أمل محمد الحسن

لا أستطيع أن أمنع نفسي من الغوص في ذلك الجسد المنهك! كلما سمعت بقصة تعذيب إنسان. كأن روحي تسكن في جسد من تم تعذيبه، أكاد أشعر بالألم والعجز والخوار الذي يلم ببدنه!.

أرى كيف تثور روحه بشموخ أحيانا، وتنكسر وتستسلم في أحايين أخرى، ويكون الموت آخر شيء يقلق بشأنه؛ لأنه يراه وهو يحوم بين جسده وروحه؛ في روائح الدم الذي ينزل في الحلق والألم المتدفق الذي لا يكاد يغيب حتى ينعشه الجلادون، أغرق في ذاته، وأرى كيف تنهشه عباراتهم القذرة أكثر من ضربهم! هم يضطرون لبذل كثير من السباب ليبرروا لأنفسهم تلك الفعلة الشنيعة التي تبعدهم من مصاف البشر! يحتاجون إلى سبه وتحقيره واستفزازه ليقوم بأقل حركة واهنة أو حتى نظرة عين متحدية تبعث في دواخلهم قدرة على الاستمرار!

لا أعرف السبب الذي يجعلني أفكر في كل من تعرض للتعذيب بهذا العمق، وتلك الكثافة ربما كان لرواية “الطاهر بن جلون” التي حملت عنوان “تلك العتمة الباهرة” يدا في وضعي داخل الزنازين المحكمة الإغلاق، ومن ثم مضاعفة هواجسي وخوفي على كل من يوضع فيها!

منذ مقتل الأستاذ المحامي صلاح الطيب، رئيس دائرة (24) القرشي بحزب المؤتمر السوداني، ونومي قلق! أعيد تفاصيل متوهمة حول ما جرى له من تعذيب لم أكن شاهدة عليه، حتى وهنت روحي! لا أنظر مطلقا لوجه الجاني، ذلك الذي يقوم بهذه الفعلة الشنيعة في مواجهة أعزل لا حول ولا قوة له.

. لا أستطيع أن أدير وجهي قبالته حتى لا أنظر لجهنم التي ترتسم في ملامحه، فمن يستطيع أن يمنح الألم لإنسان آخر بدون توقف هو ليس بشريا مثل بقية الناس! خلع البزة الإنسانية عندما انخرط في هذه الممارسات الوحشية، ولن يكون قادرا على العودة إلى إنسانيته مجددا هي بزة تخلع، لكنها لن تكون صالحة للارتداء مرة أخرى!

“الطاهر بن جلون” أبدع في روايته في سرد التفاصيل الدقيقة عن حياة مسجونين منسيين في سجن سري تحت الأرض، لكن الخطير في هذه الرواية أنها استندت على قصص حقيقية الأمر الذي زاد تفاعلي مع من يتعرضون للتعذيب كأنما هم يحتاجون للسان يَقوى على سرد تلك المعاناة بالإنابة عنهم. أما عندما يموت من يتعرض للتعذيب، فإن روايته لا تكون موجودة، تدفن مع جسده الذي لم يشهد شخص محايد ما حدث له، وتبقى قصة مبتورة وشائهة من وجهة نظر السجانين وبعض سطور يخطها الطبيب الشرعي لا تكاد تقول شيئا عن شعوره بطول زمن الثواني وثقلها تحت التعذيب، عن الأوجاع والآلام الرهيبة في الجسد والروح، عن القلق القاتل على من هم في الخارج يريد أن يطمئنهم عليه حتى وهو في تلك الحالة!

كم مرة فكر في مولوده الجديد وزوجته التي ما زالت عروسا! كان يريد أن يخرج ليفضح كل تلك الممارسات الخارجة عن القانون وهو المحامي، يا ترى هل خطرت في باله أفكارا حول تطوير القانون الجنائي بإضافة مواد متعلقة بحظر التعذيب؟ لكن قتله التعذيب والقلق والحزن والانكسار!

