مع تزايد الاشتباك العالمي تزداد حدة عدم اليقين، ويستمر المشهد العالمي عمومًا في حالة من التقلب والغموض»؛ هذه هي سمة عالمنا المعاصر- كما تناولناها في مقالات عديدة سابقة- ويبدو أن هذه السمات تنتقل تمس إدراك الأفراد والمجتمعات، وتدفعهم بصورة واعية أو غير واعية لابتكار أدوات وسلوكيات للتكيف معها، حيث إن الكائن البشري بطبعه هو مبتكر لأدوات تكيفه، تلك الأدوات التي تضمن له أن يعيش وفق حيز معقول- بالنسبة له- من اليقين والوضوح.

وإذا ما فقد ذلك اليقين أو الوضوح سارع إلى إيجاد محكات بديلة توفر له الأمان النفسي في عالم متغير، سواء كان ذلك العالم هو محيطه الاجتماعي الضيق أو كان العالم بمفهومه الأوسع. كما هو الحال كذلك مع المؤسسات؛ التي تتدافع اليوم إلى تكييف خططها وعملياتها ونظمها ومواردها للتعامل مع وضع عالمي يصعب التنبؤ به، وتتضاءل فرص السيطرة والصمود فيه. لذلك يبدو أن مفهوم «المرونة» يكتسب اليوم زخمه الواسع ويساق إلى عدة مجالات؛ فهناك حديث عن مرونة المدن بوصفها فضاءات حضرية قابلة للتكيف مع احتمالات طبيعية وبشرية معقدة وغير مألوفة، وهناك حديث عن مرونة الاقتصادات لتكييف عملياتها ونماذجها للتعامل مع تطورات وأحداث معقدة تهدد استقرارها واستمراريتها سواء في الإنتاج أو التنافسية، مثلما أن هناك حديثا عن المرونة المؤسسية والتي تعنى بالتدابير التي تتخذها المؤسسات على مستوى التخطيط الاستراتيجي والعمليات ونظم إدارة المخاطر وتنظيم بيئات العمل في سبيل البقاء في عالم يكتنفه الغموض وشدة التعقدية.

وسط هذه المعطيات تنشأ مجموعة من المخاطر العالمية المشتركة، وتتسرب إلى النظام العالمي، مؤثرة على المجتمعات- على حد سواء- والاقتصادات والنظم السياسية، ومن بين أكثر المخاطر انتشارًا اليوم هي «المعلومات المضللة». حيث يصنفها تقرير المخاطر العالمي 2024 الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي بأنها الخطر رقم (1) في ترتيب شدة المخاطر العالمية خلال عامين (2024 - 2025) وستضل على قائمة أهم (5) مخاطر عالمية حتى عام 2034. تتشكل المعلومات المضللة في بيئة ترتكز على عاملين: قوة الدعاية السياسية والاجتماعية، وتوظيف التقانة وتضخيم الخوارزمية وآليات السيطرة الحكومية أو المؤسسية على انتباه الجمهور واختراق مستويات الوعي. ثم أن هناك مناخات محددة ينمو فيها خطر المعلومات المضللة؛ فعلى سبيل المثال - مثلما أوضح التقرير - فإن ثلث سكان العالم في هذين العامين سينخرطون في انتخابات رئاسية أو برلمانية في مختلف أقطار العالم وأهمها في المملكة المتحدة والولايات المتحدة. وهو مناخ يسمح بظهور العديد من أشكال الدعاية السياسية وتحريك الاستقطاب المجتمعي. وفي جائحة كورونا (كوفيد 19) شكل الوضع العالمي المعقد والحرج مناخًا خصبًا لنشوء وتطور المعلومات المضللة وذلك بخصوص احتمالات الجائحة واستجابة الحكومات لها وعدم القبض على سيناريوهات دقيقة لمسارات تطورها. ففي عام 2020 وحده قدر موقع Statista الخسائر الاقتصادية الكلية الناجمة عالميًا نتيجة انتشار المعلومات الكاذبة والمضللة بنحو 78 مليار دولار أمريكي.

