اسمها ما زال محفوراً فى ذاكرة أهالى حى الغورية، فلا مجال لنسيان السيدة التى تدفق الخير من بين يديها ووضعت بصماتها على الأجزاء المحيطة بباب زويلة.. بمجرد عبورك البوابة التاريخية تشد انتباهك الآثار الكائنة بالمنطقة تحت مسمى «نفيسة البيضا»، وهى عبارة عن وكالة وسبيل، حيث احتفظ الأخير بمعالمه، فيما تبقى من الوكالة لافتة حديدية تقاوم عوامل التعرية والأتربة المتراكمة ليتمكن الزوار من رؤية العبارة المدونة عليها «وكالة نفيسة البيضا»، ومن ورائها بوابة حجرية ضخمة وباب خشبى، وصارت تُعرف باسم «وكالة الشمع».

«10 جنيهات» هى سعر التذكرة التى تسمح لك بزيارة مجموعة «نفيسة البيضا»، يمكنك الحصول عليها من مدخل باب زويلة المقابل للمجموعة الأثرية، حيث يجلس بداخلها بعض مفتشى وزارة الآثار، يصطحبك أحدهم فى زيارة تاريخية، وسرعان ما يخبرك بأنه يمكنك زيارة السبيل وحده، لكن الوكالة لم يتبقَّ منها سوى البوابة الحجرية الضخمة والأبواب الخشبية، وما وراءها محلات لصناعة الشمع، يواصل أصحابها مسيرة المهنة التى عُرفت بها الوكالة منذ إنشائها: «الأثر فقط هو الواجهة الخارجية وبوابة الوكالة»، بحسب مسئول زيارة الأثر.

تزوجت اثنين من زعماء المماليك وورثت ثروة ضخمة مكَّنتها من إنشاء سبيل ووكالة «صدقة جارية على روحها»

ملامح بسيطة يقدمها مسئول الزيارة عن هوية «نفيسة البيضا»، فهى السيدة الثرية التى تزوجت اثنين من زعماء المماليك لترث من ورائهما ثروة ضخمة مكّنتها من إنشاء المجموعة الأثرية المتبقية، وكأنها «صدقة جارية على روحها»، وفقاً لمسئول الزيارة، الذى وقف أمام البوابة الضخمة يصف شكل الوكالة سابقاً، إذ انقسمت إلى 3 طوابق، أولها لعرض البضائع البسيطة مثل الخضار والفواكه، بينما خُصص الدور الثانى للبضائع التى تحتاج لمساحة أكبر للعرض مثل السجاد اليدوى، بينما شغل الدور الثالث غرف مبيت للتجار الوافدين من الخارج.

ورغم أن الزيارة لم تستغرق أكثر من دقائق معدودة، فبمجرد عبورك للبوابة الحجرية للوكالة تخطفك لافتة كبرى تحمل اسم «جابر الشماع»، وهو المحل الأقدم فى صناعة الشموع، يجلس بداخله عدد من الصنايعية القدامى الذين حملوا أسرار المهنة ويسيرون على خطاها، فعلى مدار أكثر من 20 عاماً يعمل سيد كمال لدى الحج جابر الشماع، تشرَّب من يديه الصنعة قبل أن يرحل عن الدنيا ويواصل العمل مع أبنائه، مؤكداً، لـ«الوطن»، أن الوكالة كانت مخصصة لإسطبل الخيول ومخازن للتجار.

لم يدرك «سيد» على وجه التحديد متى شاع اسم «الشمع» على وكالة «نفيسة البيضا»، فحينما جاء من الفيوم، حيث منشؤه الأصلى، باحثاً عن «لقمة عيش» وجدها تُعرف بهذا الاسم: «جيت القاهرة وأنا عندى 12 سنة.. لقيتها معروفة بإنها وكالة الشمع واشتغلت فى المحل».

تخرج من البوابة الحجرية وتعود مرة ثانية بالقرب من سبيل «نفيسة البيضا»، الملاصق لآثار الوكالة المتبقية، تكتشف أن محلات باعة الشمع متراصة بجوار بعضها البعض، فمنذ قرابة الـ17 عاماً اختار رضا فؤاد العمل فى المهنة التى التصقت بالوكالة: «عمرنا كله فى صناعة الشمع وبيعه»، ربما لم يعرف الرجل الستينى الرابط بين نفيسة البيضا وصناعة الشمع، لكن منذ أن «وعى على الدنيا» وجدها تمتلئ بباعة الشمع: «الوكالة دى كان فيها صناعات كتير.. لكن أكترهم بتوع الشمع وفضلوا مكملين لغاية دلوقتى». ملامح ومواصفات شكلية لـ«نفيسة البيضا» اتفق عليها معظم المجاورين للمجموعة الأثرية، وهو ما تحدّث عنه الدكتور جمال مصطفى، نائب الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار لشئون الآثار الإسلامية والقبطية واليهودية، موضحاً لـ«الوطن» أن المجموعة الأثرية تحتوى على سبيل وكُتاب ورَبع أُطلق عليها قديماً «مجموعة السكرية» وتُنسب للسيدة «نفيسة البيضاء»، إذ عرّفها بأنها صاحبة الأصول الشركسية ومن جوارى على بك الكبير، لكنه أعتقها وتزوجها، ومن ثم تزوجت من مراد بك حين استولى على الحكم، ودام زواجهما طيلة 20 عاماً حتى رحيله فى العام 1801.