لا يجب النظر إلى جريمة التعذيب على أنها شيء عادي مثل الاختطاف أو الحجز أو حتى القتل! لا بد من التمعن فيما يحدث في أثناء التعذيب، كيف يجرد الإنسان من آدميته في الاتجاهين، لا بد من التمعن حول المجتمع الذي نريد أن نعيش فيه وضرورة ألا يكون فيه هؤلاء الوحوش يسيرون وسطنا وهم على استعداد لانتهاك حقوق الإنسان التي نصت عليها الشريعة والإنسانية والقوانين بلا تردد ولا حتى شعور بالخزي والندم.

جريمة قتل المحامي ردة هائلة في منظومة الحقوق، وفي احترام الإنسانية، وفي حرمة الروح المسلمة التي حرمتها أكبر من حرمة بيت الله المقدس!

كأنما 15 أبريل أعادت عقارب التاريخ إلى يونيو 1989 عندما أطلق نظام البشير يد الأجهزة الأمنية في التعذيب تلك التي غرست مسمارا في رأس طبيب في بداياته، وانتهى بتعذيب معلم واغتصابه حتى الموت! وبينهما 30 عاما من الانتهاكات في كل السودان وبيوت أشباح في كل السودان والكثير من القصص المؤلمة التي لم تُحكى بعد؛ مرتكبيها أحرار يعيشون ويتنفسون ومستعدون للعودة إلى ذات الممارسات؛ لأنهم لم يحاسبوا يوما على تلك الجرائم الخطيرة. مقتل صلاح بتلك الطريقة المتوحشة اللا إنسانية يؤكد عودتنا إلى ذلك العهد بكل ظلاماته وانتهاكاته وعدم تقديسه للحرمات ومجافاته لكل ما هو إنساني وأخلاقي!

ماذا كان شكل النظام الذي سمح بهكذا تعذيب وممارسات بربرية؟ كان نظاما فاشيا ديكتاتوريا تسلط على رقاب الشعب أفسد وأفسد حتى تهالك جسد الدولة، وما عاد قادرا على الصمود!

بالطبع أغفل القانون الجنائي عن ذكر هذه الجرائم بحسب المحامي “عبد الباسط الحاج” الذي أكد لي أن حكومة الفترة الانتقالية وقعت وصادقت على الاتفاقية الدولية لحظر التعذيب، والتي تلزم الدولة باتخاذ كافة التدابير لمنع تلك الممارسات من رجال القانون، وتمنع الدولة منعا باتا من استخدام التعذيب كطريقة لاستخلاص المعلومات أو لأي سبب آخر وتحت أي ظرف من الظروف بما فيها حالات الحرب!

حتى بالنسبة للأسرى من العدو لا يجوز ممارسة التعذيب، وتحميهم اتفاقية جنيف التي تجبر الجيوش على احترام حقوق الأسير بما فيها عدم تعرضه للسب والشتم والإهانة! فما بالك بالتعذيب حتى الموت! فكيف تمارس تلك الانتهاكات في مدني كل ما يحمله هو قلم وكلمة؟!

وأكد القانوني “الحاج” أن الوثيقة الدستورية التي بشكل ما يعتمد عليها النظام الحاكم الآن، على الرغم من انقلابه عليها في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ أكدت التزامها بكافة الاتفاقيات الدولية.

لا أعتقد أن “البرهان” الذي أصبح رئيسا للبلاد تحت سلطة الأمر الواقع؛ يهتم بترك إرث أخلاقي يشار إليه فيه بأنه أقام الحقوق القانونية، وأنصف الناس وهو من يمنع المساعدات الإنسانية للوصول لمناطق سيطرة الدعم السريع!

ولا أعتقد أن النيابة العامة التي تمنح نفسها حقاً فتح بلاغات في الصحفيين والمدنيين والسياسيين وتجريم مجهوداتهم لوقف الحرب يمكن أن يكون همها فعل الصواب، ولو من باب التغيير! وتقوم بفتح تحقيق شفاف ومعلن تحاسب عبره مرتكبي هذه الفعلة الشنيعة، وكل من حرض عليها، ومنح فيها الأذن.

لكن كما كانت هتافات الثورة تصدح بعبارة “الردة مستحيلة” سيكافح الشرفاء والشريفات من أبناء وبنات الشعب السوداني ضد هذه الظلامات التي تسلب المجتمع المدني كل حقوقه، ولن يهدأ لهم ولهن بال إلا بتحقيق العدالة لكل من تعرض لهذه الجريمة الوحشية البشعة ممزوعة الوجه الإنساني!

