الحرية الأكاديمية وتطلعات المجتمع
تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT
تنطلق الحرية الأكاديمية أساسا من حقوق الإنسان المتأصلة في التعليم والتعلُّم واكتساب المعارف، فمنذ اتفاقية اليونسكو المناهضة للتمييز في التعليم في العام 1960، اكتسب حق التعليم قانونية شرعية، ورغم أن المصطلح تم استخدامه للمرة الأولى في عام 1915، وعُقد أول مؤتمر للحُرية الأكاديمية في عام 1925 في الولايات المتحدة، إلاَّ أنه لا توجد إلى الآن حسب الأدبيات المتوفرة وثيقة متكاملة للحُرية الأكاديمية، سوى تلك المواثيق التي أطلقتها بعض المؤتمرات والاجتماعات الدولية التي تُحدِّد المفهوم والواجبات؛ بدءا من مؤتمر سيينا الذي عقدته الرابطة الدولية لأساتذة ومحاضري الجامعات في عام 1982، وليس انتهاءً بالمؤتمر العلمي الثاني للحُريات الأكاديمية في الجامعات العربية، الذي نظمه مركز عمَّان لدراسات حقوق الإنسان بالتعاون مع مجموعة من المؤسسات الأكاديمية العربية وجامعة الأمم المتحدة في عام 2008.
ولعل تلك المساهمات التي حاولت تعقيد مفاهيم تلك الحُرية وقدرتها على إحداث تغيير وأثر ذلك على المستوى الأكاديمي، وإمكانات الدعم الذي يمكن أن تقدمه المؤسسات الأكاديمية من خلال تنشئة أجيال قادرة على التعبير عن رأيها بما يخدم مجتمعها ومدى مساهمته الفاعلة في المؤسسات المدنية الداعمة للأهداف الوطنية، ولذلك فإن تعريف الحُرية الأكاديمية - حسب إعلان ليما الصادر في عام 1988 - بأنها تلك الحُرية التي يكتسبها الأكاديمي من خلال «التدريس والبحث والنشر والتحدُّث» ضمن الأوساط الأكاديمية، لا يعني الأستاذ الجامعي وحده بل أيضا المتعلِّم الذي يحق له تلك الحُرية وفق السياسات الأكاديمية المتاحة.
إن هذه الحُرية تستوجب إيجاد البيئة المناسبة للممارسة، وهي بيئة ممكِّنة للأكاديميين والطلاب معا، فكلاهما يستطيع أن يتحدث ويكتب وينشر بحُرية ضمن السياسات التي يحددها القانون وكلما كانت تلك الحُرية أوسع آفاقا كلما استطاع كلاهما التعبير عن رأيه والمشاركة بشكل أكثر انفتاحا، ولهذا فإن الحُرية الأكاديمية وفق تلك المفاهيم تتعلَّق بقدرة المؤسسات الأكاديمية نفسها على تهيئة البيئة المناسبة وضمان ممارسة الحقوق المتعلِّقة بها ضمن منظور منفتح، يهدف إلى تطوير مفاهيم الحُرية وإيجاد أجيال قادرة على البحث والنشر والتعبير عن الرأي وطرح التساؤلات الجادة.
وعليه فإننا لو نظرنا إلى الحُرية الأكاديمية من منظور حقوق الإنسان بشكل عام، سنجد أنها تطوُّر أساسي لتلك الممارسات التي تحفِّز على العطاء البحثي والقدرة على الإبداع من ناحية، وتدريب فعلي للمنتسبين لمؤسسات الأكاديمية على حُرية الرأي التي تنطلق من الوظائف الفكرية والنقدية التي تقوم عليها تلك المؤسسات، ولهذا فإن المساحة التي تمنحها المؤسسة للأساتذة والطلاب تختلف باختلاف قناعاتها وإيمانها بأهمية تلك الحُرية وقدرتها على تعزيز الدور الأكاديمي للمؤسسة، وبالتالي إمكانات تلك الحُرية على بناء مفاهيم جديدة للمنظومة الأكاديمية ككل.
يُحدثنا مؤشر الحُرية الأكاديمية 2024، الصادر عن جامعة فلوريدا أتلانتيك (FAU)، عن تلك المعاناة التي تعانيها الحُرية الأكاديمية من تقييد على مستوى البحث العلمي والنشر وكذلك حُرية الرأي؛ غير أن بعض المؤسسات الأكاديمية تبذل الكثير من الجهد بواسطة الخطاب المفتوح وإنتاج المعارف السليمة علميا والتعليم المنطلق من مفاهيم تلك الحُرية وقدرتها على حماية (الاستقلالية الجامعية)، و(النزاهة العلمية)، ولهذا فإن هذه الحُرية تقتضي (الاستعداد للدفاع عن الاستقلالية المؤسسية واتخاذ تدابير لتعزيز الحُرية الأكاديمية الفردية).
