ترجمة: أحمد شافعي -

قليلة هي المعايير الدولية التي تحظى بمثل الالتزام الذي تحظى به اتفاقيتا فيينا للعلاقات القنصلية والدبلوماسية، فهما بمثابة حجر أساس للقانون الدولي وما يكفله من حماية للسفارات الأجنبية والعاملين فيها. لكن الشهور السبعة الماضية من الحرب بين إسرائيل وحماس تثبت لنا أن الأعراف الدولية تتلقى ضربة بلغت ذروتها في الضربة الإسرائيلية لبعثة إيران الدبلوماسية في دمشق في الثاني من أبريل.

في هذا السياق، فإن تبادل إطلاق النار الذي طال خوف الجميع منه بين إسرائيل وإيران خلال أبريل يبرز السبب في أن المبادئ الأساسية من قبيل حماية المنشآت الدبلوماسية لها أهمية بالغة في منع الانحدار السريع إلى حرب شاملة لا سيطرة لأحد عليها. فحتى أسوأ الأعداء لا بد أن يحترم في نهاية المطاف قواعد الطريق التي ينص عليها القانون الدولي والعرف الدولي في هذا الصدد.

ثمة اتفاقيتان تحددان أغلب القواعد للمواقع والأنشطة الدبلوماسية، هما اتفاقية فيينا للعلاقات الدولية لعام 1961 واتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963. والمواد المتعلقة بالأمن تشكل جوهر هاتين الاتفاقيتين بما يضمن في نهاية المطاف أن تتمكن البعثات الدبلوماسية من أداء عمليها دونما خوف من انتقام، سواء بالاعتقال، أو الاختفاء، أو الموت. ومن خلال الاتفاقيتين، تضمن الدول أمان مواطنيها في مواقع العمل الخارجية، بما ينشئ نظاما قانونيا ذاتي التعزيز، إذ ترمي جميع الدول إلى توفير الأمن لمواطنيها وتعزيز مصالح كل دولة.

تنص المادة 22 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية بلا لبس على أنه «لا يجوز انتهاك حرمة منشآت البعثة» فضلا عن أنه «على البلد المستضيف واجب اتخاذ جميع الخطوات الملائمة لحماية منشآت البعثة من أي اقتحام أو إتلاف لمنع تكدير سلام البعثة أو المساس بكرامتها». وتؤكد المادة 31 من اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية هذه النقاط.

تحدد كلتا الاتفاقيتين المنشآت بأنها «المباني أو أجزاء المباني والأراضي الملحقة بها، بغض النظر عن الملكية، المستعملة في أغراض البعثة، ومنها مقر إقامة رئيس البعثة». وهذه النقطة حاسمة إذ حاول البعض إنكار أن مبنى دمشق كان قنصلية أو جزءا من بعثة دبلوماسية.

هذا، ولا تتوسع أي من هذه المواد صراحة لتشمل بلدا ثالثا [غير البلد صاحب البعثة الدبلوماسية أو البلد المستضيف لها-المترجم] بما يضفي غموضا على مسألة ضرب إسرائيل المحتمل للقنصلية الإيرانية. إذ يذهب بعض خبراء القانون إلى أن علاقة هذه المسألة باتفاقيتي جنيف أقل من علاقتها بقوانين الحرب التي تشمل الأذى المدني أو المسائل الأساسية المتعلقة بسيادة الدولة. وبالمثل، فإن المسائل المهمة المتعلقة بالقانون الدولي العرفي ـ «أي الممارسة العامة المقبولة قبول القانون» ـ مهمة في هذا الصدد لأن هذه المبادئ كثيرا ما تكون هي التي تصوغ الاتفاقيات الدولية في المستقبل وتعدها كثير من الدول بل غالب الدول ملزمة قانونيا حتى لو أنها غير مكتوبة.

مسائل السيادة والقانون العرفي في نهاية المطاف هي الأكثر انطباقا على هذا السياق، بفرض أن مواد عدم انتهاك الحرمة في اتفاقيتي فيينا لعامي 1961 و1963 لا تنطبق على حالة ضربة إسرائيل في دمشق. لقد أكدت إيران وإسرائيل وسوريا أن تلك الضربات لم تسفر عن مصرع مدنيين، مع اكتساب اعتراف إيران أهمية خاصة في هذه الحالة. وإذن فمسائل الضرر المدني أقل انطباقا.

غير أنه من منظور السيادة، ثمة أسباب وجيهة للتشكيك في شرعية الضربة. فمقرات السفارة ملكية للدولة خاضعة لسيادتها في بلد آخر بحسب نصوص اتفاقيتي فيينا، وهي بمثابة ملاذ لإقامة مواطني الدولة. وضرب مقر مثل هذا لا يكون قانونيا من الناحية الواقعية إلا في حالات قليلة، منها أن تكون الدولتان في حالة حرب وتتجاوز الدولة المهاجمة عتبة الضرر المدني.

