترق العرب والفرس، ضاع المِفتاحان وبقيت الأبواب مغلقة. ثم زار قُم وعبّر عن انبهاره بعلمائها ومعرفتهم الواسعة.. كان ذلك قبل خمس سنوات من الثورة الإيرانية، وكأنه رأى ما لم يكن يُرى.
وطار إلى "أبوظبي"، ومنها إلى الكويت، وبها خصّ جريدة "القبس" بحوار، ولم يكن يدور بخَلد مُجري الحوار، أنها ستكون الرسالة الأخيرة لعلال الفاسي، ولم يُنشر الحوار إلا بعد وفاة صاحبه، وكان مما قاله علال الفاسي في هذا الحوار، الذي يدلل على راهنيته، وقدرته الاستشرافية، أولًا في تقييمه لدول الخليج، من أنها حققت تقدمًا ضخمًا، وهي في أمسّ الحاجة إلى اتحاد أو وحدة "لا يهم شكلها بقدر ما يهم مضمونها"، وأنها مستهدفة، وعرضة لأطماع من الشرق والغرب، وذيّل من أن الوحدة كما هي مهمة في الخليج، مهمة لدول المغرب العربي، وأن وحدة الشعوب (المغربية بالمعنى العام) قائمة وراسخة، ولا تستطيع الأنظمة الحاكمة أن تقف في طريقها، وإنما يمكنها أن تعرقل الإسراع في تحقيقها.
وأضاف من غير مواربة أن "رؤساء دول المغرب العربي لا يفكرون أو يعملون جديًا لتحقيق الوحدة، برغم أن شعوبهم تتوق لتحقيقها". أما عن تداعيات حرب أكتوبر/تشرين الأول (1973)، وكانَ أثرها غضًا، فقال: "لو أن العرب احتفظوا بمشاعر التضامن والوحدة التي شملتهم جميعًا إبان حرب أكتوبر/تشرين الأول، لتحققت الوحدة العربية بأقرب مما نتخيل"، أما عن القضية الفلسطينية، فلم يكن يرى، إلا حلًا يتيح للفلسطينيين حقهم في أرضهم، من دون تنازل.
ثم طار إلى بوخارست وكان آخر ما نطق به هو القضيّة الفلسطينية.
مدى علال الفاسي، يتجاوز الحزب الذي أنشأه بمعية وطنيين، أي حزب الاستقلال، وحتى حدود بلاده المغرب، إذ مداه أوسع، ويشهد له بذلك عرب المشرق، وخاصة الفلسطينيين من يعدونه واحدًا منهم، ومن أوائل من نافح عن القضية الفلسطينية في مؤتمر بوندنغ، ويعده علماء مسلمي السُّنة، واحدًا من الصدور الجِلّة، ويشهد بذلك تقريظ الأزهر له وعلمائه، ويخصه علماء الشيعة بالتقدير، كما ورد في تأبين الإمام الصدر، أو في إيلاء علماء قُم رئاسته لمؤتمر عن الإمام الطوسي.
لعل في سبحي الطويل فيما كتب الرجل، جملة قوية الأثر وردت في كتابه: "دفاع عن الشريعة"، قال عن نفسه: إن أسرته جاءت من الأندلس، ولما أفلت راية الإسلام بها، رحلت إلى المغرب، ولو قُدر أن تأفل راية الإسلام من المغرب لارتحل عنه. لم يكن ارتباطه بأرض، ولكن بفكرة، وكانت الفكرة تتجاوز المكان وتعلو عن الزمان.
لا يُختزل فكر رجل فذّ في مقال، ويَعرف له المغاربة كتابه الفريد: "النقد الذاتي" وكتبه في القاهرة والمغرب يرزح تحت نير الاستعمار، ويعرف له المغاربيون، دوره في مكتب المغرب العربي، وكان نائبًا للأمير عبد الكريم الخطابي، إلى جانب الحبيب بورقيبة، وكتابه: "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، بإيعاز من ساطع الحصري.