يسجل المؤشر تراجعا عاما للحُريات الأكاديمية في العالم؛ فبعد أن كان ما يقرب من 4 مليارات شخص يعيشون في سياقات الحرية الأكاديمية المحمية بشكل جيد في عام 2006، فإن هذا العدد قد انخفض في عام 2023 إلى 2.8 مليار شخص فقط، ويُعزى ذلك إلى ما يمُر به العالم من تطورات على المستوى السياسي والاجتماعي إضافة إلى التعقيدات المتعلقة بمستويات اتخاذ القرارات وحُرية الرأي في العديد من دول العالم، والتناقضات التي تعاني منها المجتمعات، لذا فإن المؤشر يسجِّل تراجعا في عشر بلدان منها (بنجلاديش والهند وتركيا والولايات المتحدة الأمريكية).
إن ما يمُّر به العالم اليوم من متغيرات وتناقضات على مستوى الصراعات، وجَّه المؤسسات الأكاديمية في العالم إلى ممارسة الحُريات والمطالبة بحقوق تلك الحُريات؛ إذ شهدنا الكثير من الوقفات السلمية التضامنية أو الاحتجاجية في العديد من جامعات العالم، والجرأة في طرح القضايا المرتبطة بالعلوم الحديثة، ومتغيرات البيئة، إضافة إلى طرح قضايا الانتهاكات الجيوسياسية وغيرها التي نجدها بشكل أكثر جرأة في جامعات الوطن العربي، الأمر الذي يعكس الفهم العام لمستويات الحُرية الأكاديمية وقدرتها على إيجاد متنفَّس في المآزق التي تمر بها المجتمعات.
لقد قدَّمت المتغيرات الحالية مفاهيم جديدة للحُرية الأكاديمية ليس بفضل حق الجامعات في التعبير عن نفسها وحسب، بل أيضا الكشف عن مدى قدرة جامعاتنا على التعبير عن نفسها وفق معطيات المرحلة الحالية والتطلعات المستقبلية التي تواكب الأهداف الوطنية والإقليمية، وبالتالي فإن هذه الحُرية على الرغم من خصوصيتها إلاَّ أنها تشكِّل إحدى تلك الحُريات التي تؤثر على قدرة المجتمعات على إحداث أثر إيجابي على كافة القطاعات التنموية خاصة على المستوى البحثي والمعرفي وقدرتها على تلمُّس احتياجات المجتمع وأولوياته.
إن الحُرية الأكاديمية تمثِّل عنصرا من عناصر القوة للمؤسسات، وهذه القوة تحتاج دوما إلى إتاحة الفرص أمام الأكاديميين للتعبير عن قدراتهم في المشاركة المجتمعية؛ فعلى الرغم من أن الخدمة المجتمعية إحدى مقومات تقييم الأساتذة في المؤسسات الأكاديمية إلاَّ أن الكثير منهم لا يُلقي لها بالا سوى اعتبارها هدفا عليه تحقيقه بصرف النظر عن احتياجات مجتمعه أو أولوياته، والحق أن الأمر هنا لا يتعلَّق بمستويات التقييم بقدر تعلُّقه بمدى فهم أولئك الأكاديميين لمبادئ الحُرية التي يتمتعون بها، وقدرتهم على إدراك المسارات التنموية في أوطانهم؛ فالدور الأكاديمي الذي يقومون به لا يقتصر على التدريس بل يتسع ليكون جزءا أساسيا من البناء التنموي في كافة القطاعات.
ولهذا فإن اتساع مفاهيم الحُرية الأكاديمية لا يتعلَّق بالمؤسسات وحدها بل يشمل الأكاديميين أيضا، لأنهم المسؤولون عن ممارسة تلك الحُرية وآفاقها وتطلعاتها، وبالتالي عن إمكانات مواكبتها للمتغيرات والتحولات التي تمر بها المجتمعات؛ ذلك لأن الجامعات والكليات وغيرها من المؤسسات الأكاديمية إنما أُنشئت من أجل خدمة تلك المجتمعات تعليما وبحثا ومعرفة وابتكارا، الأمر الذي يعني أنها أداة أساسية في التطوُّر وإحداث القفزات التنموية في ظل الكثير من التحديات التي تواجهها، والحق أن الحُرية الأكاديمية مبدأ أساسي في مؤسساتنا الأكاديمية التي تحرص على إشراك الأساتذة والطلبة في كافة الممارسات الأكاديمية بدءا من السياسات المنظمة للعمل، والمبادرات والبرامج التي يقوم عليها العمل الأكاديمي، إضافة إلى الدعم البحثي المؤسسي، وتعزيز دور تلك المؤسسات في خدمة المجتمع.