الوسومأمل محمد الحسن

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

إقرأ أيضاً:

اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت

اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت

بقلم د. مصطفى يوسف #اللداوي

أيها السادة في كل مكان، أيها العالم الحر وبني الإنسان، يا أصحاب الضمائر الحية والنفوس الأبية، ويا #دعاة_الحرية و #حقوق_الإنسان، أيها المنادون بالكرامة و #العدل و #المساواة، أيها المتحضرون المتمدنون، الحداثيون العصريون، يا من تدعون أنكم بشراً وترفضون بينكم شرعة الغاب وحياة الضواري والوحوش البرية، يا أصحاب القلوب الرحيمة والأحاسيس المرهفة، أيها الرقيقون العاطفيون، البكاؤون اللطيفون، ألا ترون ما يجري حولكم وما يدور في محيطكم، ألكم آذانٌ تسمعون بها، وعيونٌ ترون بها، وقلوب تعون بها، أم على قلوبٍ أقفالها، وقد طمست عيونكم وختم على قلوبكم وصمت آذانكم، فلم تعودوا ترون وتسمعون، وتشعرون وتعقلون.

إن غزة تدمر وأهلها يقتلون، وشعبها يباد، والحياة فيها تعدم، والأمل فيها يموت، ولا شيء فيها أصبح صالحاً للحياة أو ينفع للبقاء، إنهم يقتلون من قتلوا، وينبشون قبور من دفنوا، ويعيدون زهق الأرواح التي خنقوا والنفوس التي أفنوا، ويفجرون الأرض تحت أقدامهم، ويشعلون النار فيهم ومن حولهم، يقصفونهم بأعتى الصواريخ وأكثرها فتكاً فتتطاير في السماء أجسادهم وتتفرق على الأرض أشلاؤهم، ويدفنون أحياءهم تحت الأرض، ويهيلون عليهم الرمال بجرافاتهم ويحكمون عليهم بالموت خنقاً، والعالم يرى ويسمع، لكنه يصمت ويسكت، ولا يحرك ساكناً ولا يستنكر سياسةً أو يشجب عملاً.

مقالات ذات صلة نور على نور 2025/04/06

الأنفاس في غزة باتت معدودة ومحدودة، وهي تخنق وتزهق، ويقتل من بقي فيها يقف على قدميه ويتنفس، وباتت أعداد أهلها تقل وأسماؤهم من سجلاتها المدنية تشطب، إنهم لا يريدون لنا الحياة، ولا يتمنون لنا البقاء، وهم عملاً بتوراتهم يعملون السيف فينا ويثخنون فينا ويقتلوننا، ويحرقون أرضنا ويقتلون أطفالنا، ولا يستثنون من آلة القتل حيواناتنا، ويعدون بحثاً عن أحياء بيننا أو ممن نجا من قصفهم فيغيرون عليهم من جديد، أملاً في قتل من بقي، والإجهاز على من أصيب من قبل وجرح.

أيها الناس …. عرباً ومسلمين، مسيحيين وبوذيين، مؤمنين ووثنيين، ألا من ناصرٍ ينصرنا، ألا من حرٍ يكرُ معنا، ألا من غيورٍ يغضب لنا، ألا من أصواتٍ ترتفع لأجلنا، وتصرخ في وجه إسرائيل وأمريكا معنا، ألا ترون أن إسرائيل تجرم وتبالغ في إجرامها، وتنهك كل القوانين وتخرق كل الأعراف ولا تخاف من بطش أو ردعٍ، فالولايات المتحدة الأمريكية، راعية الظلم والإرهاب في العالم، تقف معها وتؤيدها، وتنصرها وتناصرها، وتمدها بالسلاح والعتاد، وتدافع عنها بالقوة وتقاتل معها بالحديد والنار.

