الحالة الدرامية التى أعقبت مؤتمر تدشين مؤسسة «تكوين الفكر العربي»، حالة لا يمكن وصفها بالتلقائية الفردية أو العفوية الجمعية بداية من نشر صورة تذكارية لزجاجة «بيرة» أمام مؤسسى الكيان، مروراً بعمليات الهجوم الكيفى والنوعى المتبادل بين مؤيدى الإغلاق وباحثى الدعم، والسؤال هنا: لماذا تلك الضجة واسعة الانتشار حول هذا التكوين، علماً بأن فكر مؤسسيها موجود قبل التدشين ولن يُمنع بعده؟!، والسؤال الثانى: هل أصحاب دعاوى غلق هذا الكيان لديهم من المنطق ما يدعم تخوفهم من نشر الإلحاد ومحاربة الدين تحت ستار التجديد والتنوير؟.
أولاً: تهدف «تكوين» إلى تعزيز قيم الحوار البناء ودعم الفكر المستنير، وإرساء قيم العقل والاستنارة وقبول الآخر والإيمان بمبادئ السلام العالمى بين المجتمعات والثقافات والأديان.. تلك الديباجة برقيها الفكرى وسموها الأخلاقى لا يختلف عليها أحد، ولكن من يجب توجيه تلك الدعوة إليه أولاً، نحن أم هذا الآخر متعدد الطوائف والأشكال الممزوجة بالعنصرية الكريهة نحونا؟، نحن أم تلك الشعوب التى تمارس عمليات القتل والإبادة مدفوعة بنصوص مقدسة وصلوات تلمودية؟!، نحن أم هذا الآخر الذى تحرش لفظياً وجسدياً بطالبة جامعية ناعتاً إياها بالإرهاب بسبب ارتدائها الحجاب؟!، أعتقد أن الأولى بتلك الدعوة أولاً وثانياً وعاشراً هو الآخر.
ثانياً: يأتى التنوير وإرساء قيم العقل وبث روح التجديد والإصلاح الذى يعيد للفكر الدينى مكانته اللائقة وتواصله مع مستجدات العصر ومواكبة التقدم على رأس أولويات «تكوين».. فهل التنوير المقصود هنا هو إحياء عصر «التنوير الأوروبي» فى القرن الثامن عشر وفلسفته الرافضة لتجاوز سلطة الكنيسة حدودها، هذا التنوير الرافض لسلطان الدين على الدنيا، رافعاً شعار«لا سلطان على العقل إلا للعقل» و«ما لقيصر لقيصر وما لله لله»، ونزع القداسة عن المقدسات الدينية؟!
إذا كان هذا هو المقصود بـ«التنوير» فإن النتيجة ستكون «تنويراً مادياً غربياً إلحادياً» مثل الذى تبناه «سلامة موسى 1888 - 1958» أحد رواد التنوير عندما قال: ليس يعقل أن يعيش الإنسان آلاف السنين يتعاوره التقدم المادى فى جميع ما يلابسه ويزاوله ثم يبقى الدين جامداً لا يتطور وفق التطور المادى!!.. ستجد المزيد من التفنيد لتلك الدعوات التنويرية فى كتاب الدكتور محمد عمارة «الإسلام بين التنوير والتزوير الصادر عن دار الشروق 1995».
ثالثاً: من خلال مطالعة أولية للموضوعات المقروء منها والمرئى على منصة «تكوين» سنجد دورانها حول جدليات تخص الشأن الإسلامى على شاكلة: متى بدأ تدوين السنة النبوية؟، هل السيرة النبوية صحيحة، هل كل الأحاديث النبوية صحيحة؟، البخارى أم مسلم أيهما أصح؟، هل الخمر حلال شرعاً؟ .. دون الخوض أو الدخول فى قضايا مشابهة تخص أدياناً أخرى مثل: عقيدة الخيانة والذبح المقدس فى التلمود؟، أو لماذا يعبد هؤلاء البقر.. وبأى عقل يقدسون روثه؟! .. هنا ستجد أن تلك الجدليات التى تخص الشأن الإسلامى تطرح تخوفاً منطقياً لدى البعض فحواه: أن هناك عملية منظمة للتشكيك فى هذا الدين، خاصة عندما نعرف أن أول وأكبر مستشرق قام بمحاولة واسعة شاملة للتشكيك فى الحديث النبوى كان المستشرق اليهودى «جولدزيهر 1850 -1921»!
وحسب ما جاء فى كتاب «الاستشراق وتشكيل نظرة الغرب للإسلام» للأستاذ الدكتور محمد عبدالله الشرقاوى أستاذ الفلسفة الإسلامية ومقارنة الأديان نجد أن «فيليب حتى، 1886- 1978»، يرى أن سيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم قد كتبت من الذاكرة بعد وفاة النبى بزمن طويل.. وأن أول كتاب سيرة قد كتب بعد 140 سنة من وفاته، وحتى هذه السيرة فإنها بقيت فى صورة تنقيح ابن هشام الأخير لها فقط، وابن هشام هذا قد توفى فى القاهرة سنة 833 م.
ويؤكد «الشرقاوي» أن بعض رجال المؤسسة الاستشراقية المتجافين عن أبسط قواعد البحث العلمى وأصوله المقررة حاولوا فى همجية منكرة فاضحة التشكيك فى السنة بغية نقضها وهدمها وطمسها، وهى محاولات مأجورة من قِبل رجال التبشير والاستعمار معاً.
رابعاً: نلاحظ من السرد السابق أن من يدعون إلى التجديد ليسوا بمجددين، وأنهم يسيرون حرفاً بحرف وكلمة بكلمة وذراعاً بذراع فى كثير من الجدليات على خطى معسكر المستشرقين وصدى صوتهم، هؤلاء المستشرقون الذين لا يمكن الوثوق فى سلامة أهدافهم أو حسن نواياهم!
الخطير: أن أفكار رواد التنوير والمستشرقين الأوائل كانت محدودة الانتشار، أما التلامذة والأتباع فيعيشون عصر الانتشار السريع، مع إضافة قليل من بهارات الأكشن وتعابير الوجه وكثير من الإيماءات والإيحاءات التى تقول ما لا يُنطق لزيادة جرعة التأثير المطلوب!
الأخطر: أن هذا الجدل وتلك الأفكار سريعة التداول والانتشار وما يقابلها من رفض وشجب قد تعمل على صناعة وتكوين إرهابى بدلاً من محاربة التطرف، لنجد أنفسنا أمام إرهاب فردي يتميز بالعشوائية من قِبل فرد أخذته الحماسة والغيرة على الدين!
فى النهاية.. لست مع دعوات غلق «مؤسسة تكوين»، بل يجب إنشاء كيان مستقل مدعوم بأحدث الوسائل التقنية والمادية والعلمية لمواجهة الأفكار المغلوطة والرد عليها.. هذا والله أعلم
[email protected]
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: أشرف عزب تكوين الفكر العربي
إقرأ أيضاً: