بنو الأصفر وبيضة النعامة
تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT
الطليعة الشحرية
"أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضا والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال"، هكذا دأب رهط المنافقين في ترهيب المؤمنين قبل غزوة مؤتة وهي أول غزوة يخوضها المسلمين خارج حدود الجزيرة؛ وجاء الجواب بعد 200 عام على لسان أبو التمام الطائي" أَبقَت بَني الأَصفَرِ المِمراضِ كَاِسمِهِمُ /صُفرَ الوُجوهِ وَجَلَّت أَوجُهَ العَرَبِ" في رائعته الشهير "السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ" عند فتح عامورية.
غزوة مؤتة كانت بداية كسر الحاجز النفسي الذي سيطر على اذهان العرب قرونًا عديدة، وبسقوطه سقط قطب امبراطوريات تحكمت بمصير العالم، ويتبادر الى ذهني سؤال ماذا لو وقع ارجاف المنافقين في قلب المؤمنين يوم مؤتة، فكم من القرون سيحتاجها العرب لكسر رهاب بني الأصفر؟
وماذا لو استمرت كل الشياطين الخرساء بالتفرج وبصمت على كل تلك الجرائم والابادة والنزوح القسري، ببسطها لأنها دماء سُفكت بعيدًا عن عتبة داري، فهل سأعيش بسلام؟ وهل ستنتشر سُحب والهدوء والتسامح والسلام فوق سقف هذا العالم الدموي؟
لقد رأينا السلام الذي تغني وطالب وطبل له الكثيرين، بدأ من اتفاقية كامب ديفيد والتي خرقها الاحتلال مؤخرًا؛ وهم ذات الشخوص يا سادة من بالأمس عقدوا المؤتمرات لمقاومة للتطبيع والصهيونية، واليوم يتسللون من خرم الباب مطالبين بالسلام مع الكيان اللقيط. ولتحقيق بُغيتهم ينشؤون تحالفات وتكوينات كتحالف "كوبنهاجن للسلام"، شغله الشغال التطبيع والمداهن ومسايرة التيار. انهم رهط من المثقفين والبرلمانين والمفكرين والفنانين وممثلي الأحزاب يرفعون ذات الشعار الذي رُفع قبل 1400 عام قائلين " أتحسبون جلاد اللقطاء والامريكان كقتال بعضكم بعضًا"، فهيهات أين لنا اليوم بأبو تمام؟
روزا السوداء وهند البنية...
أعلمت روزا باركس السمراء التي رفضت التخلي عن مقعدها في حافلة النقل العام في ديسمبر 1955 بعد يوم طويل من العمل على ماكينة الخياطة في مونتغمري عاصمة ولاية ألاباما الأميركية، بأنها ستتحول إلى مصدر الهام للعديد من قادة حركة الحقوق المدنية والمقاومة السلمية للظلم الاجتماعي، وانتشرت دعوات لحملة مقاطعة حافلات مونتغمري من قبل جميع الكنائس السوداء، وكان هدف المقاطعة هو الاستمرار حتى يحق للجميع ركوب الحافلات بشكل متساو وحر، والحق في الجلوس بأسبقية الحضور.
ولم تعلم هند رجب التي استشهدت قبل شهرين في غزة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي وهي محاصرة في سيارة ومحاطة بجثث أقاربها الذين استشهدوا على يد الجيش الإسرائيلي، لم تعلم أن طلاب جامعة كولومبيا قد اعتصموا في قاعة هاملتون الشهيرة بجامعة كولومبيا، وأطلقوا عليها اسم "هند" تخليدا لذكرها، التي استشهدت قبل شهرين في غزة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي وهي محاصرة في سيارة ومحاطة بجثث أقاربها الذين استشهدوا على يد الجيش الإسرائيلي. ولم يعلم الطفل الفلسطيني الذي تخطى حدود السياج في معبر رفح خوفا من القصف الإسرائيلي العنيف الي الجانب المصري بأنه سيتعرض لضربٍ مبرح سيكون اقل وقعًا أن جاء من يديٍ محتلة، بل وأجزم لو الذي تخطي السياج اسرائيليًا لن يلحقه ضرر وسيقابل تجاوزه كل تفهم بلا غلظة وشّدة.
إنها بعض قُصاصات من ورق اخبار تضحك وتخزي بحزن، كل تلك الاشعار والاغاني عن القومية والعروبة والجيوش العربية تبخر فوق سياج معبر رفح، والكثير منا يتساءل هل الجيوش العربية نعمة أم نقمة؟
أسدٌ عليّ وفي الحرب نعامة...
مثّلت الجيوش في وضعها الطبيعي حصنًا للأمة ودرعًا لمواجهة المخاطر والتحديات، وبذلك تكتسب أهمية بالغة في الوجدان الشعبي، بوصفها أداة عزة، ووسيلة لحفظ البيضة وصيانة الكرامة. وترتكز العقيدة العسكرية على قيم الشجاعة والنجدة والعزة والتضحية بالغالي والنفيس من أجل الوطن والمواطن وتحتفي الأمم والشعوب بالجيوش من هذا الطراز لأنها تستحق كل ما يبذل من أجل رفع معنوياتها، وتمكينها من مقومات التفوق والانتصار، حتى تؤدي المهمة النبيلة المنوطة بها. والجيوش التي تتخلى عن عقيدتها العسكرية وقيمها تسقط وجدانيا في الضمير الشعبي وتشكل مساحة من الفراغ وبيئة خصبة لارتفاعات الفصائل والمليشيات المرتزقة. واختلال موازين القوى يسهل العربدة والمفسدة وتأمن إسرائيل ولنا في انهيار الجيش العراقي عبرة، فقد تحولت العراق من دولة نفطية ثرية ذات سيادة إلى دولة تمسك بزمام سياستها الفاشنيستا وسيارات الجي كلاس.