وإيران وإسرائيل ليستا في حالة حرب رسمية، برغم أن التفاعلات القائمة بينهما ليست سلمية. والواقع أن البلدين في حرب خفية منذ سنين تفاقمت بمرور الزمن مما أدى إلى العديد من الوفيات بين المدنيين والانتهاكات القانونية من كلا الجانبين. وتمثل الحرب الخفية مثالا قويا لأثر «التسابق نحو القاع» عندما ينتهك أحد الأطراف قانونا دوليا بارتكاب أعمال عدائية عابرة للدولة، فيبدو أن الطرف الآخر يضاهي هذا العمل أو يتجاوزه، متذرعا بانتهاكات خصمه للقانون الدولي لتبرير انتهاكاته هو. ولهذه التراشقات أهميتها لأن الانتهاكات لا تبرر المزيد من الانتهاكات.

وبالمثل، يرفض القانون الدولي العرفي الهجمات على المواقع الدبلوماسية في غير الدولتين الأولى والثانية بحيث تشمل دولة ثالثة أو فاعلين من غير الدول، مثلما تبين في خطاب أغلب الدول المشاركة في اجتماع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يوم الثاني من أبريل لبحث هجمة دمشق. فالحكومات ببساطة لا تنظر إلى الهجمات على مواقعها الدبلوماسية باعتبارها مشكلة الدولة الثانية أو الثالثة في مقابل انتهاك سيادتها. وهذا يؤكد حجة السيادة المتجسدة بوصفها مبدأ جوهريا في ميثاق الأمم المتحدة ينص تحديدا أن الدول تفهم أنها لا يمكن أن ترتكب أي عنف عابر للدول، باستثناء ما يتعلق بالدفاع عن النفس.

من المؤكد أن الكثيرين سوف يذهبون إلى أن إسرائيل تدافع عن نفسها ضد إيران ووكلائها الذين ينظر إليهم المعسكر الموالي لإسرائيل باعتبارهم شيئا واحدا. لكن كما أن هذا المعسكر قد ينظر إلى التقلبات القانونية لالتزامات الطرف الثالث بموجب اتفاقيتي فيينا والقانون الدولي العرفي، فمثل ذلك قد يقال في حق الدور العسكري لقوات الحرس الثوري الإيراني وفصيله الخاص المعروف بفيلق القدس إذ هما ذراعان الحكومة الإيرانية غالبا ما يتم اعتمادهما في المواقع الدبلوماسية بصفة مستشارين عسكريين.

وفي حين أن هناك استثناءات لضرب المنشآت المدنية في أراض سيادية لدولة في هذا الصدد، وهي تحديدا أن يكون الهدف يخطط لعمليات عسكرية ضد البلد المستهدِف في موقع الاستهداف، ويبقى التناسب وعناصر أخرى من القانون الدولي قابلة للتطبيق. ومع ذلك، من المحتمل أن تكون هذه أقوى حجة لإسرائيل إذ من الواضح أن الحرس الثوري وفيلق القدس ملتزمان بالحرب الخفية ضدها وأنهما يدعمان ميلشيات وجماعات أخرى في محاربة إسرائيل والولايات المتحدة.

وإذن، ففي حين أن التحليلات القانونية مهمة في مثل هذه الضربات، فإنها تنطوي أيضا على اعتبارات سياسية متأصلة، في ضوء فجوات في القانون الدولي ورفض كل من إيران وإسرائيل احترام جوانب كبيرة منه. والأسوأ من ذلك هو نزوع كلتا الدولتين وأنصارهما إلى التلاعب بالقانون الدولي بحيث يناسب رواية كل جانب، وكثيرا ما يكون ذلك مصاحبا لاعتبارات سياسية كبيرة تنبع من الوضع الداخلي في كل من البلدين.

في هذا السياق يجب أن تتمثل البوصلة في القانون الدولي العرفي، أي الأعراف التي تتصرف على أساسها الدول من غير القوانين المكتوبة. ومع إدراك أن معظم الدول سترفض أي هجوم من أي دولة وفي أي موقف على مواقعها الدبلوماسية وأراضيها السيادية، فمن الصعب تبرير الضربة الإسرائيلية المزعومة على القنصلية الإيرانية في دمشق. وقد اعترفت الولايات المتحدة –وهي الداعم الرئيسي لإسرائيل- بذلك بعد الضربة، حيث قالت نائبة السكرتير الصحفي للبنتاجون سابرينا سينج: «نحن لا نؤيد الهجمات على المنشآت الدبلوماسية».

علاوة على ذلك، فإن القبول بأن جميع أشكال القانون الدولي تحمي بطبيعتها مواطني دولة معينة، مما يؤدي بدوره إلى خلق ضمانات لمواطني جميع الدول، بما يعني أن أي انحراف عن القانون الدولي العرفي المبين أعلاه يجب أن يعد ساما من الناحية السياسية وخطيرا على سلامة الدول في آن واحد.

وعلى هذا النحو، ينبغي إدانة الغارة الإسرائيلية على القنصلية الإيرانية في دمشق على نطاق واسع. وواقع الأمر أن الضربة كانت على الأرجح بمثابة إشارة سياسية لإيران، بدلا من الدفاع عن النفس، بهدف تحقيق الردع. وفي حين أن تبادل إطلاق النار بين البلدين لم يؤد إلى صراع أكثر خطورة، فإن المخاطر المتعلقة بتصرفات كلتا الدولتين تقع بشكل مباشر خارج المفاهيم الأساسية للقانون الدولي.