بدأت مرحلة ثانية من فكرة الرجل، في ستينيات القرن الماضي انصبت على تجديد الإسلام، ومنها كتابه: "دفاع عن الشريعة"، وكتابه: "مقاصد الشريعة"، وكتب أخرى. ومرة أخرى أستشهدُ بجملة قصيرة، تلخص مدار فكر رجل موسوعي، في مقال له عن الإمام مالك، وفهمه للمالكية، حين استشهد بمغربي (بمعناه العام) حج ولقي إمام الحرمين، وسأله النصيحة، فقال له: قم بالفرائض، ولا تُعادِ أحدًا. وليست المالكية، في فهم علال الفاسي، اجتهادات فقهية فحسب، بل رؤية حضارية تتجاوز سبل الفُرقة وأسباب الخلاف.
لم تكن حياة الرجل رُخاء. فُتن وهو فتى، ونُفي في الغابون لتسع سنين بعيدًا عن الأهل، في ظروف صعبة، وفي الحرارة الاستوائية، وفي الغابون حقق ديوان ابن هانئ من كان يُعتبر متنبّي المغرب، وعاش ظروفًا مادية صعبة في المنفى في القاهرة في أربعينيات القرن الماضي، لولا أريحية بعض المغاربة من منطقة سوس، من عرّفوه بالوشائج التي تربط المغرب بالصحراء، ولم تكن أوضاعه السياسية بالجيدة، بعد ثورة الضباط الأحرار، وقُربه من الإخوان المسلمين، وحتى في المغرب المستقل، عانى الأمَرَّين ممن كانوا سدنة الاستعمار، ومنهم من هدده بالقتل، ولم يسلم في مسرى حياته من الافتراء والأراجيف.
ظلت القضية الفلسطينية حاضرة في وجدانه ونضاله، متابعًا لها، تتبع العارف، منافحًا عنها منافح المؤمن، كتابة ومحاضرة، وانخراطًا سياسيًا.
ولعل ما يشهد لمكانته، ما قيل عنه في تأبينه من أطياف عدة، من شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، إلى هاني الحسن عن منظمة التحرير، إلى الإمام موسى الصدر من لبنان.
وأحسنُ ما يختتم به ما قال عنه شاعر العراق الكبير، محمد المهدي الجواهري:
علال لي نسب إليك عروقه أقوى من الأرحام والأصهار
فجَّرت ينبوعًا خشِيتُ جفافه وعهدتُه متدافعَ التيار
أنا من الدنيا على حافاتها وعلى شفا جُرف بها منهار
من مشرق الدنيا لمغرب شمـْـــــسها ومن المحيط إلى رُبى ذي قار
دولٌ يُمزقها الخلاف وكلها مخنوقة بخيوط ألف شعار
أو شاعر الجزائر الكبير مفدي زكريا:
فهل دعاك (جمال الدين) تُؤنسه أم ذاب شوقًا إلى لقياك (إقبالُ)
أم لم يزل (عبده) يرجوك في لهف فخفّ ركبُك واستهواك ترحالُ
أم (ابن باديس) والأهداف واحدة قد هدْهدته إلى رؤياك آمال
علال إن كنت قد كفكفتَ أدمعًا بكى عليك الحِمى والصحب والآل
ومن فلسطين أغلى ما نطقتَ به مع الشهادة، إكبار وإجلال
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ترجمات حريات القضیة الفلسطینیة المغرب العربی لم یکن
إقرأ أيضاً:
الإفتاء توضح حكم الاحتفال بالإسراء والمعراج في السابع والعشرين من رجب
أكدت دار الإفتاء المصرية، أن المشهور المعتمد من أقوال العلماء سلفًا وخلفًا وعليه عمل المسلمين أنَّ الإسراء والمعراج وقع في ليلة سبعٍ وعشرين من شهر رجبٍ الأصمِّ؛ فاحتفال المسلمين بهذه الذكرى في ذلك التاريخ بشتَّى أنواع الطاعات والقربات هو أمرٌ مشروعٌ ومستحب؛ فرحًا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعظيمًا لجنابه الشريف، وأما الأقوال التي تحرِّمُ على المسلمين احتفالهم بهذا الحدث العظيم فهي أقوالٌ فاسدةٌ وآراءٌ كاسدةٌ لم يُسبَقْ مبتدِعوها إليها، ولا يجوز الأخذ بها ولا التعويل عليها.
