وثقت رسامة الكاريكاتير الفلسطينية أمية جحا في يومياتها ذات الأجزاء العشرة التي تنشرها الجزيرة نت، الأوضاع الإنسانية القاسية التي تدور أحداثها خلال الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لا سيما محيط مستشفى الشفاء، الذي وصفته منظمة الصحة العالمية في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في تقريرها الدوري بأنه "منطقة موت".

بين يديك عزيزي القارئ الحلقة السابعة من اليوميات، التي تنشر تباعا على مدى الأيام المقبلة وتروي فيها سيدة فلسطينية من حي النصر، برج زغبر بمدينة غزة، ما شاهدته من أحداث، وقد نزحت إلى مستشفى الشفاء بغزة (حتى آخر تواصل معها قبل اقتحام المستشفى للمرة الثانية يوم الـ18 مارس/آذار 2024)، وافترشت بلاط المستشفى البارد في انتظار النجاة.

الجمعة الثالث من نوفمبر/تشرين الأول

كان مساء الجمعة، من أسوأ المساءات التي مرت بالعنبر، إذ وفد عشرات النازحين، من إحدى مدارس مخيم الشاطئ، وكانت قد تعرضت للقصف، ففر نازحوها إلى جهات أخرى، بحثا عن الأمان. فضلا عن تهديد الاحتلال لأهالي المخيم بضرورة إخلائه.

ورغم تكدس النازحين في العنبر، فإننا طولبنا باستيعاب النازحين الجدد، مما أثار المشاكل مع الإدارة، والاشتباك اللفظي بين النازحين أنفسهم. لأنه ببساطة لا يوجد بالكاد متسع لأطراف أصابع أقدامنا، لنجتاز أكوام النازحين، من أجل الوصول إلى الحمامات. مما اضطر الجدد في النهاية، إما للبحث عن أماكن أخرى، أو التقوقع في الممرات الضيقة.

إدارة المشفى، وفي قرابة الخامسة مساء، وعبر مكبرات الصوت، أعلنت أنه في الساعة الثامنة مساء، ستتوقف الكهرباء تماما في كل العنابر. مما أثار حالة من الهرج والمرج، صار الجميع يبحث عن شواحن الجوالات، وآخرون توجهوا للحمامات لقضاء حاجتهم، وحاجة أطفالهم، وآخرون قاموا بإطعام أطفالهم ما توفر من بقايا الخبز.

أما ثائرة، فقد قررت دخول معركة أخرى، ولكن ليس مع نازحين آخرين، بل معركة مع الوقت. إذ قامت بسرعة البرق بعجن كمية قليلة من الطحين لعائلتها، التي لم تتمكن من شراء الخبز طيلة اليوم، ونجحت في خبزها من خلال طنجرة خبز كهربية، خاصة بإحدى العائلات الأخرى، قبل انقطاع الكهرباء. وهكذا فعل العديد من النازحين.

ما أقسى أن تشاهد أطفالا آخرين، ينظرون بشهوة لرغيف خبز ساخن، أو كوب من الأندومي في يد أطفال آخرين. أهل غزة كرماء بطبيعتهم، ولكن طبيعة الظرف أصبحت صعبة ومعقدة للغاية، في ظل حرب الإبادة والتجويع التي يشنها الاحتلال على سكان القطاع، فالعائلة الواحدة تستطيع بصعوبة بالغة، توفير الخبز القليل، الذي لا يكفيها أصلا. والعنبر المكدس بعشرات الأطفال، لا يسمح البتة أن تكون كريماً مع أحدهم دون الآخرين.

ثمن الخضروات والسلع الأساسية، والمعلبات والأندومي، يرتفع كل يوم، فالحرب والحصار المطبق على القطاع، يحول دون استيراد أي بضائع، فضلاً عن إغلاق الأسواق و"المولات" التي كانت تنتشر بكثرة. كان الباعة المتجولون يصعدون إلى طوابق المشفى يبيعون للنازحين بعض السلع الضرورية، وأغلب الباعة كانوا من الأطفال. مؤسفٌ أن يكون مكانهم ساحات المشافي والشوارع لا المدارس وساحات العلم.

أنا اليوم لم أتناول إلا كسرة من الخبز، الذي تم شراؤه قبل يومين، كانت سهلة التفتيت. فالجو حار، مما يجعله عرضة للتعفن. هذا النوع من الخبز كنت أطعمه لدجاجاتي. دهنت كسرة الخبز بقليل من مربى الفراولة، لا لشيء، إلا رغبة في تفادي الحاجة للحمام. الصغار هنا تمردوا على مربى الفراولة وجبنة الفيتا. لقد تناولوا ظهيرة اليوم أرزاً، مطبوخا بمرقة ماجي. كانت وجبة شهية جدا بنظرهم، لم يسألوا عن قطعة لحم، لأنهم يعلمون باستحالة توفرها أصلا.

الأسواق والمولات مغلقة تماما. وعشرات المخابز تم قصفها، أو تم تهديدها، ومنها ما نفد به السولار اللازم للأفران الأوتوماتيكية، مما اضطرها للإغلاق. يأتي الرجال لعائلاتهم في العنبر، بعد الثامنة صباحا. يأتونهم بالطعام والحاجيات وبعض المشروبات. أحيانا ينامون على فراش أولادهم في العنبر لسويعات، لأنهم يتفادون النوم ليلا في ساحات المشفى، خشية قصف مباغت من طائرات الاحتلال، ولكنهم يجب أن يغادروا العنابر قبيل الثامنة مساء، ثم يعودوا للمبيت في ساحة المشفى الخارجية في العراء.