وواقع الأمر أن إسرائيل وإيران كانتا في حالة حرب لمدة شهر للمرة الأولى، وتبادلتا ضرب الأراضي السيادية لكل منهما وخاطرا بحياة الملايين. وكان ينبغي لزعماء العالم أن يدينوا كلا البلدين بسبب تصرفاتهما غير المسؤولة. ومع ذلك، لسوء الحظ، لا تزال الاعتبارات الجيوسياسية والمصالح السياسية تهيمن على تصرفات قادة العالم حيث تحمي الدول حلفاءها على حساب القانون الدولي والجهود الأوسع للحفاظ على سلامة البشر.

ونتيجة ذلك أن العالم أصبح أسوأ حالا.

الكسندر لانجلوا محلل للسياسة الخارجية يركز على منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وحاصل على درجة الماجستير في الشؤون الدولية من كلية الخدمة الدولية بالجامعة الأمريكية.

عن ذي ناشونال إنتريست.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فیینا للعلاقات للقانون الدولی فی دمشق فی هذا

إقرأ أيضاً:

الوطني الفلسطيني: مصادقة الاحتلال على فصل 13 بؤرة استعمارية تحد سافر للقانون الدولي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قال رئيس المجلس الوطني الفلسطيني روحي فتوح، إن مصادقة الاحتلال الإسرائيلي على فصل 13 بؤرة استعمارية عن المستعمرات في الضفة الغربية المحتلة والاعتراف بها كمستعمرات مستقلة، تعد جريمة استعمارية برعاية أمريكية وصمت دولي، وتحد سافر للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة.


وأضاف فتوح، في بيان وفقا لوكالة الأنباء الفلسطينية"وفا"، اليوم /الأحد/ - أن هذا القرار العدواني يمثل إعلانا صريحا عن نوايا الاحتلال في تكريس الاستعمار وتصفية القضية الفلسطينية، مؤكدا أن ما يجري اليوم هو استكمال لمشروع استعماري طويل الأمد تنفذه حكومة الاحتلال، وتطبيق لخطة الوزير المتطرف بتسلئيل سموتريتش الذي وصف هذا القرار أنه خطوة مهمة في الطريق للضم والسيادة، موضحا أن هذه خطوة جديدة متقدمة في مسلسل التهويد والاستعمار الممنهج الذي يسعى إلى فرض واقع استعماري إحلالي على أرضنا الفلسطينية.
وأوضح رئيس المجلس أن ازدواجية المعايير والتهاون في محاسبة الاحتلال على انتهاكاته وعدم تنفيذ القرارات الدولية وقرارات المحاكم، وتجميد العمل بالقانون الدولي الإنساني، هو ما سمح لحكومة اليمين المتطرفة بالتمادي في الإبادة والتهجير والتطهير العرقي وفرض سياسة الأمر الواقع بالقوة"، مضيفا أن "هذه السياسات لا تكرس سوى مزيد من العنف والاضطراب وتغلق أي أفق لحل سياسي عادل، وتقضي على أمل إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة".
وطالب فتوح، المجتمع الدولي بتحرك عاجل وحقيقي لا يقتصر على بيانات الإدانة التي لا قيمة لها لدى الاحتلال، بل يجب أن يتجسد في فرض عقوبات على الاحتلال ووقف كل أشكال الدعم له، مشددا على أن استمرار دفن الرؤوس بالتراب لن يؤدي إلا إلى مزيد من التصعيد والانفجار، وأن المسؤولية كاملة تقع على عاتق كل من يساند أو يصمت أمام هذه السياسات الاستعمارية الإجرامية، مؤكدا أن الشعب الفلسطيني لن يقف مكتوف الأيدي، وسيتصدى لهذا الإرهاب وحرب التطهير العرقي والإبادة الجماعية التي تقتل الآلاف، ولن يسمح لدولة الاحتلال بتنفيذ خططها الاستعمارية والعنصرية.

مقالات مشابهة

  • خطة الاحتلال لتسريع التهجير تثير غضب الدول العربية.. إدانات واسعة
  • 792 فلسطينيا قتلوا منذ استئناف الضربات الإسرائيلية
  • جرائم الاحتلال ضد الصحفيين انتهاك صارخ للقانون الدولي وحرية الإعلام
  • الأمم المتحدة تقلص وجودها في غزة وسط استمرار الضربات الإسرائيلية
  • “فتح”: الاستيطان بكل أشكاله، انتهاك صارخ للقانون الدولي
  • بسام القواسمي: إسرائيل تخالف القانون الدولي وتفرض واقعًا جديدًا
  • بسام القواسمي: إسرائيل تخالف القانون الدولي وتفرض واقعا جديدا
  • الوطني الفلسطيني: مصادقة الاحتلال على فصل 13 بؤرة استعمارية تحد سافر للقانون الدولي
  • انتهاك للقانون الدولي.. مدونون ينعون صلاح البردويل
  • بعد الضربات الإسرائيلية.. هذا ما قالته فرنسا