كيف تؤثر الأنظمة الرقمية في حياتنا؟
تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT
نحاول أن نرى الجانب الإيجابي لتأثير المستجدات المادية في حياتنا منها التحولات التي صاحبت دخول التقنية التي غدت جزءًا لا يتجزأ من منظومة عيشنا؛ فنمط حياتنا بوجود التقنيات لا يشبه نمط حياة أسلافنا قبل سنوات طويلة، وسبق أن سردنا الكثير عمَّا تميّزت به حياتنا وأنماطها بسبب ما تقدّمه لنا التقنية من تسهيلات وخدمات، ولكنْ ثمّة وجه آخر لهذه الأنظمة الرقمية يثير قلقنا يخص تأثيراتها على حياتنا النفسية والاجتماعية والصحية رغم إقرارنا بأن مستجدات الحضارة الإنسانية سلاح ذو حدين، وأن الإنسان يسعى جاهدًا لبلوغ أقصى درجات الاستفادة من هذه التطويرات التي تستجد في حياته؛ فمثلا عندما دخلت الكهرباء مع بداية القرن العشرين وجد الإنسان نفسه في عالم مضيء يمنحه المزيد من الأمن والطمأنينة واليسر إلا أن وجها آخر لهذا التفوق الحضاري فاقم من أزمة انفصال الإنسان عن الطبيعة، وأدخل الإنسان في تعقيدات نفسية وصحية نتيجة ما صار يُعرف بالتلوث الضوئي، وكذلك التلفاز الذي اقتحم حضارة الإنسان منذ منتصف القرن العشرين، أتى ليكون وسيلة للترفيه، ولربط الإنسان بالعالم وأحداثه إلا أن الإنسان وجد نفسه أكثر عزلة، واتسعت هوّة هذه العزلة بعد ظهور الإنترنت بداية تسعينيات القرن العشرين الذي أدخل الإنسان إلى العالم الافتراضي -رغم إيجابياته المتعددة-، وتتفاقم أزمة العزلة والانفصال عن العالم الواقعي شيئا فشيئا بعد توافد منصات التواصل الاجتماعي وتزاحمها مع تطبيقات رقمية وأنظمة ذكية متعددة على حياة الإنسان؛ فنجد البعض يعيش في منطقة معزولة عن الواقع الحقيقي، وتتراكم في داخله أفكار مصدرها عالمه الافتراضي؛ فتُسلب منه حريته وإرادته؛ ويُساق هذا الإنسان عبر مؤسسات رقمية إلى وجهات تتحقق فيها مآرب المؤسسات السياسية والتجارية؛ فتجعل من هذا الإنسان إنسانا رقميا لا ينتمي إلى واقعه الطبيعي؛ ليكون سلعة تتحكم في توجهاتها مؤسسات مادية وسياسية لها أيديولوجياتها الخاصة التي من السهل أن تُفقِدَ الإنسان منظومته الأخلاقية والثقافية وقيمته في الحياة.
تؤكد لنا منظومة المجتمع الرقمي أننا جزء من منظومة الاقتصاد العالمي وسياسته؛ فيُعدّ الأفراد داخل هذا المجتمع الرقمي بمثابة السلعة التي تراهن المؤسسات الرقمية على الاستفادة منها عبر وسائل شتّى منها عبر آلية الاستهلاك الرقمي التي نُجذب بواسطتها إلى منتجات يُعلن عنها في هذه المنصات المجانية. نأتي مثلا إلى منصات مثل «يوتيوب» التي تعطيك خيار الاستهلاك المجاني المشروط بوجود الإعلانات التجارية ومشاهدتها، وبالتالي تكون جزءا من العملية التجارية التي تحقق الشركات -بما فيها شركة «جوجل»- بسببك أرباحا عالية، وفي حال كنت لا ترغب أن تكون جزءا من هذه الصفقة التجارية بين الشركات التجارية المروّجة لمنتجاتها وخدماتها -الصالح منها والطالح- فلك خيار الاشتراك والدفع الشهري الذي لا يمنحك إلا الحماية النسبية كونك ما تزال تحت تأثير الإدمان الرقمي الذي يُذهب بقيمتك العقلية والصحية والنفسية والمالية، وتُثبت الكثير من الدراسات العلمية وجود هذا التأثير السلبي الذي يمكن لمنصات التواصل الاجتماعي والتطبيقات الرقمية بما فيها ألعاب الفيديو والحاسوب أن تُحدثه في صحة الإنسان، وفي ضعضعة نشاطه الدماغي، وهذا ما يُفسر تدنّي معدلات القراءة؛ مما أفقد الإنسان الرقمي قدراته المعرفية والثقافية، وهذا ما طرحه الطبيب «لاري روزين» في كتابه «الاضطراب الإلكتروني» «iDisorder» الذي ربط بين ميل الإنسان الرقمي إلى العزلة الضارة بسبب الإدمان الرقمي وما يتصل به مثل الإنترنت والتطبيقات الرقمية. لم يعدِ الأمر مجرد تكهنات تخص مستقبل المجتمع الرقمي؛ فنحن نعيش هذه الأزمة الحضارية التي تؤكدها الدراسات النفسية والعلمية؛ إذ تؤكد الإحصائيات تضاعف معدلات الانتحار والأمراض النفسية والركود الثقافي داخل المجتمعات الرقمية التي ابتعدت عن واقعها الطبيعي، وتفاقمت هذه الأزمة مع اتساع نطاق التطبيقات الرقمية مثل نماذج الذكاء الاصطناعي التي سبق أن تحققنا من بعض مخاطرها وسبل مواجهتها في مقالات سابقة.
