الجزيرة:
2025-04-15@07:55:12 GMT

نصف قرن على رحيل علال الفاسي العلّامة المجدد

تاريخ النشر: 13th, May 2024 GMT

نصف قرن على رحيل علال الفاسي العلّامة المجدد

في 13 مايو/أيار من سنة 1974، لبّى الزعيم (كما كان يُعرف) علال الفاسي نداء ربّه في بوخارست، وهو في لقاء مع رئيسها تشاوشيسكو.

كان علال الفاسي يُحدّثه عن القضية الفلسطينية، ويلتمس منه فتح تمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية في بوخارست، وقبِلَ الرئيس على الفور، وما لبث علال الفاسي أن شَعَر بألمٍ، والتمس من الرئيس الخروج من المكتب على أن يكمل نائبه امحمد بوستة عرضًا عن الوَحدة الترابية للمغرب.

وما هي إلا هنيهات في قاعة مجاورة حتى فاضت روح علال الفاسي.

كان قبلها بأيام في ندوة بمشهد، في إيران عن الإمام الطوسي، وارتأى منظمو الندوة أن يعهدوا له برئاستها، وكان حقًا أمرًا عجَبًا أن يرأس سُنّي ندوة يُنظمها علماء شيعة عن واحد من كبار محدّثي الشيعة.

لعل في سبحي الطويل فيما كتب الرجل، جملة قوية الأثر وردت في كتابه: "دفاع عن الشريعة"، قال عن نفسه: إن أسرته جاءت من الأندلس، ولما أفلت راية الإسلام بها، رحلت إلى المغرب، ولو قُدر أن تأفل راية الإسلام من المغرب لارتحل عنه

رأى منظمو الندوة أن علال الفاسي يتجاوز أي تقسيم من شأنه أن يفُل من الإسلام، وحدّث علال الفاسي حديث العارف بعلم الكلام، وأسهبَ في أيادي الطوسي، وليد طوس، شأنه شأن الغزالي، حُجة الإسلام لدى السُّنة، وختم بالقول: ألّا شيء يجيز الفُرقة بين السُّنة والشيعة، وأن الخلاف سياسي ينصرف إلى الماضي، وأن على السُّنة والشيعة أن يوحِّدوا الصفوف ليرتقوا بالحضارة الإسلامية، واعتبر في صورة مجازية، نقلًا عن جابر بن حيان، أن الله خلق للأبواب مفتاحين، وضع أحدهما في يد العرب، والثاني في يد الفرس، فإذا افترق العرب والفرس، ضاع المِفتاحان وبقيت الأبواب مغلقة. ثم زار قُم وعبّر عن انبهاره بعلمائها ومعرفتهم الواسعة.. كان ذلك قبل خمس سنوات من الثورة الإيرانية، وكأنه رأى ما لم يكن يُرى.

وطار إلى "أبوظبي"، ومنها إلى الكويت، وبها خصّ جريدة "القبس" بحوار، ولم يكن يدور بخَلد مُجري الحوار، أنها ستكون الرسالة الأخيرة لعلال الفاسي، ولم يُنشر الحوار إلا بعد وفاة صاحبه، وكان مما قاله علال الفاسي في هذا الحوار، الذي يدلل على راهنيته، وقدرته الاستشرافية، أولًا في تقييمه لدول الخليج، من أنها حققت تقدمًا ضخمًا، وهي في أمسّ الحاجة إلى اتحاد أو وحدة "لا يهم شكلها بقدر ما يهم مضمونها"، وأنها مستهدفة، وعرضة لأطماع من الشرق والغرب، وذيّل من أن الوحدة كما هي مهمة في الخليج، مهمة لدول المغرب العربي، وأن وحدة الشعوب (المغربية بالمعنى العام) قائمة وراسخة، ولا تستطيع الأنظمة الحاكمة أن تقف في طريقها، وإنما يمكنها أن تعرقل الإسراع في تحقيقها.

وأضاف من غير مواربة أن "رؤساء دول المغرب العربي لا يفكرون أو يعملون جديًا لتحقيق الوحدة، برغم أن شعوبهم تتوق لتحقيقها". أما عن تداعيات حرب أكتوبر/تشرين الأول (1973)، وكانَ أثرها غضًا، فقال: "لو أن العرب احتفظوا بمشاعر التضامن والوحدة التي شملتهم جميعًا إبان حرب أكتوبر/تشرين الأول، لتحققت الوحدة العربية بأقرب مما نتخيل"، أما عن القضية الفلسطينية، فلم يكن يرى، إلا حلًا يتيح للفلسطينيين حقهم في أرضهم، من دون تنازل.

ثم طار إلى بوخارست وكان آخر ما نطق به هو القضيّة الفلسطينية.

