حرب السودان: بازار واسع للإساءة الجماعية.. من يصنع بضاعته؟
تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT
حرب السودان: بازار واسع للإساءة الجماعية.. من يصنع بضاعته؟
يوسف حمد
لأكثر من سنة تدور في السودان حرب واسعة النطاق، قدر ضحاياه بما يقارب من عشرين ألف قتيل، فضلا عن الملايين بين لاجئ في دول الجوار أو نازح داخل جغرافيا البلاد، وصاحب ذلك تدمير كامل لغالبية البنى التحتية في العاصمة الخرطوم وبعض المدن والبلدات.
في الواقع، بدأت الحرب بعد سنتين من انقلاب عسكري على حكومة فترة انتقالية أعقبت سقوط نظام الإخوان المسلمين بثورة سلمية مشهودة، وبدأت في الأصل من أجل النزاع حول السلطة بين قائد الجيش وقائد مليشيا الدعم السريع، الشريكان في الانقلاب على المسار الديمقراطي المخطط له.
هذا التحليل هو العنوان الأولي المعتمد لمتن الحرب، لكن الدافع السلطوي وحده لم يكن فعالا بما يكفي ليعطي الحرب مشروعيتها وخطابها المقنع لدى الرأي العام المحلي، مثلما فشل سابقا خطاب الانقلاب في طمر أهداف ثورة ديسمبر السلمية وخلق حاضنة اجتماعية تؤيد الانقلاب من بين المواطنين.
هذا الفشل في صناعة الخطاب المتماسك ألجأ أصحاب الحرب ودفعهم إلى صناعة سوق من الإساءات الجماعية والإرباك الاجتماعي ليتداوله المواطنون بالكثير من الفزع الذي يحجب العقل والمنطق، في بلد هو في الأصل يعيش اقتصاديات هشة، ومتعدد الثقافات والديانات والأفكار وسبل كسب العيش.
مَثَلَ هذا السوق التحريضي المحتشد بعبارات العنصرية والكراهية العلامة الأبرز لحقبة سياسية ممتدة من حكم الإخوان المسلمين، أخذت تتكرر في عدة مناسبات. وفي الواقع، لن يجد أكثر الناس سعة في الخيال فرصة لمناقشة ومعالجة خطاب هذا السوق من خلال حقل العلوم السياسة؛ إنه في أصله يوجد هناك، في حقل الدراسات الأخلاقية. وبالطبع هذه نزعة لا يباركها أي ميثاق للشرف الرفيع.
كانت آخر مظاهر هذا الخطاب هو المنشور المتداول بنهاية الأسبوع الماضي من حكومة ولاية الخرطوم، بخصوص حالة الطوارئ في المناطق التي يسيطر عليها الجيش، إذ أجاز المنشور ما يمكن وصفه بأنه “تمييز بين الإثنيات”، وذلك بمنح (اللجنة الأمنية) سلطة مراقبة “حواضن العدو المجتمعية”، ما يفتح الباب أمام حالة مقيتة من تصفية الحسابات بين الأجناس والأخذ على الهوية. ومن المثير للاشمئزاز ممارسة السياسة من هذا المكان المحتشد بالمكارثية.
في الواقع فإن سريان هذا الخطاب لا يمكن أن تحده حدود؛ فبطريقة أو بأخرى، مثل الإنترنت ومجاله العمومي فائق السرعة دعامة مهمة للترويج لخطاب الحرب وخطاب الإساءات الجماعية، وانتشرت في ثناياه خطابات غاية في الركاكة والانحطاط الأخلاقي، وأخذت تسري بسهولة لتصل إلى جمهور أوسع في المجتمع المتعدد.
وفي هذا السوق يمكن للمرء أن يكون مواطنا نموذجيا بالمعيار السائد، حتى ربما أنه حاصل على عضوية في جمعية للرفق بالحيوان، وكذلك تحيط به قداسة متوهمة حتى نعليه، لكنه، في نهاية المطاف، سيرتد بدوافع متعددة وغير عقلانية إلى مجرد مخلوق بلا قلب.
الوسومالجيش السوداني الدعم السريع حرب السودان حملة نحن واحد خطاب الكراهية
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الجيش السوداني الدعم السريع حرب السودان خطاب الكراهية
إقرأ أيضاً:
السودان وجنوب السودان: حتاما نساري “الدم” في الظلم (1-2)
عبد الله علي إبراهيم
ملخص
كانت دولة جنوب السودان كإقليم في السودان معملاً كبيراً لنظرية العرق النقدية في الحرب السودانية، وأهاج أهلها خبر قتل جماعة من مواطنيها العالقين في السودان منذ الانفصال في 2011 بتهمة الارتزاق مع "الدعم السريع" واستنكرته حكومتهم.
ربما لم تكن عبارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب في خطاب تنصيبه عن تصفية الليبرالية في المجتمع والدولة في قوة عبارة الرئيس رونالد ريغان، "مستر غورباتشوف اهدم هذا الحائط" التي انطوت بها خيم النظم الشيوعية. ولكن هدم ترمب بعبارته أعمدة العقيدة الليبرالية بلا مواربة. فقال إنه سينهي إشاعة الهندسة الاجتماعية للعرق والجندر في شأنهم العام والخاص. وسيقيم مجتمعاً كفيف البصر حيال اللون وقائماً على مكافأة من أحسن صنعاً. وعليه ستقوم سياسة الدولة على أن هناك نوعين من البشر ذكراً وأنثى.
