عام 1975 انتبه برنار نويل صدفةً إلى إمكانية استبدال حرف S بحرف C في كلمة CENSURE وذلك لاستخراج كلمة جديدة من هذا التشويه الحرفي المتعمد؛ وهي كلمة SENSURE التي يسارع المصحح التلقائي في الحاسوب إلى تحديدها بالخط الأحمر ظنا منه أنها كتابة خاطئة للكلمة الأولى، وهي بالفعل كذلك. لكن الشاعر الفرنسي أراد من هذا التلاعب الحاذق بالحرفين، المتشابهين صوتيا بالصدفة، أن يصعِّد المعنى: فالكلمة الأصلية (CENSURE) كانت تشير على الدوام في لغته الفرنسية إلى معنى الرقابة التقليدية التي تعني ضمنيا الحرمان من الكلام، في حين تشير الكلمة المستحدثةُ منها (SENSURE) إلى ما هو أبعد وأعنف من حرمان الكلام؛ إنها تشير إلى الحرمان من المعنى كما يقول، ولأن هذا النحت الحرفي يتعذر في اللغة العربية فقد ترجم الشاعر المغربي محمد بنّيس هذه الكلمة إلى «الرقابة على المعنى»، فبهذا العبث بالحروف استطاع برنار نويل أن يدمج كلمة Sens التي تعني «المعنى» في جسد الكلمة الأصلية التي تعني الرقابة، واضعا مسافة مرئية بين مفهومين يتشابهان في النطق إلا أنهما يختلفان من حيث نوع الرقابة وطبيعة العنف في كل منهما.
وقَع برنار نويل على اكتشافه هذا في غمرة الانقسام العالمي في ثنائية الشرق والغرب إبان الحرب الباردة، عندما بدا أن الغرب سائر في تحوله إلى استعارة مُثلى تُمثل منظومة من القيم الأساسية المشتقة من مبدأ الحرية، وفي مقدمتها قيمة حرية التعبير. ولكن هل تعني، أم هل تؤدي حرية التعبير إلى حرية التفكير بالضرورة في نهاية الأمر؟ وهل يمكن للسلطة أن تمارس الاستلاب على حرية التفكير خلف قناع حرية التعبير؟
بخلاف البلدان الشرقية، كالاتحاد السوفييتي سابقا، والتي ساد فيها التكميم والصمت في ظل التعبير الشمولي الأوحد، يبدو أن السلطات في العالم الغربي عرفت كيف تحتال على حرية التعبير من خلال حرية التعبير نفسها التي يتيحها تعدد الفضائيات والمواقع والصحف ووسائل البث، أي من خلال أساليب التضليل المعتمِدة على تعدد مصادر التلقي والضخ الهائل للمعلومات المتنوعة والأخبار المتضاربة، مستثيرةً حالة من النزق المستمر والكثافة التي تُعمي في سبيل الإدهاش المتواصل على مدار الساعة.
ورغم أن الغرب كان هو المؤسس للإعلان العالمي لحقوق الإنسان بوصفه رائدا لمعاني الحرية الحديثة، إلا أن تفوقه على الشرق لم يكن تفوقا أخلاقيا، كما يرى برنار نويل في كتابه «الموجز في الإهانة»، إذ يكمن تفوق الغرب على الشرق في اكتشاف الأول «وسيلة المناورة الباهظة الثمن لأنها ذكية، لا تؤلم، بارعة، لا مرئية وناجعة». هذه الوسيلة الذكية في المناورة هي بالضبط وسيلة السلطات الغربية في الاحتيال على الحريات التي تمنحها بموجب القانون، والحديث هنا عن حرية التعبير في الأساس، التي تشمل النقد والسخرية والفن. يوجز برنار نويل هذا الاحتيال «غير المؤلم» بالإشارة في مقدمة الكتاب إلى أن الغرب «اخترعَ وسائلَ ليُبطل بطريقة سرية مفعولَ الحرية الممنوحة لمواطنيه، وأبسط وسيلة لذلك هو خلط الأخبار والإكثار منها ليجعلها تفقد دلالتها» مستفيدا، بالطبع، من شراهة الاستهلاك الذي لا يقف عند حدود تلبية الحاجة بل يتجاوز الحاجات إلى اختراع الرغبات، والرغبات إلى الشهوات التي لا تنتهي كونها عرضة دائمة لحرارة الاستثارة، ما يجعل شهية المواطن المتلقي مفتوحة على المطالبة بالمزيد والجديد.
إن صورة المواطن الأمريكي وهو يتسكع في السوبرماركت مثلا لا تختلف عن صورته وهو يتصفح مواقع الأخبار أو يقلب الفضائيات، فكلا الصورتين تستعرضان الوجه نفسه لثقافة الاستهلاك، فمن نافل القول إن ثقافة الاستهلاك اليومي تجاوزت حدود السوق التقليدية، سوق المطاعم والملابس والعلامات التجارية وكل ما يتعلق بالمعنى التقليدي للتجارة، خاصةً بعد أن تمكنت الرأسمالية العالمية، منذ صعود إمبراطورية التلفزيون حتى عصر «ما بعد الإنترنت»، تمكنت من الاستحواذ على سوق جديدة وهي سوق المعلومات والأخبار التي يمكن وصفها إجمالاً بسوق البيانات الخام.
وهنا يتجلى الاستبداد الناعم من خلال طغيان القيمة الاقتصادية على وسائل الإعلام واستحواذها على الثقافة التي هي «فكرُ الجسد الاجتماعي» على حد تعبير برنار نويل، هذا الجسد الذي بات مَصبا للتدفق الرقمي السريع عبر أذكى حواس الوعي لديه، وهما حاستا السمع والبصر، منهَكا ومشتتا من فرط تعاطي المعطيات المتنوعة: الصور والأخبار والإعلانات والآراء. إنه الحرمان من المعنى تحت عنف التشويش.
سالم الرحبي شاعر وكاتب عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حریة التعبیر الحرمان من
إقرأ أيضاً:
كلمة مرتقبة لقائد الثورة حول تطورات العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان
الثورة نت|
يُلقي قائد الثورة، السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي، كلمة حول آخر تطورات العدوان الإسرائيلي على غزة ولبنان والمستجدات الإقليمية والدولية.