لجريدة عمان:
2025-02-23@17:32:51 GMT

التعظيم الأخلاقي.. هل يشكل قوة ردع؟

تاريخ النشر: 12th, May 2024 GMT

يهيمن الفكر السياسي على مفهوم «قوى الردع» «وموازين القوى» و«قواعد الاشتباك» واليوم يأتي مفهوم جديد «الصبر الاستراتيجي» و«القوى الناعمة» وهذه كلها في مجموعها تذهب أو يراد منها نتيجة واحدة وهي أن تكون هناك حالة من التوازن بين القوى التي على شفا حفرة من احتدام الصراع. فالإنسان تأسس على صراع منذ حالة الاشتباك التي حدثت بين ابني آدم «عليه السلام» قابيل وهابيل، مرورا بحالات لا أول لها ولا آخر من الصراعات، وصولا إلى الصورة الـ«صراعية» المستمرة بأدواتها الحديثة اليوم، وكذلك الأمر إلى حيث النهاية، سواء أكانت هذه النهاية لكل فرد على حده يعيش صراعه الخاص، أو النهاية المطلقة للحياة كلها بعد عمر من السنين، حيث تقدير ذلك عند رب الوجود الذي أوجد هذا الصراع بين الكائنات لحكمة يعلمها، ليس هنا مجال مناقشتها، بقدر ما يقتضيه الفهم للإشارة إليه، وارتباط ذلك بهذا الإنسان الذي لا يكاد ينهي صراعا ما، إلا ويدخل في صراع آخر، عبر لوحة فسيفسائية من الصراعات التي تمتلئ بها حياة كل فرد على حدة، وحياة كل مجموعة على حدة، وحياة البشرية كلها في صراعات البقاء والسيطرة، ولذلك فمن اليقين الدائم أن لا توجد في الحياة الإنسانية فترة زمنية تكون خالية من أي صراع، فالصراعات قائمة، والإنسانية تختلق صراعاتها بحول منها وقوة، وهي تدفع أثمانا غالية، وقاسية، ومع ذلك فهي تُصَدِّرُ صراعاتها، فكل جيل يُوَرِّثُ صراعاته للجيل الذي بعده إلى أن تقوم الساعة، حيث ستقام محكمة العدل الإلهية ليأخذ كل حق حقه (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (55) آل عمران.

