«تشرقُ الشمس من رقابهم»، لا أظن ثمّة صورة أدل من هذه تصف الفلاحين الذين عشنا معهم في طفولتنا وعبأوا خيالنا، الفلاحون المنكبون على مزارعهم برؤوس مائلة نحو الأرض. العروق الدقيقة والأوردة النافرة في الأيدي، الأظفار التي يتكور أسفلها تراب خصب، حبّات العرق التي تتمشى على جباههم وظهورهم، صرامة التجاعيد، الثياب الملطخة بمذاق التعب، دقة الشقوق في باطن الأقدام.
لقد استعدتُ كل هذه الصور بحنين غامض وأنا أقرأ كتاب «بستان الأحجار الكريمة» لحسين المحروس، حيث تتجلى عين المصور الحذق ولغة الكاتب دقيقة الوصف والحساسية الآسرة وهو يخوض تجربة الاقتراب من أربعة فلاحين «أولاد أمينة»، والذين من المرجح أن يكونوا آخر الفلاحين في البحرين.
بدا لي وكأنّ الصورة هاهنا تخوض رهانات جديدة «فمن لم يرَ البساتين، يمكن أن يرى العين التي رأت البساتين»، هكذا يتجاوز هذا الكتاب الوظيفة الجمالية إلى الوظيفة التوثيقية، فبقدر ما راهنا على مغادرة بساتيننا إلى المدن الأسمنتية، يعتملُ فينا شوق حاد تجاه ظلالها وحفيفها وصفرة شمسها السخية.
في قُرانا في منتصف الثمانينيات كان مشهد الفلاح مشهدا أساسيا. هناك حيث نما ركضنا الشاسع مُحاطين بالزرع والفزاعات التي تطاولنا. أشجار الأمبا والليمون البيذام والموز والفيفاي والفرصاد، كانت بمثابة مظلات وارفة تُبعد عنا شبح الحر. قلتُ في نفسي: «إنّ ما عشناه لن يعيشه أبناؤنا، بل لن يشعروا بأي عاطفة تجاه صورة الفلاح الذي يجرح حقله في الصور»، فمن كان يُصدق أنّ النفط والثروة الصناعية ستدفع الفلاح إلى التنحي والزوال، وأنّ الجرافات ستعدم البقع الخضراء على الخريطة!
ورغم صغر سِننا آنذاك، فإننا كنا نُنظم حركة الماء، فنحوله من مصب لآخر، برفع «الصوار» أو إغلاقه. خبراتنا الصغيرة كانت مثار اهتمام أقربائنا القادمين من مسقط. يتعجبون من سرعة جزّنا للحشائش، ومن التعامل اليومي مع حيواناتنا الأليفة، تسلق النخل وشجر الأمبا العالي حيث بنينا بيوتنا الوهمية الأولى، قطف الليمون وقرون الفلفل ومكافأة جدي الثلاث مائة بيسة التي كانت بمثابة ثروة، معرفتنا بأنواع الطيور والحشرات التي تؤذينا ونؤذيها، كما نعرف المواسم وما قد نجنيه من ثمار.
قالوا بأنّهم «أولاد أمينة؟» وكأن من يتصل بالأرض، لا يعيبه اتصاله باسم أمّه البيولوجية أو الأمّ الأكثر شساعة «الأرض». أخذ المحروس يذهب إلى الأخوة الأربعة بشكل مستمر، يتحدث إليهم، يشرب الشاي معهم، يستمع لأغانيهم وقصصهم ونكاتهم، يُراقب بفضول حياتهم الدقيقة وكيف يتعاملون مع الأرض بخبرة فطرية، الأمر الذي جعل الصورة تختزن معنى أكثر مما نظن. لقد تعلموا من الأرض أنّ كل شيء يأتي في موعده. «لا أحد يتحدث، أنت ترى وتتعلم، البستاني يحتاج إلى عينيه».
رفع محروس الكاميرا في وجوه أناس جادين لا وقت لديهم، فأخذت الفوتوغرافيا تضيء الكلمة والكلمة تُعمق المعنى. فهو يضعنا على تماس عميق مع أولاد أمينة «عبدالله، جميل، رسول، حبيب»، أولئك الذين يعرفون مواعيد الغرس بالرائحة لا بالمواقيت، وكيف حولهم نظام التضمين إلى «بدو في البساتين» فهم يغرسون حقولا ليست لهم!