كل عام وأنتم بخير.. الإفتاء تعلن غدا الأربعاء غرة شهر رجب 1446هـ وقت صلاة قيام الليل وعدد ركعاتها ودعائها المختار في وقت وقوع الإسراء والمعراجوأشارت دار الإفتاء إلى أن إحياءُ المسلمِ ذكرى الإسراءِ والمعراجِ بأنواع القُرَب المختلفة أمرٌ مُرَغَّبٌ فيه شرعًا؛ لِمَا في ذلك من التَّعظيمِ والتَّكريمِ لنبيِّ الرَّحمة وغوث الأمَّة سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم.
وتابعت دار الإفتاء أن المشهور المعتمد من أقوال العلماء أنَّ الإسراء والمعراج وقع في شهر رجبٍ الأصمِّ، وقد حكى الحافظ السيوطي ما يزيد على خمسة عشر قولًا؛ أشهرُها: أنه كان في شهر رجب؛ حيث قال في "الآية الكبرى في شرح قصة الإسرا" (ص: 52-53، ط. دار الحديث): [وأما الشهر الذي كان فيه: فالذي رجَّحه الإمام ابن المنير على قوله في السنة ربيع الآخر، وجزم به الإمام النووي في "شرح مسلم"، وعلى القول الأول في ربيع الأول، وجزم به النووي في فتاويه.
وقيل: في رجب وجزم به في "الروضة".
وقال الإمام الواقدي: في رمضان.
والإمام الماوردي في شوال، لكن المشهور أنه في رجب].
ونقل الإمام أبو حيان في تفسيره "البحر المحيط" (7/ 9، ط. دار الفكر) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إنه كان قبل الهجرة بعام ونصف؛ في رجب".
وجزم بذلك الإمام ابن عطية الأندلسي في "المحرر الوجيز" (3/ 435-436، ط. دار الكتب العلمية)؛ فقال: [وكان ذلك في رجب].
وهو ما قال به الإمامان ابن قُتَيْبة وابن عبد البر المالكي؛ كما ذكر الحافظ القسطلاني في "المواهب اللدنية" (2/ 70، ط. دار الكتب العلمية)، والعلامةُ الدياربكريُّ في "تاريخ الخميس (1/ 307، ط. دار صادر).
وتعيَّينُ الإسراء والمعراج بالسابع والعشرين من شهر رجب: حكاه كثيرٌ من الأئمة واختاره جماعةٌ من المحققين، وهو ما جرى عليه عمل المسلمين قديمًا وحديثًا:
فحكاه الحافظ ابن الجوزي في "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" (3/ 26، ط. دار الكتب العلمية)؛ فقال: [ويقال: إنه كان ليلة سبعٍ وعشرين من رجب].
وممن اختاره وجزم به: حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي الشافعي في كتابه العظيم وديوانه الحافل "إحياء علوم الدين" (1/ 367، ط. دار الشعب)؛ حيث قال: [وليلة سبعٍ وعشرين منه -أي: من شهر رجب-، وهي ليلة المعراج] اهـ.
والإمام الحافظ أبو الفرج بن الجوزي الحنبلي في كتابه "الوفا بتعريف فضائل المصطفى" (1/ 162)؛ حيث حكى الخلاف في زمن المعراج، ثم قال عقبه: [قلت: وقد كان في ليلة سبعٍ وعشرين من رجب] .