يتم الحديث عن (التعظيم الأخلاقي) هنا في هذه المناقشة، ليس لأنه حالة استثنائية طارئة، بقدر ما هي صحوة إنسانية ولن نقول عنها متأخرة، فالأحداث هي التي تصنع المعجزات كما هو معروف بالضرورة، والأحداث مستمرة باستمرار الحياة، ولكن تفاوت حمولة الأحداث هي التي توجد الكثير من الصور الصادمة، والإنسان بطبيعته يحتاج إلى مواقف صادمة، ليخرج من بين جوانبه الإنسانية الحالات والمواقف الاستثنائية، ومعنى هذا أن حالة الركود حالة نائمة، أو لحظة خاملة، وتحتاج إلى شيء من الصدمات حتى تعيش مخاضًا مربكًا يخلق الكثير من الحركة والنشاط، ويأتي بنتائج غير متوقعة، ولأن الحديث هنا يذهب كثيرا إلى الأحداث الجارية في قطاع غزة، ومجموعة التفاعل والتكامل المرافقة للحدث الكبير، فإننا مثل غيرنا يقرأ تعاظم الحالة الأخلاقية «الإنسانية» في ذلك المشهد المثير للدهشة، والناتجة عن مجموعة الاعتصامات لطلبة الجامعات الأمريكية والأوروبية والتي وصل عددها حتى الآن الرقم (75) جامعة -ومن أرقاها، وأعرقها- تقود حراك طلبتها ومن كان قبلهم ولا تزال المسيرات «المؤلفة» من الشعوب في مختلف دول العالم ما عدا الدول العربية والإسلامية مستمرة بألفياتها البشرية، والمفارقة أن هذه الجامعات تنتمي إلى دول كلها مشاركة في العدوان الصهيوأمريكي على غزة، والسؤال هنا: ما الدافع الذي حفز هؤلاء الطلبة الذين يبعدون عن فلسطين آلاف الكيلومترات، ويختلفون عنهم: أعراقا، ودينيا، وجغرافيا؟ كيف وصلت رسالة «غزة» إلى هذه الفئة الشابة المشغولة بكثير من متع الحياة واللهو، والصور الاحتفالية في مجتمعاتهم؟ ما الذي اقتلع هذا الشعور الإنساني النبيل من دهاليز هذه الأنفس التي للتو تقرأ خطوات تفاصيل حياتها في خارطة الحياة حيث لم تعش بعد أبعاد مأساوية في بلدانها، كما هو الحالة لدى آبائهم وأجدادهم؟ والجواب: ليس هنا من سبب سوى النزعة الأخلاقية المتحررة من كل التجاذبات النفسية، والمادية، والعنصرية، والعرقية، واللونية، والجغرافيا، فقط هذا هو المحفز الأول والأخير، والذي تعاظم، ولا يزال في نفوس هذه الفئة الشابة التي ترسم أحلام خارطة حياتها الإنسانية القادمة، ولأنها قادمة على مشروع مستقبلي لحيواتهم بقيادتهم، فما يرونه من مآس يربكهم أكثر، حتى لا تتشوه إنسانيتهم بهذا السلوك الفظيع الذي عليه أباؤهم وقادتهم الذين تجردوا من كل القيم الإنسانية. والسؤال الختامي لهذه الفقرة: هل سيشكل «التعظيم الأخلاقي لدى هؤلاء الطلبة قوة ردع مؤثرة في اتخاذ القرار السياسي الذي سوف ينهي هذه المأساة المستمرة على الشعب الفلسطيني الأعزل؟ ولو كان الأمر كذلك فما الذي أقلق ساستهم بأن يتخذوا حيالهم القوة النافذة لفك اعتصاماتهم المباركة التي أقلقت العدو الصهيوأمريكي قبل غيره وهو على بعد آلاف الكيلو مترات؟

تشكل المسيرات الجماهيرية، أو الحراك الشعبي مؤشرات مهمة لوضع قراءات تحليلية لماهيتها، وموضوعيتها، وأهميتها، ولحظات توقيتاتها، ونوعية الفاعلين والمؤثرين فيها، وما سوف تؤول إليه في نهاية الأمر، وبقدر هذه الأهمية التي تمثلها، فإنه ينبغي، بل يلزم الأمر إلغاء أية صورة نمطية مرسومة، ومتأصلة حيالها، وهي صور إن قبلت في فترة تاريخية معينة، فإنها يجب أن يعاد النظر في تقييمها في فترة تاريخية متأخرة، وذلك لاعتبارات كثيرة في مقدمتها وعي المجتمع، وانتقال أفراده من حالة الاستماع والتوجيه والتسليم، إلى حالة الاستيعاب لمجريات الأحداث، وتشكيل مواقف، ووضع قراءات مغايرة لكل ما يطرح عبر وسائل الإعلام من أجندات موجهة، ومدروسة بعناية، أو معايشة ذلك على الواقع، حيث لا يتم التسليم المطلق لكل ما ينشر ويوجه، وإنما هناك تفنيد، وإعادة قراءة، ومن ثم تأصيل وعي مختلف، وتشكيل مواقف، وتنفيذ إجراءات على الواقع، ولذلك فالذين يتوهمون بفاعلية بنظرية «عقلية القطيع» فإن زمن هذه النظرية ولَّى إلى غير رجعة، ودفنت في مقابر التاريخ، حيث لم يعد الزمن قابلا للتكرار؛ لأن في ذلك مجازفة بتكراره، والتاريخ لا يتكرر بشخوصه وأحداثه، وإنما يسجل أحداثه ووقائعه بشخوص جديدة، وأحداث جديدة؛ ليعبر ذلك كله عن واقع جديد غير ما كان عليه الحال، والفهم بتكرار التاريخ لا يمكن قبوله اليوم في ظل اتساع رقعة وسائل التواصل الاجتماعي، التي شكّلت ظاهرة إعلامية غير مسبوقة، تجاوزت كل المحددات، والوسائل الضابطة، حيث ساعدت كثيرا على إعادة قراءات كل الصور النمطية، وتفتيتها، واستبدالها بحالة وعي رائعة، تعبر حقًا عن واقع لا يحتاج إلى رتوش لفهمه ووعي مجرياته، بغض النظر إن كان ذلك يتفق مع الأنظمة السياسية، أو يتصادم معها، وكانت أحداث (بعد السابع من أكتوبر/ 2023م) هي «القشة التي قصمت ظهر البعير» في شأن تشكيل واقع مغاير لما كان عليه الوضع قبل هذا الحدث الجلل.

