أوروبّـا على وشك الغرق في وحل اليمين المتطرف
تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT
ترجمة: بدر بن خميس الظّفري -
أوروبا تموج في بحر من القلق. قبل الانتخابات البرلمانية التي من المتوقع أن تحقق مكاسب كبيرة لليمين المتشدد، لا يُخفي القادة الأوروبيون قلقهم، إذ عبّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في خطاب ألقاه في أواخر شهر أبريل المنصرم عن قلقه من المزاج السياسي السائد في القارة العجوز، وحذر من التهديدات التي تواجه القارة، معلنا عن الحاجة إلى أوروبا قوية جديدة، أو «أوروبا المؤثّرة».
وبينما كنت أشاهد الخطاب، تذكرت تعليقات (نيكولو مكيافيلي) في الصفحات الأولى من كتاب «الأمير»، وهي تمثل نظريته حول السلطة السياسية في القرن السادس عشر. في إهداء للورينزو دي ميديشي، حاكم جمهورية فلورنسا، اقترح مكيافيلي أن السياسة تشبه الفن في كثير من النواحي، فكما يجلس رسامو المناظر الطبيعية في السهول لمراقبة الجبال وعلى قمم الجبال لمشاهدة السهول، يجب على الحكام أن يسكنوا في المناطق التي يحكمونها. كتب مكيافيلي: «لكي تعرف طبيعة الناس جيدًا، يجب أن تكون أميرًا، ولكي تعرف طبيعة الأمراء جيدًا، يجب أن تكون من الشعب».
لدينا هنا وصف لسياسي يدخل صراعا مع الجزء الأول من عبارة مكيافيلي، وصاحب منصب يحاول التعرف على تفاصيل المنطقة التي يحكمها. ماذا تملك أوروبا المعاصرة من قوّة؟ وكيف ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يستغلها؟ أجاب ماكرون بأسلوب أميري، مظهرا الوعي بالطبيعة المحدودة لكل مجتمع سياسي، وقال: «إنّ أوروبا فانية»، على حد تعبيره، ولديها قابلية للتعرض للأزمات بشكل دوري. واختتم كلامه بدفاع متحمس عن «الحضارة» الأوروبية وحث على إيجاد نموذج لإحيائها.
ومع ذلك، وعلى الرغم من كل تطلعاته، فقد أهمل ماكرون النصف الثاني من جملة مكيافيلي، وهي أن الناس لديهم أيضًا وجهات نظر حول من يحكمهم، وهو الأمر الذي يتجاهله الحكام ويعرضهم للخطر. تجاهل ماكرون العديد من الأوروبيين الذين يشعرون أن الاتحاد الأوربي منعزل عن شعوبه، ولا يمكن الوصول إلى قادته، بل وصف خيبة أملهم ورأيهم بأنه نتيجة «لمعلومات مضللة». ورأي ماكرون ليس شيئا جديدا، فلعقود من الزمن، تجاهل زعماء الاتحاد الأوروبي عامة الناس، مما أدى إلى حرمان مواطني القارة من أي مشاركة سياسية ذات معنى. وقد أدى هذا التجاهل إلى تغيير معالم المشهد الأوروبي، مما مهد الطريق أمام صعود اليمين المتطرف.
وعندما فكر مكيافيلي في الأزمات التي شهدها عصره، من بينها الصراعات بين القوى الأوروبية الكبرى، ومستوى السخط على المسؤولين الحكوميين، وانهيار شرعية الكنيسة الكاثوليكية، رجع إلى تاريخ الجمهورية الرومانية ليحصل على الحل. وكتب: إنه عندما تكون هناك شكوك حول القيم، فإن التاريخ هو دليلنا الوحيد المتبقي. وأوضح في كتابه «خطابات عن ليفي» أن سر الحرية الرومانية، لم يكن حظها الجيد ولا قوتها العسكرية، بل في قدرة الرومان على التوسط في الصراع بين النخب الثرية والأغلبية العظمى من الناس، أو على حد تعبيره بين (العظماء) و(الشعب).
يستطرد مكيافيلي: إنه في حين أن الميل المتأصل لدى العظماء هو تجميع الثروة والسلطة لحكم الباقين، فإن الرغبة المتأصلة لدى الناس هي تجنب الوقوع تحت رحمة النخب. أدى الصدام بين المجموعتين عمومًا إلى سحب الأنظمة السياسية في اتجاهين متعاكسين. ومع ذلك، كان لدى الجمهورية الرومانية مؤسسات، مثل محكمة العوام، التي سعت إلى تمكين الشعب واحتواء النخب. وأضاف مكيافيلي أنه يمكن الحفاظ على الحرية المدنية فقط من خلال توجيه هذا الصراع بدلا من قمعه.
إلا أن أوروبا لم تستجب لنصيحة مكيافيلي. فعلى الرغم من كل خطاباته الديمقراطيّة، فإن الاتحاد الأوروبي أقرب إلى مؤسسة حكم القلة. ولا يسمح الاتحاد، الذي تشرف عليه هيئة غير منتخبة من التكنوقراط في المفوضية الأوروبية، بإجراء مشاورات شعبية حول السياسة، ناهيك عن المشاركة فيها. كما أنّ قواعدها المالية، التي تفرض قيودا صارمة على ميزانيات الدول الأعضاء، توفر الحماية للأغنياء، في حين تفرض التقشف على الفقراء. فمن أعلى الهرم إلى أسفله، تخضع أوروبا لهيمنة مصالح القلة من الأثرياء، الذين يقيدون حرية الأغلبية.