في صور هذا الكتاب، تغدو أيدي الفلاحين التي تحمل الورد أو الثمر كأغصان، وأصابع الأقدام والرُكب المغروسة في الطين كجذور، إذ لا يُميز الناظر جسد الفلاح من جسد حقله، وكأنّ كل واحد منهما امتداد للآخر.
«أوصاني أبي بالتعب، وما التعب؟ النخلة هي التعب..لا أحفظ الشعر ولا الأغاني لا أحفظ غير هذه الوصية؟»، وأظن أنّها ليست وصية خاصة بأولاد أمينة إنّها تخصنا جميعا لأنّنا تركنا حقولنا للموت والتغضن. لقد بتنا نرى ما يحدث ونسمح بحدوثه. فالماء تسحقه الملوحة، والتربة تتدهور خصوبتها، فنرهن الأمر لتغير المناخ، لكننا في العمق نتواطأ، فلم نعد نُعطي حقولنا ما تستحقه من عناية والتفاتة.
الجملة الجارحة في هذا الكتاب، عندما قال أولاد أمينة: «لا نعرض العمل في البستان على أولادنا، أدخلناهم المدارس. وكأننا نعدهم لغير البساتين. نحن آخر الرجال في العائلة الذين يعملون في البساتين؟»، الأمر الذي هيج بداخلي السؤال: إن كان تعليم الأبناء في المدارس يبخص من قيمة العمل في الأرض؟ إن كان كل خريجي أقسام الزراعة لا يستطيعون إنقاذ ثرواتنا؟ إن كانت الدولة لا تضع ثقلها في إصلاح ما عاث به الزمان من خراب، فمن عساه يفعل!
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
أحوال الفلاحين.. طيـن
يعيش الفلاح المصرى وضعاً كارثياً بسبب ارتفاع تكاليف الزراعة من بداية تجهيز الأرض، وشراء التقاوى، وارتفاع أسعار السولار والبنزين، وصولا إلى الارتفاع الجنونى فى أجرة الأيدى العاملة، مما زاد من معاناة الفلاحين، وساعد على تراكم الديون لدى فروع بنك التنمية المحلية، وجعل الفلاح المصرى يلجأ فى بعض الأحيان إلى تأجير أرضه أو بيعها، لعدم قدرته على زراعتها، أو تحقيق ربح يضمن له حياة كريمة، مما يدفعه للسعى وراء مهن أخرى تساعده على سد احتياجاته الحياتية، نرصد فى «الوفد» أحوال الفلاحين بين الماضى والحاضر وتدهور أحواله.
نقص مياه الرى يهدد أراضى الفيوم بالبوار
يندب مزارعى الفيوم حظوظهم عندما يتذكرون الإنتاج الزراعى الوفير الذى كانوا يحصلون عليه من الأراضى الزراعية، مقارنة بهذه الفترة والتى شهدت تدهور أوضاع المزارعين.
وتعد أراضى محافظة الفيوم من أجود الأراضى الزراعية نظرا لخصوبتها العالية وصلاحيتها لزراعة جميع أنواع المحاصيل والخضر والفاكهة ولذلك أطلق عليها واحة مصر الخضراء.
وتأتى أهمية الفيوم الزراعية لعدة أسباب ومنها أن أرضها غنية بطمى النيل الذى غطى أراضيها فى مراحل الفيضانات، وذلك لانخفاض المنسوب فيها عن مستوى سطح البحر وكذلك وجود بحر يوسف أحد أهم روافد نهر النيل والذى يتفرع منه العديد من البحار والترع، كما أن الفيوم تتميز بوجود الأيدى العاملة الماهرة فى مهنة الزراعة والذين يتخطى عددهم مليونى مزارع.