مدى علال الفاسي، يتجاوز الحزب الذي أنشأه بمعية وطنيين، أي حزب الاستقلال، وحتى حدود بلاده المغرب، إذ مداه أوسع، ويشهد له بذلك عرب المشرق، وخاصة الفلسطينيين من يعدونه واحدًا منهم، ومن أوائل من نافح عن القضية الفلسطينية في مؤتمر بوندنغ، ويعده علماء مسلمي السُّنة، واحدًا من الصدور الجِلّة، ويشهد بذلك تقريظ الأزهر له وعلمائه، ويخصه علماء الشيعة بالتقدير، كما ورد في تأبين الإمام الصدر، أو في إيلاء علماء قُم رئاسته لمؤتمر عن الإمام الطوسي.

لعل في سبحي الطويل فيما كتب الرجل، جملة قوية الأثر وردت في كتابه: "دفاع عن الشريعة"، قال عن نفسه: إن أسرته جاءت من الأندلس، ولما أفلت راية الإسلام بها، رحلت إلى المغرب، ولو قُدر أن تأفل راية الإسلام من المغرب لارتحل عنه. لم يكن ارتباطه بأرض، ولكن بفكرة، وكانت الفكرة تتجاوز المكان وتعلو عن الزمان.

لا يُختزل فكر رجل فذّ في مقال، ويَعرف له المغاربة كتابه الفريد: "النقد الذاتي" وكتبه في القاهرة والمغرب يرزح تحت نير الاستعمار، ويعرف له المغاربيون، دوره في مكتب المغرب العربي، وكان نائبًا للأمير عبد الكريم الخطابي، إلى جانب الحبيب بورقيبة، وكتابه: "الحركات الاستقلالية في المغرب العربي"، بإيعاز من ساطع الحصري.

بدأت مرحلة ثانية من فكرة الرجل، في ستينيات القرن الماضي انصبت على تجديد الإسلام، ومنها كتابه: "دفاع عن الشريعة"، وكتابه: "مقاصد الشريعة"، وكتب أخرى. ومرة أخرى أستشهدُ بجملة قصيرة، تلخص مدار فكر رجل موسوعي، في مقال له عن الإمام مالك، وفهمه للمالكية، حين استشهد بمغربي (بمعناه العام) حج ولقي إمام الحرمين، وسأله النصيحة، فقال له: قم بالفرائض، ولا تُعادِ أحدًا. وليست المالكية، في فهم علال الفاسي، اجتهادات فقهية فحسب، بل رؤية حضارية تتجاوز سبل الفُرقة وأسباب الخلاف.

لم تكن حياة الرجل رُخاء. فُتن وهو فتى، ونُفي في الغابون لتسع سنين بعيدًا عن الأهل، في ظروف صعبة، وفي الحرارة الاستوائية، وفي الغابون حقق ديوان ابن هانئ من كان يُعتبر متنبّي المغرب، وعاش ظروفًا مادية صعبة في المنفى في القاهرة في أربعينيات القرن الماضي، لولا أريحية بعض المغاربة من منطقة سوس، من عرّفوه بالوشائج التي تربط المغرب بالصحراء، ولم تكن أوضاعه السياسية بالجيدة، بعد ثورة الضباط الأحرار، وقُربه من الإخوان المسلمين، وحتى في المغرب المستقل، عانى الأمَرَّين ممن كانوا سدنة الاستعمار، ومنهم من هدده بالقتل، ولم يسلم في مسرى حياته من الافتراء والأراجيف.

ظلت القضية الفلسطينية حاضرة في وجدانه ونضاله، متابعًا لها، تتبع العارف، منافحًا عنها منافح المؤمن، كتابة ومحاضرة، وانخراطًا سياسيًا.

ولعل ما يشهد لمكانته، ما قيل عنه في تأبينه من أطياف عدة، من شيخ الأزهر عبد الحليم محمود، إلى هاني الحسن عن منظمة التحرير، إلى الإمام موسى الصدر من لبنان.

وأحسنُ ما يختتم به ما قال عنه شاعر العراق الكبير، محمد المهدي الجواهري:

 

علال لي نسب إليك عروقه      أقوى من الأرحام والأصهار

فجَّرت ينبوعًا خشِيتُ جفافه      وعهدتُه متدافعَ التيار

أنا من الدنيا على حافاتها        وعلى شفا جُرف بها منهار

من مشرق الدنيا لمغرب شمـْـــــسها ومن المحيط إلى رُبى ذي قار

دولٌ يُمزقها الخلاف وكلها      مخنوقة بخيوط ألف شعار

 

أو شاعر الجزائر الكبير مفدي زكريا:

فهل دعاك (جمال الدين) تُؤنسه          أم ذاب شوقًا إلى لقياك (إقبالُ)

أم لم يزل (عبده) يرجوك في لهف      فخفّ ركبُك واستهواك ترحالُ

أم (ابن باديس) والأهداف واحدة       قد هدْهدته إلى رؤياك آمال

علال إن كنت قد كفكفتَ أدمعًا         بكى عليك الحِمى والصحب والآل

ومن فلسطين أغلى ما نطقتَ به          مع الشهادة، إكبار وإجلال

 

وفي الليلة الظلماء يفتقد البدرُ.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات القضیة الفلسطینیة المغرب العربی لم یکن

إقرأ أيضاً:

كيف تحقق طموحك دون الوقوع فيما نهى عنه الاسلام؟.. علي جمعة يوضح

قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن  النفس البشرية جبلت على التطلع للمستقبل‏,‏ والطموح إلى المراتب الأعلى دائما‏,‏ وهو ما حدا بالبعض إلى الجموح لتحقيق أهدافه وأحلامه‏,‏ مستندا إلى مبدأ‏:‏ "الغاية تبرر الوسيلة" دون نظر إلى ما تمثله تلك الوسيلة من خير أو شر‏,‏ وهو أمر شديد الخطورة‏,‏ يؤثر بالسلب على الفرد والمجتمع.