«بشرة بيضاء وشعر أشقر»، بهذه المواصفات استكمل «الدكتور جمال» حديثه عن صاحبة المجموعة الأثرية التى عُرفت بـ«البيضاء» لجمالها الشديد، كما أنها تمتعت بالذكاء والثقافة الواسعة، فضلاً عن معرفتها الجيدة باللغتين العربية والتركية، وأيضاً الفرنسية التى عرفتها جيداً مع مجىء الحملة الفرنسية إلى القاهرة.

مواقف كثيرة من العلاقة الطيبة جمعت «نفيسة البيضاء» بالشعب المصرى الذى أحبها بشدة، إذ اشتهرت بـ«فعل الخير»، فقد خصصت الكثير من العقارات والأصول التى ورثتها من أزواجها للمصريين، كما أنها عُرفت بـ«أم المماليك»، وفقاً لـ«جمال». وفيما يخص الوكالة أكد أنها تم إنشاؤها فى العام 1211 هجرياً 1796 ميلادياً، بغرض خيرى لخدمة الأهالى، إذ إن الوكالة اشتهرت منذ إنشائها بتجارة الشموع، التى ما زالت قائمة حتى الآن بالمنطقة الأثرية، وتُعتبر جزءاً من المجموعة الأثرية التى تتضمن أيضاً الرَّبع والسبيل.

نائب «الأعلى للآثار»: أحبها المصريون بسبب فعل الخير ولم يتبقَّ من آثارها سوى البوابة الحجرية

ووصف «جمال» شكل الوكالة قديماً، مشيراً إلى أنها تتكون من الطابق الأرضى لعرض البضائع وبعض المخازن، ثم الطابقين الآخرين لاستكمال عرض البضائع ومساكن التجار، موضحاً أنه بفعل الزمن اندثر الكثير من أجزاء الوكالة ولم يتبق منها سوى الواجهة الخارجية وهى البوابة الحجرية المتخذة شكلاً نصف دائرى، وهى الجزء المسجل كأثر ضمن آثار القاهرة الإسلامية، ومن المقرر أن تكون ضمن مشروع ترميم وإعادة تأهيلها، أما عن المحلات الحالية القابعة وراء البوابة الحجرية، فأكد «نائب الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار» أنها ليست تابعة للجزء الأثرى للوكالة.

المصدر: الوطن

كلمات دلالية: الفن التراث التاريخ المجموعة الأثریة

إقرأ أيضاً:

يبقي الخيال واقع حي بتفاصيله في الصور القديمة

يبقي الخيال واقع حي بتفاصيله في الصور القديمة

مقالات مشابهة

  • قصة كنيسة السيدة العذراء الأثرية بالمحرق.. احتضنت العائلة المقدسة 6 أشهر
  • بالخير: جاهزون لانتخابات المجالس البلدية
  • الراجحي: الحركة السنوسية المباركة مازالت تفيض بالخير على ليبيا وأهلها
  • الأعمدة الحجرية الغامضة في كاليفورنيا.. عمرها 760 ألف سنة فما قصتها؟
  • دوللى شاهين لـ«البوابة نيوز»: لبنان يحتاج لدعم واسع والعمل على الأرض.. نور ابنتى هدية من ربنا والعوض الحقيقى.. جمهور «تيك توك» يلهث وراء المشاهدات والمشاعر لم تعد مثل الماضى
  • يد البطش الحوثية تطال ملاك الكسارات الحجرية في هذه المحافظة
  • إقبال غير مسبوق على زيارة المناطق الأثرية والسياحية بالمنيا
  • إقبال كبير على زيارة المناطق الأثرية والسياحية بالمنيا.. شاهد
  • يبقي الخيال واقع حي بتفاصيله في الصور القديمة
  • تكتل الجمهورية القوية طالب اليونسكو بحماية المواقع الأثرية