إن الحُرية الأكاديمية تقتضي تمكين دور المؤسسات الأكاديمية، وتعزيز دور الأكاديميين والطلاب ليس من أجل التحصيل العلمي وحده بل أيضا من أجل تفعيل الدور التنموي لتلك المؤسسات، وقدرتها على المشاركة الفاعلة في تحقيق الأهداف التنموية، فلا توجد أماكن أفضل من الصروح الأكاديمية لطرح التساؤلات وفتح المناقشات التي تخدم الأهداف الوطنية، وتُعزِّز الدور الأكاديمي وتفتح آفاق البحث العلمي والأطروحات الجريئة التي تفضي إلى نتائج يمكن الإفادة منها في تغيير مسارات أو إحداث تطورات أو حتى وقف ممارسات لا تعود بالمنفعة على المجتمع.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المؤسسات الأکادیمیة الأکادیمیة فی وقدرتها على التعبیر عن الکثیر من فی عام
إقرأ أيضاً:
أمجد توفيق ساحر اللغة والباحث عن شرف الكلمة وعن الحرية
نوفمبر 7, 2024آخر تحديث: نوفمبر 7, 2024
عادل إبراهيم
هل يستطيع الطائر ان يحلق في الهواء دون أن يبسط جناحيه ؟
وهل يمكن أن يكون الأنسان مبدعا ،ويرتقي الى فضاء الجمال ويقدم أعمالا فنية مهمة دون أن يمتلك حريته ؟
ودون أن تكون له رسالة صادقة منتمية للأنسان ومتعاطفة مع همومه ولتحدياته؟
إذن حرية المبدع ورسالته هما جناحاه ،ولكن هل هذا يمنحه القدرة على الانطلاق في سماء الأبداع والأنتشار ،كضوء نجمة أو ربما كنبع ماء أو حلم جميل متحقق في زمن أصبحت فيه الشهرة والأنتشار لاتتطلب موهبة ولا كفاءة
ولا ابداع ؟
نحن نتحدث عن كاتب حقيقي وأديب وروائي وسارد منحنا الجمال والقيمة الفنية في أعماله التي استطاعت أن تستجيب للقلق الأنساني وللذاكرة حين تكتوي بنار الحروب والأزمات وتنهش فيهاكل مظاهرالتخلف والسرقات والأفكار السوداء .
نحن نتحدث عن امجد توفيق مبدعاً وانسانا نبيلا.
قبل اكثر من ثلاثين سنة عرفت أمجد توفيق ،وتعمقت علاقتي معه من خلال عملنا في دار الشؤون الثقافيةالعامة..ومايثير الانتباه امتلاكه رصيدا كبيرا من الحب والعشق للحياة ومحبة الناس واصدقائه وقيم الوفاء والرجولة..وكنت أحيانا أستغرب كيف يمكن لرجل مثله مرت عليه ظروف قاسية وصعبة أن لاأراه لحظة منفعلا أو عصبيا في تعامله مع الاخرين حتى وان أختلف معهم موقفا وفكرا ،لكنه لايختلف معهم انسانيا.
صفة الوفاء تنسجم كثيرا مع اخلاق أمجد توفيق وسلوكه وأبداعه ، ولا أشك ان اصول تربيته في اسرة اهتمت بالأدب والثقافة قد صقلت لديه القيم الأخلاقية الانسانية ،وساهمت في توهج ابداعه .
ولنعود الى أمجد توفيق كاتبا وأديبا وروائيا فهو يمتلك سفر من الانجاز الابداعي بدأه بمجموعته القصصية : الثلج الثلج عام 1974 ، والجبل الابيض 1977 ، وقلعة تارا عام 2000 ، وهي مجموعات قصصية تستوحي من طبيعة المنطقة الجبلية التي عاش فيها في محافظة دهوك قصصها وشخصياتها .
ليمنحنا أول رواياته عام 2000 وهي رواية برج المطر ،ثم طفولة جبل ،والطيور الحرة ،والظلال الطويلة ، والساخر العظيم ، والخطأ الذهبي عام 2020، ثم رواية ينال ،والحيوان وأنا ،وكتب نقدية أخرى.
في كل رواياته لم تكن شخصياته مجرد أناس عاديين ، بل أصحاب مشاريع وعشاق وهم صناع حياة.
فالحياة في منظورهم تستحق أن تعاش رغم قسوتها ورغم ادراكهم انه في هذه الحياة يجب دفع ثمن كل شيء بطريقة ما، فلاشيء مجاني.