ونوه ان الطموح هو السعي باتجاه الوصول إلى أعلى الأهداف, وحتى يصل الإنسان إلى ما تطمح إليه نفسه في ظل الالتزام بالمبادئ التي قررها الإسلام ؛يجب أن يكون لديه الدافع المحاط بالأخلاق التي حددها القرآن الكريم والسنة النبوية، وإلا أصبح الطموح جموحا يوشك أن يودي بصاحبه ويدمره

هل يجوز الجمع بين نية صيام الست من شوال والأيام البيض؟علي جمعة: التمكين الدنيوي للظالمين لا يعني رضا الله عنهمماذا يحدث عند قراءة يس 7 مرات يوميا؟.. علي جمعة: اغتنموها لهذا السبب

الطموح الصحيح
وأشار الى ان  رسول الله ﷺ أوضح لنا الطموح الصحيح في أسمى صوره، وزرع فينا حب التميز والتفوق والحصول على أسمى المراتب في كل مكان نعمل فيه.

ولفت إلى أن التواضع والزهد في الدنيا لا يعنيان أبدا أن يقبل المسلم الحد الأدنى ، أو ينزوي وراء الآخرين ويكون في ذيلهم، ولذلك حثنا رسول الله ﷺ على العمل لبلوغ الغاية والهدف الأسمى لكل مسلم فقال: «إذا سألتم الله فسلوه الفردوس الأعلى, فإنه سر الجنة» [الكبير للطبراني], كذلك علمنا أن نعظم من رغباتنا عند الدعاء, فقال ﷺ : «إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت, ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة, فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه» [مسلم]

واضاف:الإسلام -كما دعا إلى الطموح لنيل المنزلة العليا في ظل مبادئه السامية- جاء أيضا ليهذب النفس البشرية عن جموحها ويقوم سلوكها ويهديها سبيل الرشاد, فالنفس مائلة بطبعها إلى التوجه إلى السيئ, كما أكد القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي), وهي غالبا ما تتبع الهوى بغية إشباع رغباته, ومن هنا جاء الإسلام ليعلمنا كيف نكبح جماح تلك النفس حتى تستكين وتعود إلى جادة الصراط المستقيم, وسبيل ذلك تربية النفس على طاعة الله ورسوله في كل شيء.

وبين ان الاسلام وازن بين الواجبات التي فرضها على المسلم وبين ما تطمح إليه نفسه البشرية, فعمل على ألا تكون فروض الدين شاغله أمره كله وداعية لترك دنياه, بل أمره بالجد والسعي في طلب الرزق وإعمار الأرض, قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) .

فالاستغراق في المأمول بلا حدود هو الطموح الزائد الذي ينقلب إلى جموح، وهو أمر مرفوض في الإسلام, قال الله عز وجل: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا), أما إذا أعاد الإنسان ضبط هذا المأمول في إطار المشروع, وفي إطار ما أحله الله وأباحه ودون الخروج عن الهدي النبوي الكريم, وبما لا يخالف النظام العام, فسوف يصل إلى هدفه ويحقق طموحه الذي يأمله ،ويكون بهذا قد حقق التوازن والاتساق بين ما تطمح إليه نفسه وبين ما يأمره به ربه.

مقالات مشابهة

  • مشروع الجزيرة بين الماضي والحاضر والمستقبل المجهول ؟؟
  • الإبادة التلمودية والحملات الصليبية اليهودية
  • مؤلم ما يحدث في الفاشر مثلما كان مؤلما حينما حصل في قرى الجزيرة والدندر والخرطوم
  • الجزيرة ترصد آثار قصف إسرائيلي على مبنى بدير البلح
  • لقد ارتكبوا نفس جرائم الفاشر في مدت وقرى الجزيرة و سنار وفي العاصمة ولكن أين هم الآن؟
  • حكم القصاص في الإسلام وجزاء العفو.. دار الإفتاء توضح
  • أشهر 10 رياضيين اعتنقوا الدين الإسلامي
  • البطولة: الفتح الرياضي يفشل في الارتقاء إلى الوصافة بهزيمته أمام المغرب الفاسي
  • الأدب في خدمة العقيدة.. كيف وظف جابر قميحة الشعر للدفاع عن الإسلام؟
  • كيف تحقق طموحك دون الوقوع فيما نهى عنه الاسلام؟.. علي جمعة يوضح