في الوعي السياسي والاقتصادي قد لا ينظر إلى المسألة الأخلاقية بكثير من الاهتمام الموضوعي الذي يمكن أن يشكل فارقًا نوعيًا في اتخاذ قرار ما، أو موقف ما، أو وجهة نظر ما، حيث تعد المسألة الأخلاقية على أنها حالة كمالية، يمكن النظر إليها كشيء تكميلي بعد الانتهاء من الطبخة، لإضفاء شرعية اجتماعية على أغلب الأحوال والدين في هذه الحالة مستبعد بصورة مطلقة، ليس لشيء سوى أنه دين وفقط، والدين وفق هذه النظرة هي علاقة فردية بين العبد وربه، وليست ثمة ضرورة لأن تزج هذه العلاقة في موضوعات الحياة اليومية المختلفة، وهذا الاستبعاد الضمني للدين ليس كما يروج له في الظاهر، على اعتباره علاقة فردية بين العبد وخالقه، ولكن الحقيقة هي أن للمسألة الدينية استحقاقات موضوعية مهمة ليس من اليسير تحملها عند صياغة أو نشأة أي مشروع من مشروعات الحياة، ولذلك هناك خوف من أن الكثير من خطوات النشأة والتنفيذ سوف تصطدم لا محالة بالمسألة الدينية، ومتى اصطدمت بها، فإن فشلها أقرب من نجاحها، ولأجل ذلك تستبعد المسألة الدينية في كل مشروعات الحياة، وهذا حاصل مع الجميع، سوى هذا الدين هو من عند الله، أو ما يسمى بـ«دين» وهو الذي ابتدعه الإنسان لكي يعود إليه كلما ألمّ به عارض من عوارض الحياة، فالنفس مجبولة لأن تعقد صفقة مع «دين» لكي تطمئن، فمن الدين تستشف الآمال، ومن الدين ترتكن النفوس إلى الهدوء والاطمئنان، ومتى غيبت النفس حالها عن الدين، أوقعت نفسه في متون القلق، والتشتت، والانهيار، والضياع.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