وبالرغم من كل هذه المميزات التى تتمتع بها أرض الفيوم إلا أن هذه الواحة الخضراء مهددة بأن تتحول إلى صحراء جرداء بسبب شح مياه الرى وانعدامها فى غالبية الترع وخاصة فى النهايات، وهو ما ينذر بضياع مساحات واسعة من أجود الأراضى الزراعية، بالإضافة إلى أزمات نقص الأسمدة المتكررة والتى تجعل الفلاح مضطرا إلى الذهاب للسوق السوداء ليكتوى بنار الأسعار بعد وصول سعر شيكارة الأسمدة اليوريا والنترات إلى 1200 جنيه للشيكارة الواحدة، فضلا عن ارتفاع تكاليف الأيدى العاملة والسولار المستخدم فى رى الأرض.
وتمثل مشكلة نقص مياه الرى فى نهايات الترع والمجارى المائية، معاناة كبيرة للمزارعين بعدما تسببت فى إتلاف مساحات واسعة من المحاصيل الزراعية، وخاصة عندما تزامنت مع الارتفاع الشديد فى درجات الحرارة الصيف الماضى وتسببت فى هلاك محاصيل القطن والذرة الشامية والرفيعة، نظرا لعدم التوعية الزراعية وغياب الإرشاد الزراعى عن المشهد وسط الحقول والاكتفاء بتنفيذ ندوات بقاعات المديرية والإدارات تشهد حضور أعضاء الجمعيات الزراعية دون علم المزارعين الذين هم فى حاجة ماسة لمثل هذه الندوات الإرشادية للتعامل مع التغيرات المناخية بشكل أمثل تفاديا لإتلاف المحاصيل الزراعية وضعف الإنتاجية، وهو ما حدث بالفعل خلال الموسم الماضى.
فى البداية يقول خميس سليم، مزارع بمشروع الـ16 ألف فدان على ترعة قوته، إن مياه الصرف الزراعى أثرت على جودة الأراضى الزراعية وتسببت فى إضعاف الإنتاجية، رغم الوعود العديدة بالبدء فى تنفيذ أعمال الصرف بالمنطقة، مناشدا مسئولى الزراعة والرى بالعمل على حل المشكلات التى واجهت المزارعين هذا العام حتى لا تتكرر مستقبلا، من خلال وصول مياه الرى إلى النهايات وصرف الأسمدة المدعمة من الجمعيات الزراعية فى المواعيد المحددة لذلك.
وأضاف على عبدالكريم عبدالله، مزارع 66 سنة، من أهالى قرية الغرق بمركز إطسا، أننا كنا نعتمد على إنتاج الأراضى الزراعية فى القرن الماضى، لبناء المنازل وزواج الأبناء وشراء كافة الاحتياجات الأساسية، والآن أصبحنا غير قادرين على الحصول على تكاليف الإنتاج، وهجر الشباب الأراضى الزراعية إلى الدول العربية بحثا عن لقمة العيش بل أصبحوا يرسلون إلينا الأموال للمساعدة فى تكاليف إنتاج المحاصيل بسبب الارتفاع الجنونى فى أسعار الأسمدة والمبيدات والتقاوى، وكذا أعمال تجهيز الأرض للزراعة والأيدى العاملة، مشيرا إلى أن إتلاف محصول الطماطم تسبب فى ارتفاع الأسعار ووصول سعر الكيلو الواحد إلى 40 جنيها، وعندما بدأت العروة الجديدة فى الإنتاج استقرت الأسعار وعاد سعر الكيلو إلى 8 جنيهات، وهذا ما حدث مع البصل والثوم، ونناشد مسئولى وزارة الزراعة بتوفير مستلزمات الإنتاج ونزول المرشد الزراعى وسط الحقول لمتابعة الزراعات على الطبيعة وتقديم النصائح للمزارعين.
فلاحو الإسماعيلية.. ديون بنوك التنمية الزراعية تخنقنا
تحدث الفلاح الفصيح ياسر دهشان نقيب الفلاحين بمركز ومدينة أبوصوير بالإسماعيلية قائلا: عند صدور قانون الإصلاح الزراعى بعد ثورة 23 يوليو عام 1952، بهدف تحقيق العدالة والفلاحين والطبقة الكادحة المهمشة، وتفعيل مبدأ القضاء على الإقطاع، وهو أحد مبادئ الثورة الستة، تملك عددا كبيرا من المزارعين أراضى زراعية تابعة للإصلاح الزراعى بالإسماعيلية وأصبح الكل يعمل وينتج، ومن تلك الزراعات يأكل ويشرب وكانت الأسعار رخيصة، ناهيك عن الأسمدة الزراعية المدعمة، واشتهر الأهالى بالرى بالطنبوشة واستخدام النورج والآلات البدائية التى لا تكلف الفلاح.