هناك ثلاثة أوجه راهنة لخطورة المعلومات المضللة؛ أولها أنه من الممكن أن تتسلل إلى مختلف القطاعات من الأسواق المالية، إلى النواحي الأمنية والآليات الحكومية، ومهددات الصحة العامة، إلى ضرب الاستقرار العام في المجتمع، ومع كل معلومة مضللة تنشأ في قطاع ما فإنها بالضرورة تتعدد لتستهدف استقرار عدة قطاعات مختلفة (مثل العلاقة بين احتمالية انتشار فيروس ما عالميا وتأثيره على أسواق المال وسلوكيات المستهلكين وتوقعات الحكومة). أما الوجه الآخر للخطورة فهو أن الآليات التقنية الناشئة من الممكن أن تبتكر في مستوى تقديم المعلومة المضللة لإلغاء أو تحييد أو تقليص قدرة الفكر البشري على فلترتها، ولعل أهمها ما يسمى اليوم بـ «التزييف العميق Deep fakes» المدعوم بآليات الذكاء الاصطناعي. ثالث أوجه الخطورة للمعلومات المضللة هو أنها (سائلة Liquid) بمعنى أنها تستطيع الاندماج في فضاء من الحقيقة الاجتماعية، وغالبًا ما يتم تصميمها وبثها بطريقة تتناسب مع المزاج الاجتماعي السائد. وهذه نقطة محورية جدًا تستلزم تعزيز قوة الفكر النقدي لدى الأفراد عبر مختلف المراحل العلمية والعمرية. وهناك كلفة اجتماعية واسعة لانتشار وتمدد المعلومات المضللة؛ منها توليد الانقسامات المجتمعية، وإضعاف ثقة الأفراد في الحكومات والمؤسسات على حد سواء، وتعريض الأفراد لمصادر غير صحية من المعلومات قد تؤثر سلبًا على خياراتهم الاجتماعية والاقتصادية والصحية وقد تهدد النظام الصحي والاجتماعي والاقتصادي القائم في المجتمع.

الحكومات مدعوة اليوم عبر أذرعها الأكاديمية والبحثية لمناقشة (مُكنة التضليل Possibility of misleading) ومعرفة كيف يتسرب التضليل إلى المجتمع؟ وما هي الفئات المستهدفة غالبًا؟ ومن هم الأكثر قابلية للتضليل؟ وعند أي المستويات العلمية والثقافية؟ وما هي أكثر الوسائط التي يتم من خلالها التضليل؟ وما هي الهندسة الاجتماعية التي تستخدم في ذلك؟ الدراسات الاستباقية مهمة لأنها تحدد خارطة الطريق للعمل، وتمكن لاحقًا من وضع التدخلات الدقيقة الكفيلة برفع الوعي العام إزاء المعلومات المضللة أو فكرة التضليل في شكلها العام. وعلى مستوى الاستباق من المهم أن تكون هناك أركان ثلاثة تركز عليها الحكومات في التعامل مع المعلومات المضللة؛ أولها أجهزة التواصل الحكومي (التي يفترض أن تكون مصدرًا موثوقًا ومباشرًا وتفصيليًا للمعلومة، وإذا ما حدث تسرب تضليلي تكون سباقة للدحض والتوضيح وكشف اللبس). أما الركيزة الثانية فهي على مستوى مؤسسات التعليم (التي يتوجب أن تراجع جرعات التفكير النقدي في نظم التعليم ومناهجه وأن تكون تلك الجرعات متضمنة لتوعية الدارسين بآليات معرفة وتفكيك المعلومات المضللة لغويًا وموضوعيًا). أما الركيزة الثالثة فهي في منظومة التوجيه العام التي يقودها الإعلام ومبادرات وحملات تغيير السلوك (التي يجب أن تدرب عموم أفراد المجتمع على نماذج بناء المعلومات المضللة وأدوات وطرق تحليلها ومساءلتها ودحضها). كل هذه الركائز يجب أن تكون كذلك بمنظومة قانونية رادعة، لا تتسامح مع هذا الخطر، ولا تتساهل مع منابع بنائه وانتشاره؛ فمعلومة مضللة واحدة استطاع مصدرها أن يبنيها ويمررها بذكاء من شأنها أن تهدم مجتمعًا أو تقوض صلة وثقة أو تهدد نظامًا اقتصاديًا قائمًا.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المعلومات المضللة أن تکون