في دراسة أجراها مركز «بيو» للأبحاث بالتعاون مع جامعة «إيلون» في الولايات المتحدة الأمريكية -قرأتُها في كتاب «تغيُّر العقل» لـ«سوزان جرينفيلد»- عبر استطلاع لآراء أكثر من ألف خبير في مجالات التقنية عن آلية تغير «جيل الألفية» خصوصا مع حلول عام 2020م الذي صاحب دخول المجتمعات الإنسانية مراحلها الرقمية العالية نتيجة التفاعل غير المسبوق مع الأنظمة الرقمية ومنصاتها؛ فكانت إحدى خلاصات الاستطلاع -كما نُقِلَ في كتاب «تغيُّر العقل»: «لن يتمكن جيل الألفية في العام 2020 من الاحتفاظ بالمعلومات؛ فهم يقضون معظم طاقتهم في تبادل الرسائل الاجتماعية القصيرة، والاستمتاع بالترفيه، كما يتشتت انتباههم بعيدًا عن الانخراط العميق مع الناس والمعرفة. وهم يفتقرون إلى ملكات التفكير العميق؛ ويفتقرون إلى المهارات الاجتماعية المباشرة؛ ويعتمدون بطرق غير صحية على الإنترنت والأجهزة النقالة من أجل أداء مهامهم».
لا أعمد عبر هذا المقال إلى المطالبة بإلغاء الاتصال بالعالم الرقمي وأنظمته، ولا أدعو إلى كبح جماح التطويرات الرقمية وتفاعلنا معها؛ إذ سبق أن طالبت بتفعيل واسع للتقنيات الرقمية، وبذل الجهد للاستفادة منها دون الإضرار بالإنسان وحضارته، ولكن أرى أننا ندخل إلى حيّز رقمي يتسع بوسائله ووظائفه، وفي الوقت نفسه يضيق بواقع الإنسان وذاته الحقيقية؛ فتركنه بعيدًا عن الحياة الطبيعية وملاحمها الاجتماعية والثقافية الأساسية. يأتي هذا المقال بمثابة التنبيه من المخاطر التي تواجه المجتمعات الرقمية التي تتطلب حذرا في استعمالات أدواتها الرقمية، والدعوة إلى رفع الوعي بماهية الأنظمة الرقمية وآلية تفاعلنا معها وقدرتنا على الانتفاع منها دون الولوج إلى مناطق الإدمان الرقمي وتجاوزاته المُهْدِرة للوقت والفطرة الإنسانية السليمة. نحن بحاجة إلى ممارسات تعيد الإنسان إلى منطقة التوازن التي تمكّنه من مواكبة التقدم الرقمي والاستفادة منه، وفي الوقت نفسه إلى المحافظة على هويته الذاتية والإنسانية بجميع زواياها، ولعل أهم الحلول وأولها صناعة الوعي المجتمعي والفردي الذي يفعّل الممارسات السليمة مثل تنفيذ اللقاءات الثقافية التي يمكن أن تتنوع في آلية تنفيذها بين الواقعية والافتراضية؛ لتمنح الإنسان نصيبه من التفاعل الواقعي والرقمي، ونشر ثقافة القراءة وإعادة فاعليتها عبر الكتب المطبوعة، ومضاعفة المكتبات العامة وتحبيب أفراد المجتمعات إليها، ودعم نشاطات الارتباط مع الطبيعة والواقع مثل النشاطات الرياضية والترفيهية والثقافية. يظل التعويل على الوعي المجتمعي الذي لا يمكن أن يتشكّل إلا بتوسّع الوعي الفردي الذي يملك القدرة على فهم مفاصل العالم الرقمي وتحقيق مستويات التوازن التي تحفظ موقع الإنسان ومجتمعه من أيّ انزلاق اجتماعي وثقافي وأخلاقي.
د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأنظمة الرقمیة الذی ی
إقرأ أيضاً:
بصراحة
#بصراحة
د. #هاشم_غرايبه
مع أن القضية الفلسطينية تعتبر أكبر المشكلات المعاصرة تهديدا للسلام العالمي، فلم تتوقف الأعمال العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، ولا القلاقل المرتبطة بها في بقية أنحاء العالم منذ قرن، وبدأت باحتلال بريطانيا لفلسطين لأجل تأمين استيطان عشرات الألوف المهاجرين من مختلف بقاع أوروبا وأمريكا فيها، وبعد عشرين عاما خرجت بعد أن أمنت الظروف الآمنة لاستنبات الكيان اللقيط فيها، كما رتبت ضمانات سرية مع الأنظمة العربية المحيطة لحمايته الى أن يترعرع ويصبح قادرا على حماية نفسه.