أصوات القصف في ساحة المشفى أقوى وأعمق من صوتها داخل العنابر، هكذا يقول الرجال. لذلك يفتقدون طعم النوم.

عندما يأتي الأب أسرته، يتحلق الصغار بسعادة حوله، لأنّهم يعلمون أنه جاء حاملا معه الطعام والشراب وإن قل.

كان الطفل الصغير أحمد يرمق هؤلاء الأطفال بحسرةٍ وبؤس. فأبوه الشاب اليافع قد استشهد قبل شهر ونصف، أحمد له أخ وأخت، وسرعان ما ينتفض حاضناً أمه، إذا وجدها تبكي مستذكرة زوجها.

قطة صغيرة دخلت العنبر قبيل أذان المغرب، جعلت الأطفال يتجمهرون حولها، كانت تبدو عليها شدة الجوع وربما العطش، كانت تسرع نحو سلات القمامة تشتم روائح ما تبقى من طعام النازحين، كانت تلتقط بلسانها حتى بقايا الأرز.

أشرت إلى أختي أن تسكب في صحن صغير من رضّاعة الحليب الخاصة بطفلها، تذمرت بالبداية، فالحليب بات شحيحا أيضا، ثم قبلت رجاء أن يفرج الله الكرب، وتنتهي هذه الحرب.

لم تترك القطة الصغيرة نقطة حليب في الصحن، ثم قذف أحمد ابن الشهيد بقطعة من رغيف الخبز الصغير الخاص به إليها، فأخذت تأكلها بنهَم شديد، فيما كان الصغار يتحلقون حولها ويحملقون بحركاتها وسكناتها.

أطفئت الأنوار تماما في المشفى، قبل الثامنة بربع ساعة. ساد صمتٌ لحظيٌ مفاجئ تلاه تصفيق وتصفير الصغار. ما أقسى لحظات فرح الأطفال في ظرفٍ يستدعي البكاء..

أسندت رأسي تجاه الشباك الفسيح، المطل على السماء، وفي الأفق أمامي عشرات الفوانيس المضيئة، التي تنذر بليلة ساخنة جديدة، وفي الخلفية عشرات الأصوات المتداخلة من بكاء أطفال، وأحاديث متبادلة، ومن مشادات كلامية. أغمضتُ عيني رغماً عني، راجية الخروج من هذا الكابوس الطويل..

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: ترجمات حريات

إقرأ أيضاً:

المغاربة المطرودين قسراً من الجزائر يطالبون بالإعتذار وجبر الضرر

زنقة 20 ا الرباط

جدد المغاربة الذين تم ترحيلهم قسرا من الجزائر وفصلهم عن أسرهم وعائلاتهم ومصادرة ممتلكاتهم بصفة غير قانونية بمطالبة السلطات الجزائرية بتقديم اعتذارا رسمي على الانتهاكات الجسيمة التي ارتكبتها قبل 49 سنة في حقهم، مع جبر الأضرار الفردية والجماعية.

وطالب التجمع الدولي لدعم العائلات ذات الأصل المغربي المطرودة من الجزائر 1975 في بلاغ له بالتأكيد على ضرورة مواصلة الجهود لحفظ ذاكرة هذا الحدث مع توفير الإمكانيات الكفيلة بإنجاح هذه المبادرة التي ستعرف على مدار سنة 2025، تنظيم عدة أنشطة وفعاليات.

وعبّر الأعضاء المجتمعون عن تجندهم الدائم واستعدادهم التام لبذل كافة الجهود لإنجاح هذه الذكرى، منوهين بالجهات التي أعلنت انخراطها ودعمها لهذه المبادرة التي يندرج تنظيمها في إطار البرامج العامة للتجمع الدولي الهادفة بالخصوص للترافع أمام الهيئات الوطنية والدولية، والدفاع عن مصالح المغاربة المطرودين من الجزائر.

يشار إلى أن التجمع الدولي لدعم العائلات المغربية المطرودة من الجزائر سنة 1975، الذي تأسس في 27 فبراير 2021، هو منظمة دولية غير حكومية، يهدف إلى الترافع لاسترجاع الممتلكات التي صادرتها الدولة الجزائرية بشكل غير قانوني، والتعويض المادي والمعنوي لفائدة الضحايا وذوى الحقوق عن الأضرار التي لحقت بهم، بسبب الطرد الجماعي التعسفي، وتيسير لم شمل العائلات المغربية مع تلك التي مازالت مستقرة بالجزائر.

مقالات مشابهة

  • ربنا يرحمه.. نهال عنبر تنعى ملك جمال الأردن
  • محافظة مطروح: نستهدف محو أمية مُستفيدي «تكافل وكرامة»
  • محافظة مرسى مطروح تطلق مبادرة بعنوان "مطروح بلا أمية"
  • المغاربة المطرودين قسراً من الجزائر يطالبون بالإعتذار وجبر الضرر
  • دراسة يابانية لتقليل مخاطر أمراض المواليد منخفضي الوزن
  • كثير من الأشواك قليل من القرنفل.. يوميات معتقل (14)
  • تسجيل 13 مليون حالة ولادة مبكرة في عام 2020.. الصحة العالمية: الرعاية العالية للطفل قد تحميه من المخاطر.. وطبيب: مشكلة المبتسرين تكمن في عدم اكتمال نمو رئة الجنين
  • حسام زكي: مصر أجهضت مخطط إسرائيل لتهجير الفلسطينيين قسرا
  • فاجعة في الهند.. مصرع 10 أطفال حديثي الولادة في حريق مستشفى
  • زيادة في تشوهات القلب لدى حديثي الولادة بعد كورونا