سرّ جديد عن اغتيال نصرالله.. من الذي خطط لذلك؟

نشر موقع "n12" الإسرائيليّ تقريراً جديداً تحدث فيه عن وحدة إسرائيلية سريّة تعتبر مسؤولة عن تقييم عمليات القصف التي ينفذها سلاح الجو الإسرائيلي ضد أهداف يستهدفها، مشيراً إلى أن هذه الوحدة وهي "خدمة تكنولوجيا الإستخبارات"، تعمل على رسم خرائط للأهداف وفهم مدى الضرر الذي تسببه الذخائر بعد كل هجوم يتم بالقنابل والصواريخ.   ويقول التقرير الذي ترجمهُ "لبنان24" إنّ الوحدة تعمل على رصد أمرين أساسيين، الأول وهو معرفة ما إذا كان الهدف الموجود في دائرة القصف قد طالته الضربة فعلاً، فيما الأمر الثاني يتصل بمعرفة ما إذا كانت النقطة المحددة التي أرادت القوات الجوية ضربها قد تم استهدافها حقاً، وذلك وفق ما يقول أحد الضباط المرتبطة بتلك الوحدة ويُدعى المقدم "م."، وهو يشغل قسم رسم الخرائط والتكنولوجيا في الوحدة.   وفي سياق حديثه، يقدم الضابط مثالاً على اغتيال القيادي البارز في حركة "حماس" صالح العاروري في بيروت مطلع شهر كانون الثاني 2024، إذ قال: "لقد كانت حادثة بسيطة، ولم يكن علينا التأكد من اغتيال العاروري بشكل عميق، لأن حزب الله أبلغ عن ذلك. ولكن هناك حالات أكثر تعقيداً وتشابكاً، فلنقل على سبيل المثال إذا هاجمت نظاماً للأسلحة، فإن العدو ليس لديه مصلحة في الاعتراف بذلك. لن يقول أحد هذا الأمر، لذا فإن مهمتنا هي معرفة ذلك والإعلان عنه".   ويشير التقرير إلى أن القوات الإسرائيلية لعبت دوراً مهما في أبرز عمليات الاغتيال منذ بداية الحرب، وقال: "لقد لعبت قوات الإسرائيلية دوراً هاماً في أبرز عمليات الاغتيال منذ بداية الحرب". هنا، يتحدث قائد وحدة "خدمة تكنولوجيا الاستخبارات" المقدم "ل." قائلاً: "هناك أماكن تتطلب التخطيط الدقيق. لقد كنا شركاء في كل عمليات اغتيال كبار قادة حزب الله في الضاحية. أما مكان إقامة الشخص المسؤول ومتى كان هناك، فهذه معلومات يوفرها لنا فرع الاستخبارات، ولكن مسؤولية التنفيذ والتخطيط الفردي تقع على عاتقنا. لقد تعلمنا من كل عملية إقصاء، ونوجه الطيارين بحيث يتم ضرب ما نريده، ولا يتم ضرب ما لا نريده. نحن نعرف كيف نرفع العلم ونقول إذا فشلنا في الضرب، ونقوم بالتحقيق للمرة المقبلة".     المسؤول ذاته كشفَ أن وحدته لعبت دوراً كبيراً في عملية اغتيال أمين عام "حزب الله" السيد حسن نصرالله، وقال: "لقد خطط سلاح الجو للهجوم خصوصاً أنه كان في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت".   وتابع: "كانت هناك حاجة إلى الدقة والاحترافية.. في النهاية هناك نقطة يجب ضربها. لم نكن نعرف أننا نعمل على القضاء على نصرالله، لكننا فهمنا أن الأمر كان حساساً للغاية. فقط بعد النظر إلى الوراء، أدركنا أننا كنا شركاء في القضاء على أمين عام حزب الله". المصدر: ترجمة "لبنان 24"

مقالات مشابهة

  • نينوى تتسلم رفاة 53 مغدوراً على يد داعش ووعود حكومية بإعادة الحياة
  • المليشيا الإرهابية تركب التونسية!
  • البدوي الذي يشتم رائحة الثلج ..!
  • هل يشكل فيروس كورونا الجديد في الخفافيش خطرًا وشيكًا؟.. الدكتور حسام حسني يوضح
  • سرّ جديد عن اغتيال نصرالله.. من الذي خطط لذلك؟
  • مفتي الديار: التفكك الأسري يولد حالة من الانفلات الأخلاقي
  • كاتب أميركي: ترامب يشكل نظاما عالميا جديدا يخيف الحلفاء
  • اكتشاف فيروس كورونا جديد في الخفافيش قد يشكل تهديداً للبشر
  • مصادر: تعديلات دستورية تجريها حكومة السودان.. والدعم السريع يشكل حكومة موازية
  • ظواهر من الحياة