الجزء من أرض فلسطين التاريخية الذي لم تتمكن العصابات الإرهابية من السيطرة عليه آنذاك، سمي الضفة الغربية، ونجا بسبب تمرد الجيش الأردني على أوامر القيادة البريطانية، فرابط في الأماكن التي اعتبرتها الأمم المتحدة (في قرار التقسيم) من حصة العرب، فظلت خارج الكيان اللقيط الى عام 67 ، حيث تم فيها الحلقة الثانية من مسلسل الاحتلال لإكمال سيطرته على كامل أرض فلسطين التاريخية، بما فيها القدس التي اعتبرها قرار التقسيم يجب أن تظل خارج سيطرته.
ما أسلفته أمر معروف للجميع، لكن عرضه مفيد لفهم الإجابة على السؤال الخطير: لماذا ظلت القضية الفلسطينية بخلاف جميع قضايا الصراع الدولي الأخرى بلا حل!؟.
الجواب البديهي هو لأن كل القضايا الأخرى خلافات على الحدود أو المصالح ، بينما هذه القضية صراع وجودي، لأنه احلال قوم في أرض بدلا أصحابها، لكن الإجابة الحقيقية مؤلمة، وهي تقصير أصحاب القرار العرب وتخليهم عن واجبهم.
لما كان استعمار فلسطين بالكيان اللقيط يمثل مصلحة عليا للغرب الطامع تاريخيا بالسيطرة على الشرق الأوسط، واعتقاده بأنه سينجح هذه المرة بإدامة احتلاله لفلسطين، بعد أن فشل في ذلك خلال الحملات الصليبية المتتالية، لذلك فلن يستسلم بسهولة للتخلي عن فكرته، ما سيرغمه على ذلك الكلفة العالية لحمايته ذلك الكيان.
فهل لدى العرب نية لتحقيق هذا الحال؟.
المعروف لديه أن القرار بذلك بيد الأنظمة العربية، ولما كان خيطها جميعا بيده، لأنها بعد أن قطعت جميعها خيوط شعبيتها عندما استجابت لكافة شروطه، فلن يفكر أي منها بالتغريد خارج معزوفته التي وضعها لتجميد قضية الأمة الأولى تحت مسمى عملية السلام، وتذرعت بها الأنظمة لتستنكف عن واجبها الأول وهو طرد المحتل بالقوة، والذي هو ممكن، ولا تبطله حجة عدم توازن القوة، فأمكانيات الأمة هائلة، ولو توفرت لأمة أخرى غير العرب لحققوا بها مبتغاهم، لكنهم ران على قلوبهم، فقعدوا واستكانوا.
لكن الله الذي يريد بهذه الأمة خيرا، قدر أن لا ينجح سعي المتآمرين: الغرب المخطط والأنظمة المنفذة، فولدت المؤامرة المسماة العملية السلمية ميتة، كونها انبنت على التخلي عن فلسطين نهائيا والاعتراف بحق المحتلين فيها، مقابل إنشاء كيان فلسطيني لا يمتلك مواصفات الدولة الا بالإسم فقط، فالأرض عبارة عن قطع من أراضي الضفة الغربية مقطعة الأوصال، تدار من قبل سلطة هي أقرب الى ادارات الحكم المحلي (بلديات ومجالس قرى)، بلا قدرات عسكرية أو استقلال سياسي كما الدول الطبيعية.
ولأن المستسلم لا يفرض شروطا، فقد قبلت بها الأنظمة بلا نقاش، بل وتبنتها وأسمتها المبادرة العربية، ووضعتها سقفا لمطالباتها، ولما رأى قادة الكيان اللقيط هذا التهالك، رفعوا من شروطهم، ففرضوا على الزعماء العرب تنفيذ ما عليهم أولا، فاستجابوا وتراكضوا لتوقيع معاهدات الاستسلام لشروط الكيان اللقيط، وابتدأت بتعديل العقيدة العسكرية لجيوشها وإزالة صفة العدو عن من احتل الأرض، وتطبيقا لذلك إقامة علاقات ديبلوماسية معه، والتطبيع اقتصاديا لكسر المقاطعة، وأمنيا بتقديم معلومات له عن مواطنيهم المعادين له، وسياسيا كإثبات عملي للتنازل عن فلسطين، وأحدث الشروط كان عقد تحالف عسكري معه لتنسيق الأعمال القتالية ضد من بقي معاديا له من الأمة وهم تحديدا القوى الإسلامية، سواء كانت تنظيمات أو دول تدعمها.
هكذا وبعد أن قدمت الأنظمة كل ما طلبه الغرب منها، ولم يبق بيدها ما تقدمه أكثر.. ما حاجته الى الإيفاء بوعوده لها!؟، خاصة وأنه موقن أنها لا تريدها الا لحفظ ماء وجهها أمام شعوبها.
من هنا نفهم منطق صفقة ترامب ، فهو يعتبر أن الأنظمة مكشوفة الظهر من شعوبها، فلا يبقيها إلا حماية المستعمر.. لذلك يبتزها كما يشاء، ولن يمنحها شيئا ..حتى ماء الوجه.