إقرأ أيضاً:

والي الخرطوم: مؤسسات التعليم العالي من أوائل المؤسسات التي بادرت باستئناف نشاطها من داخل الولاية

إستقبل والي ولاية الخرطوم الأستاذ أحمد عثمان حمزة الاربعاء وزير التعليم العالي بروفسير محمد حسن دهب وذلك بحضور الأمين العام لحكومة ولاية الخرطوم الهادي عبد السيد إبراهيم والمدير العام لوزارة التربية والتعليم الدكتور قريب الله محمد أحمد وقيادات جامعة كرري ممثلة في اللواء الاسيد سليمان اللواء أمير سليمان.وأكد والي الخرطوم أن مؤسسات التعليم العالي من أوائل المؤسسات التي بادرت باستئناف نشاطها من داخل ولاية الخرطوم رغم الاستهداف الممنهج من المليشيا لمؤسسات التعليم العالي واتخاذ بعض مقارها كمنصات لاستهداف الاحياء السكنية.ولفت الوالي ان القرار الذي اصدره وزير التعليم العالي بدعوة الجامعات لمباشرة نشاطها اسهم في حضور اعداد كبيرة من الطلاب للجلوس للامتحانات داخل ولاية الخرطوم.وقال الوالي ان الحرب فرضت واقعا جديداً يتطلب ان تفكر الجامعات بالخروج من الاطر التقليدية ومواكبة التقنية بالتوسع في التعليم الالكتروني وتمكين الطلاب من مواصلة دراستهم من أي مكان.من جانبه قال وزير التعليم العالي إن والي الخرطوم قام بعمل كبير تجاه الشعب السوداني وتثبيت اركان الدولة داخل الولاية مشيرا الي ان الانتصارات الاخيرة عززت من الاستقرار وأن الاوضاع تذهب نحو الافضل وقال إن الحرب دفعت الوزارة للتوسع في التعليم الالكتروني و سارعت الجامعات بإنشاء منصات غطت ٥٥٪من المنهج كما نجحت الوزارة في إقامة الامتحانات خاصة في المراحل النهائية.واشار الوزير الي توفر تقنيات حديثة تحاكي واقع الفصل الدراسي مما يسهل عملية التدريس وتعهد بالاستجابة لطلب مدير عام التعليم بولاية الخرطوم بضرورة توافق مناهج كليات التربية مع متطلبات التعليم العام.سونا إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • وزير الاتصالات يستعرض استراتيجية الوزارة لتنمية ريادة الأعمال والشركات الناشئة التكنولوجية
  • مصر تقفز 46 مركزًا في المؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي.. خبراء: تسخير هذه التطبيقات يسهم في الارتقاء بالخدمات المقدمة للمواطنين.. ويساعد الكوادر البشرية على إنجاز أعمالهم
  • وفقا للحسابات الرياضية.. عالم أفغاني يتبنأ بموعد تدمير الاقتصاد العالمي والحرب العالمية الثالثة
  • «أميركية الشارقة» تنظم اليوم العالمي احتفاءً بالتنوّع الثقافي
  • مع اقتراب رمضان.. أمين عام حضرموت يفتتح المعرض الدائم بالمؤسسة الاقتصادية في المكلا لتعزيز النشاط التجاري
  • اللجنة العليا تُتابع التحضيرات النهائية قبل انطلاق الحدث العالمي
  • ماسك يفصح عن تفاصيل جديدة بخصوص وصوله للمعلومات السرية
  • خبراء الأمم المتحدة يشيدون بريادة المملكة في تعزيز الإطار المتكامل للمعلومات الجيومكانية
  • والي الخرطوم: مؤسسات التعليم العالي من أوائل المؤسسات التي بادرت باستئناف نشاطها من داخل الولاية
  • اليوم العالمي للإذاعة.. فيديو