أما الآن تكلفة الزراعة مرتفعة، وبالنسبة للرى لابد من ماكينة رى واستخدام السولار والبنزين، كما انعدم الدعم على مستلزمات الزراعة، حيث أن فدان الطماطم كانت تكلفته 500 جنيه، أما الآن تكلفة زراعة الفدان فتصل لأكثر من 100 ألف جنيه ناهيك عن ارتفاع سعر العمالة، حيث وصلت أجر العامل الآن 250 جنيه يومياً.
أصبحت الزراعة الآن تعود بالخسارة على الفلاح والديون، ولا يستطيع زراعة أرضه فيقوم بتأجيرها بسبب عجزه عن تكلفة الزراعة، ويفضل أنه يعمل باليومية وأجيرا لدى الآخرين.
ويروى ياسر دهشان المحامى لـ«الوفد» تجربته بوصفه شابا من قرية أبودهشان بمحافظة الإسماعيلية قرر قبل عشرين عاماً التحول عن مجاله فى مهنة المحاماة ليمسك الفأس والمنجل وغيرها من الأدوات اللازمة للفلاح لحبه للأرض التى ورثها عن والده وأجداده، لكن تأتى الرياح بما لا تشتهى السفن، حيث تراكمت الديون وارتفعت التكاليف الزراعية فى كل شىء بداية من حرث الأرض وريها والتقاوى والأسمدة التى ارتفعت أسعارها بشكل مبالغ فيه دون رقابة أو تفتيش من جانب الحكومة، حيث إنه لا يوجد أسمدة داخل الجمعيات الزراعية رغم تواجدها لدى التجار، مما يدل على غياب تام للرقابة والتهاون الواضح فى حق الفلاح المصرى والعمل على وصوله إلى هجر أرضه والسعى وراء مهنة أخرى يسد منها احتياجاته الحياتية، بعدما حاصرته الديون وتركته الحكومة فريسة لهم.
«البنك الزراعى» يدعم مزارعى القصب بـ2٫9 مليار جنيه
أكد البنك الزراعى المصرى أن إجمالى محفظة قروض قصب السكر حتى 31 أكتوبر الماضى بلغ نحو 2٫9 مليار جنيه استفاد منها آلاف المزارعين.
وقال البنك الزراعى إنه فى إطار دعم ومساندة صغار الفلاحين لتحقيق التنمية الزراعية وتحسين مستوى المعيشة، يقوم البنك بتقديم السلف الزراعية بنظام الزراعة التعاقدية بفائدة مخفضة 5٪، لمزارعى القصب بقيمة 43 ألف جنيه للفدان بشرط التزام المزارعين بتوريد المحصول إلى مصانع السكر بهدف توفير الإنتاج المحلى من تلك السلعة الاستراتيجية، وفى المقابل تبلغ القيمة التسليفية لقصب السكر «غير التعاقدى» 21 ألف جنيه للفدان دون التقيد بتوريد المحصول لأى جهة على أن يتم السداد بعد الحصاد والبيع.
وأوضح البنك أنه قد تلاحظ خلال الآونة الأخيرة تخلف بعض المزارعين من الحاصلين على سلع زراعية تعاقدية عن توريد محصول القصب أو جزء منه إلى مصانع السكر بالمخالفة لما هو متفق عليه مع البنك، وبالتالى تم التوجيه بأن شرط صرف القرض الزراعى لقصب السكر بالفئة التسليفية التعاقدية 43 ألف جنيه هو التوريد لمصانع السكر ومن لم يلتزم من العملاء تتم محاسبته بقيمة قرض التمويل بسعر الفائدة العادى.
ولفت البنك إلى أنه يعمل دائما من أجل مصلحة المزارعين لتحسين مستوى معيشتهم وبالتالى تتم مضاعفة قيمة السلف الزراعية لمواجهة الارتفاع الكبير فى تكاليف مدخلات الإنتاج.