وللزمن حكاية في اعمال امجد توفيق ، فهو يخبرنا في روايةالساخر العظيم ،بأن الزمن هو الذي يسخر من الجميع .
العمق في الكتابة عند الكبير امجد توفيق ،يأتي من مخزون التجربة لديه وهو دائما ما يؤكد بأنه يعيش الحياة ليكتب عنها. فوظيفة الأدب عنده ليس في وصف ماحدث كنشرة أخبارية، بل كشف مايحدث وطرح الأسئلة ، لكنه لا يقفز على وصف الواقع للوصول الى تخيل المستقبل.
ليس هذا فقط وانما نجد التأمل الفلسفي والاسلوب الرشيق في صياغة افكاره ، ولغته المتميزة التي هي من مقومات تحقيق المتعة في رواياته وقصصه ..فهو ساحر اللغة ،اضافة الى مايطرحه من تساؤلات تكون اجاباتها اسئلة جديدة تبحث عن جواب. وكأنه يريد أن يقول : كنت ابحث عن اجابات فوجدت كثيرا من الأسئلة .
ولعل التساؤل الذي طرحه بطل روايته دانيال في اخر صفحات الرواية :ما الحل؟ يوضح ماأراد السارد ان يقوله فهو يرى
” ان لا خطأ هناك الا إذا فتشت عنه ، عندها يمكن ان تجد الأخطاء وستصطاد عيناك الخطأ في كل شيء”.
والاستاذ امجد توفيق يفرق بين نوعين من الخطأ حسب تصنيفه : فهناك أخطاء ترابية صغيرة تنال من قيمة من يرتكبها ،وأخطاء عظيمة ترفع من قيمة الاشخاص ،وهي الاخطاء الذهبية ، كما هي في رواية الخطأ الذهبي.
وتساؤلات امجد توفيق وأخطاءه الذهبية في معظم اعماله هي محاولة لفهم الواقع باتجاه رؤية قادمة .
فهو دائما يردد ان الاجابات على الاسئلة لم تكن مؤهلة لاطفاء شرارة السؤال.
وهو في اعماله يحاول الخروج من قائمة الصيغ الثابتة والكلاسيكية التي تحذر من الممنوعات ،وهو الباحث عن شرف الكلمة وعن الحرية.فهو يؤكد ان الابداع ” يمنحني ما ينقصني من الحرية التي افتقدها في حياتي اليومية”.
وكأنه يذكرني باحدى شخصيات رواية زوربا عندما يقول :
– انا حر يازوربا.
فيجيب زوربا :كلا لست حرا ، كل مافي الامر إن الحبل المربوط الى عنقك أطول قليلا من حبال الاخرين .
وترتبط اعمال امجد توفيق الابداعية بعمق تجربته وموهبته الحقيقية ،اي ان موهبته معمدة بتجربته انتجت لنا ابداعه المبهر .
لكن يبقى السؤال :هل حظي امجد توفيق كروائي وسارد مبدع بما يستحقه من الاهتمام والتسويق والترويج لاعماله؟
بكثير من الاصرار ،استطيع ان اقول ان هناك العديد من الكتاب العالميين نالوا شهرة كبيرة وطبعت اعمالهم وترجمت الى عدة لغات ليسوا أفضل ابداعا من المبدع امجد توفيق.
ان لم يكن احيانا اكثر عمقا وبراعة وجمالا منهم ..لكن هناك دعم كبير يحظون به ،فيما نحن نترك مبدعينا بلا دعم حقيقي ولا نتذكرهم او نبدي بعض الاهتمام الاعلامي الا بعد رحيلهم .
واعود الى روايته الاخيرة ” زمن الارجوان ” ، حيث كتب في صفحة غلافها :
الكلمة لاتفعل فعلها الا عندما تسمع او تقرأ ..هي ليست زهرة لتشمها او تتأمل جمالها ، وليست نهرا لتبحث عن اعمق نقطة فيه ،ولاقشرةجوز قاسية لتكسرها، ولا فاكهة طرية لتقشرها او تعصرها ،وليست سما لتجربة تأثيره ..انها كل ذلك.
ويبقى السؤال ؛ هل مهمة المثقف ان يغير الواقع ويقلب الكون ام يصرخ ويشير الى الخلل ويدلي بشهادته ويمضي ربما اكثر رعبا او حزنا..
ربما هذا السؤال كثيرا مايرد في وعي امجد توفيق وفي اعماله.
وأختم :هنك مثل صيني يقول إذا أردت سماع صوت الطيور فأزرع الاشجار .
وقيل ان لم يكن الانجاز صعبا ،فلا يسمى انجازا.