حديث ترمب هذا يمثل طياً لخيم الليبراليين، أي لنظرياتهم في الهوية والشوكة مثل "الهويات المتقاطعة" (1989)، و"الووك" (2014)، وأشهرها "نظرية العرق النقدية" (آخر السبعينيات أوائل الثمانينيات). وجميعها تلتقي في الاعتراف بالفوارق العرقية سليلة التاريخ الأميركي التي لا تزال قائمة حتى بنهوض حركة الحقوق المدنية للسود الأميركيين. والأخيرة هي النظرية التي تقول إن العرقية ليست نتاج حزازة شخصية للفرد في جماعة ما ضد جماعة أخرى، بل هي ضغينة متوطنة في النظام القانوني والشوكة السياسية والثقافية.
وتريد هذه النظريات الكشف عن هذه المنطويات في التاريخ والواقع لتوضيح كيف تنظلم جماعات من الناس من هذه العرقية بقصد إنهاء آثارها الضارة وبناء عالم عادل وصحي للجميع. وامتد أثر النظرية ليشمل النساء والمثليين. وهي عند المحافظين نظريات هدامة مبالغة تدس بين القوم وتنبش التاريخ لتخجل به قوماً حيال قوم. وتتحول إلى شرطي يتعقب العبارة وصحتها السياسية. ووصف ترمب النظام الأميركي بأنه المكافئ لمن أحسن عملاً من أين جاء مما أراد به الكف عن التوسل بهذه الهويات الأصاغر في مثل التمييز الإيجابي للإحسان، فالإحسان في أميركا لمن أحسن عملاً بلا نظر لعرقه أو نوعه.
لم يجف مداد كلمة ترمب التي هدم فيها أعمدة الليبرالية حتى دخلت دولة جنوب السودان التي كانت كإقليم في السودان معملاً كبيراً لنظرية العرق النقدية في الحرب السودانية. فقد أهاج أهلها خبر قتل جماعة من مواطنيها العالقين في السودان منذ الانفصال في 2011 بتهمة الارتزاق مع "الدعم السريع"، واستنكرته حكومتهم. وساد بين الليبراليين في الشمال، ممن ينتسبون إلى تنسيقية القوى الديمقراطية والتقدمية "تقدم"، أو من حولها، خطاب بدا أنه لم يتصالح بعد مع حقيقة أن السودان صار سودانين اثنين. فظلوا يسمون قرار اعتزال الجنوب للسودان "انفصالاً"، وهي الكلمة البغيضة في القاموس السياسي منذ عهد الاستعمار الذي أدار جنوب السودان بمعزل عن بقية القطر تمهيداً لضمه إلى شرق أفريقيا بما عرف بـ"سياسة المناطق المقفولة". ولا يجد مواطنو جنوب السودان حرجاً في تسمية ما هم فيه "استقلالاً" يعدونه فخراً، ناهيك باستهجان بعضهم أن يوصف استقلالهم هذا بغير ما أرادوا له أن يسمى.
وبينما أحسن هذا الخطاب السوداني الليبرالي حقاً في شجب مقاتل تلك الجماعة الجنوب سودانية، إلا أنه استنكر إخضاع النظر إليها في واقع في الحرب التي نهضت الشواهد على توظيف لمواطني جنوب السودان العالقين وغير العالقين في الحرب إلى جانب "الدعم السريع". فتداولت الوسائط منذ أشهر فيديو لخطيب منهم، بدا كمقاول أنفار، بين جماعة غزيرة من مواطني جنوب السودان يطابق بين "الدعم السريع" وعقيدة السودان الجديد التي كانت عنوان الحركة الشعبية لتحرير السودان ضد دولة 1956، بل أنهى حديثه بـ"دعم سريع وي وي" وهي مما كانت تختم به حشود الحركة الشعبية.
من أفدح ما وقع في هذه المواجهة السودانية - الجنوب سودانية هو استباحة دم السودانيين في جنوب السودان ومالهم في الشغب الذي جرى، بعد سماع مواطني جنوب السودان خبر قتل بعض مواطنيهم في الجار الشمالي. وبدا من عبارات لبعض السودانيين الجنوبيين في الشغب وكأنهم يصفون ما زال حساباً قديماً ضد أبناء الشمال-السودان حين كان البلد واحداً. فكأن مقتل جماعة منهم في سياق الحرب، بغض النظر عن سببه، هو نسخة أخيرة لمقاتلهم في الشمال منذ استقلاله. وينسون هنا أنهم صاروا بلداً مستقلاً بإرادتهم وعزائمهم سواء في ميدان السياسة والحرب ومن فوق حق تقرير المصير، ذؤابة الحرية، في 2011.
وما حال دونهم والتفكير في السودان كدولة مستقلة، حتى لو أخطأت في حق بعض مواطنيهم، هي ثقافة المظلمة التي نشأوا عليها تذيعها الصفوة الليبرالية الشمالية. ونواصل.
ibrahima@missouri.edu