أيها العرب أين عروبتكم وأين نخوتكم، أين قيمكم وأين هي أصالتكم، أينكم من ضادٍ مع فلسطين تجمعكم، ولسانٍ يوحدكم، وأينكم من أرضٍ بهم تقلكم وسماءٍ تظلكم، ألا تغضبون لما يتعرض له أهلكم في قطاع غزة خاصةً وفي فلسطين عامةً، ألا ترفعون الصوت عالياً ليحترمكم العالم ويحسب حسابكم، ألا ترون أنكم تفقدون احترامكم وتخسرون مكانتكم، ولا يبقى من يقدركم ويحفظ مقامكم، فإن من يهون يسهل الهوان عليه، ومن يعز نفسه ويكرم أهله يصعب على غيره أن يذله وعلى عدوٍ أن يهينه.

أيها المسلمون أين هي عقيدتكم مما يجري لنا ويلحق بنا، ألا تقرأون كتاب ربكم وتعقلون قرآنكم الذي يقول بأنكم رحماء بينكم، وأشداء على عدوكم، أما سمعتم قول رسولكم الكريم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أنه إذا أصيب منكم عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فأين أنتم أيها المسلمون مما نتعرض له في غزة وفلسطين من مذابح ومجازر وحروب إبادة، ألا تعلمون أن التاريخ لن يرحمكم ولن ينساكم، وأنه سيكون سبةً في جبينكم وعاراً يلاحقكم ويلوث صفائحكم، وأن اللعنة التي لاحقت ملوك الطوائف ستلاحقهم، وما أصابهم سيصيبكم.

أيها العالم المشغول بحروب التجارة وقوانين الاقتصاد ورسوم ترامب الجمركية، ألا ترون الدماء التي تسفك، والأرواح البريئة التي تزهق، والأطفال الذين يقتلون، والنساء التي تحرق، والأجساد التي تتطاير، ألا تسمعون عن الحصار المفروض على ملايين الفلسطينيين في قطاع غزة، وعن جوعهم وعطشهم، وفقرهم وعوزهم، ومرضهم وشكواهم، ومعاناتهم وألمهم، ألا تسمعون بغزة وما يجري بها ولها، وما أصاب أهلها ولحق بسكانها، ألا ترون مشاهد الأرض المحروقة، والبيوت المدمرة، والشوارع المحروثة، والكلاب الضالة التي تنهش أجساد الشهداء، وتخرج من جوف الأرض بقايا أجسامهم.

أيها البشر إن كنتم بشراً ألا تثورون للعدل، ألا تنتفضون للقيم الإنسانية والمعاني السماوية، فهذه إسرائيل تقتل بصمتكم، وتقتلنا بعجزكم، وتبيدنا بأسلحتكم، وتتبجح بتأييدكم، وهي ماضية في جرائمها، ومستمرة في عدوانها، ولا تخشى من عقاب، ولا تقلق من سؤال، فهل تتركونها تمضي في جريمتها التي لا مثيل لها في التاريخ، ولا ما يشبهها في البلاد، ألا تنتصرون لضعفنا، وتهبون لنجدتنا، وتعترضون على قتلنا، وتقفون في وجه عدونا، وتصدون آلته العسكرية، الأمريكية والأوروبية، وتمنعونه من قتل الأبرياء وإبادة الشعب، وترفضون سياساته وأمريكا الداعية إلى طردهم وإخراجهم من أرضهم، وحرمانهم من حقوقهم في وطنهم وبلادهم.

بيروت في 6/4/2025

moustafa.leddawi@gmail.com

مقالات مشابهة

  • ما الذي تخشاه واشنطن من “العين الصينية” في “البحر الأحمر”..!
  • “الفاف” تُنصف الأندية التي سددت ديونها في الآجال المُحددة
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • “دقلو” يبدو أن الزهللة التي يعيشها أنسته أنه هاجم من داخل العاصمة ولم يتمكن من الاحتفاظ بها
  • آرني سلوت يكشف سر عدم سعادة محمد صلاح مع “الريدز” مؤخرا
  • قصة أيوب لحميدي لاعب “منتخب جبل طارق” الذي هزم الرجاء في كأس العرش
  • ما هي خطة “الأصابع الخمسة” التي تسعى دولة الاحتلال لتطبيقها في غزة؟
  • معرض “وجوه من بلدي”.. حكايا إنسانية ترسم باللون والضوء
  • فضيحة “الدرونز” التي كشفت مشاركة فرنسا في إبادة غزة
  • أحمد مالك يكشف سر “ولاد الشمس” وحلمه الذي تحقق