وبطبيعة الحال، فإن هذا المأزق الذي تواجهه أوروبا ليس هو الوحيد، فالشركات والمؤسسات المالية ووكالات التصنيف الائتماني ومجموعات المصالح القوية هي التي تتخذ القرارات في كل مكان، مما يقيد بشدة سلطة السياسيين، لذا فإنّ الاتحاد الأوروبي ليس الأسوأ في هذا المجال. ومع ذلك، في الدول التي تتكون من عدة ولايات، يمكن الحفاظ على مظهر المشاركة الديمقراطية من خلال الولاء لدستور مشترك بين هذه الولايات. أما في الاتحاد الأوروبي، الذي تتلخص فلسفته التأسيسية في السوق الحرة بين دوله، فإن الاعتماد على هذه الفلسفة تصعب كثيرًا حل مشاكل الكتلة الأوروبية.
يعتقد الكثيرون أن الطابع العابر للحدود الوطنية للكتلة هو السبب وراء كراهية الأوروبيين لها. ومع ذلك فإن أولئك الذين يقاومون الاتحاد الأوروبي الحالي لا يفعلون ذلك لأنه عابر للحدود الوطنيّة أكثر مما ينبغي. إنهم ببساطة يقاومون ذلك لأنه لا يمثلهم خير تمثيل. فالبرلمان الذي من المقرر أن يصوت لصالحه الأوروبيون في الشهر المقبل هو مثال صارخ على افتقار الكتلة إلى الديمقراطية، إذ إنه لا يتمتع إلا بقدر ضئيل من السلطة التشريعية، فهو يميل إلى الاكتفاء بالتصديق على القرارات التي تتخذها المفوضية. وهذه الفجوة التمثيلية هي التي يملأها اليمين المتطرف، مما يحول المشكلة إلى ثنائيات بسيطة: أنت أو هم، الدولة أو أوروبا، العامل الأبيض أو المهاجر.
ليا يبـي أستاذة النظرية السياسية في كلية لندن للاقتصاد، من لندن.
خدمة نيويورك تايمز
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الاتحاد الأوروبی ومع ذلک
إقرأ أيضاً:
160 منظمة تدعو الاتحاد الأوروبي إلى حظر التجارة مع المستوطنات الإسرائيلية
وجهت أكثر من 160 منظمة غير حكومية ونقابة ومنظمة مجتمع مدني، بينها "هيومن رايتس ووتش"، نداءً إلى الاتحاد الأوروبي يدعو إلى حظر التجارة والأعمال مع المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس.
وجاءت هذه الدعوة في رسالة موجهة إلى رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، حيث طالبت المنظمات الاتحاد الأوروبي بالالتزام بالقانون الدولي ووقف الدعم الأوروبي للمشروع الاستيطاني غير القانوني والانتهاكات المرتبطة به.
160+ nongovernmental organizations, trade unions, and civil society groups call on the European Union to ban trade and business with Israeli settlements in the Occupied Palestinian Territory. They are illegal (war crimes), and the ICJ banned assistance. https://t.co/6bZB1rurtI — Kenneth Roth (@KenRoth) February 4, 2025
وجاءت هذه المطالبات في ظل تحول الاهتمام الدولي نحو سيناريوهات "ما بعد الحرب" في غزة، وذلك بعد وقف هش لإطلاق النار، واستمرار معاناة الفلسطينيين هناك. وفي الوقت نفسه، يواصل الاحتلال الإسرائيلي توسيع مستوطناتها غير القانونية في الضفة الغربية، وتكثف من قمعها ضد الفلسطينيين.
وكانت الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي قد أدانت مرارًا وتكرارًا، وبإجماع، المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، واصفة إياها بأنها "غير قانونية" و"عقبة أمام تحقيق السلام".
كما اعترفت هذه الدول بخطورة الانتهاكات ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، حيث فرضت حزمتين من العقوبات المستهدفة ضد مستوطنين إسرائيليين.
وفي هذا السياق، أكدت "محكمة العدل الدولية"، في حكم تاريخي صدر في تموز/ يوليو 2024، على عدم شرعية المستوطنات الإسرائيلية، وحذرت من خطورة الانتهاكات ضد الفلسطينيين، بما في ذلك ممارسات الفصل العنصري.
وأعلنت المحكمة أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يعد غير قانوني، وأنه يتوجب إزالة المستوطنات، كما أن الدول ملزمة بعدم الاعتراف بهذا الوضع غير القانوني أو دعمه.
وأكدت المحكمة صراحة أن على الدول منع العلاقات التجارية والاستثمارات التي تساهم في إدامة الوضع غير القانوني الناجم عن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
وفي رسالتها إلى فون دير لاين، شددت المنظمات غير الحكومية والنقابات على أن سياسات الاتحاد الأوروبي تتعارض مع هذه الالتزامات القانونية الدولية. ورغم استثناء منتجات المستوطنات من المزايا الجمركية التفضيلية بموجب اتفاقية الشراكة بين الاحتلال والاتحاد الأوروبي، إلا أنها لا تزال تدخل الأسواق الأوروبية دون قيود.
وفي ظل الانقسامات الحادة بين دول الاتحاد الأوروبي، لم يتمكن الاتحاد من اتخاذ إجراءات ردًا على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وأفعال الإبادة الجماعية التي ارتكبها الاحتلال في غزة.
ومع ذلك، فإن الحد الأدنى المطلوب من الاتحاد الأوروبي هو أن ينسجم مع تصريحاته وأن يفي بالتزاماته بموجب القانون الدولي، وذلك من خلال حظر التبادل التجاري والأعمال مع المستوطنات الإسرائيلية، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.