فساد العقيدة العسكرية أحد اهم الاستراتيجيات التي يسعى الكيان اللقيط والإمبريالية الصليبية الصهيونية الى تحقيقها، في أحد اهم الأهداف القومية للكيان الإسرائيلي، وحسب ما استشرف الدكتور عبد الواهب المسيري عن الاستراتيجيات الإسرائيلية المستقبلية كانت سته مداخل أساسية يأتي على رأسها "بلقنة الدول العربية"، نسبة إلى ما حدث في دول البلقان.
مشروع البلقان
والبلقان منطقة جغرافية أوروبية؛ تقع جنوب أوروبا وتعد من أفقر مناطقها وأكثرها تشعبًا من الناحية الثقافية والعرقية. زشهدت حروبًا أهلية دموية أشهرها حرب البوسنة (1992- 1995) وبسبب هذه الحرب ظهر مصطلح "البَلْقَنة" وصار مرادفًا للتشتت والانقسام والصراع. ومع انهيارِ المعسكر الشرقي شهدت أغلب دول البلقان ثوراتٍ شعبية تطالب بالديمقراطية ومع نهاية الحرب الباردة بروز كيانات قومية جديدة خرج أغلبها من عباءة يوغسلافيا السابقة.
وترى إسرائيل أن مشروع "بلقنة" الدول العربية أولوية قومية، وهدفًا استراتيجيًا؛ فهي قناعة وعقيدة عسكرية صهيونية لا سلام مع المنطقة إلّا بفتيت وتقسيم الدول العربية الى كيانات طائفية وقوميات جديدة، وربط الاقتصاد العربي بنظيريه الإسرائيلي وجعله تابعًا لها.
ولن تتحقق بلقنة الدول العربية الى بتشويه العقيدة العسكرية وتفتيت الصورة الوجدانية الشعبية في نفوس العرب. ولذا كان اسقاط هيبة الجيش العراقي أولوية، وهذا ما حاول الاحتلال الأمريكي فعله بصدام حسين قتل الصورة النمطية للهيبة والقوة. وبتصاعد مجريات اجتياح رفح بالتزامن مع اثارة نعرات ونزاعات مشبوهة تؤرق مضاجع المراقبين، فهل اقتربت ساعة السقوط المدوي لعقيدة عسكرية أخرى، نتكهن ولا نتمنى!
بداية الطوفان نقمة..
أعادت الاحتجاجات الطلابية في الجامعات الامريكية بالذاكرة الى فورة التظاهرات التي عمت الولايات المتحدة رفضًا للحرب في فيتنام. وسبقت بأشهر حراك عرف بـ"ربيع براغ" شهدته تشيكوسلوفاكيا- آنذاك- مطالبين بالتحرر من قبضة الاتحاد السوفييتي وتكفلت الدبابات السوفييتية بسحق أحلام الحالمين في "ربيع براغ" ودفنت مؤقتًا وعاد للانتفاضة مرة أخرى عند قيام الثورة المخملية وانهيار "جدار برلين" وسقوط الشيوعية.
الاحتجاجات الطلابية الامريكية مطالبها واضحة إيقاف التعاون الأكاديمي والدعم المالي، في حالة تضامن ودخول أحزاب خارجية الى التضامن الطلابي ستتسع رقعة المناهضين ويرتفع سقف المطالبات وصلا الى نقطة تغير السياسيات.
قد يتوقف الحراك الطلابي غدًا، ولكن بعد احداث شرخ عمقين بين ما يتم تعلمة نظريًا وما يطبق عمليًا وسترتفع النقاشات والتساؤلات حول قيم ومفاهيم "الحريات" التي أسست بموجبة الدستور الأمريكي.
المواطن الأمريكي والغربي ناقم ومستفز فقد تم استغلاله لفترات طويل باسم الحرية والتحرير، وبفهم أوسع لخارطة الحراك الطلابي، يمكن القول إن هذه الحادثة فجّرت مكامن الغضب المتزايد لدى عموم الشباب الأمريكي، لكونها تُمثل تجاوزًا صارخًا لقيم الديمقراطية الغربية، وظهرت وكأنها محاولة لتمرير الإبادة الجماعية في غزة بصمت ودون أي معارضة. اللافت في الاحتجاجات الطلابية الأمريكية أن المشاركين فيها هم من مجموعات وخلفيات مختلفة؛ فهي تضم أعضاء حزب العدالة والتنمية عربًا ومسلمين وأمريكيين ليبراليين، بينما تتألف جبهة التحرير الشعبية أساسًا من يهود ليبراليين مُناهضين للصهيونية، وكثير منهم يقودون هذه الاحتجاجات بشكل مدهش، كما ظهرت في هذه الاحتجاجات شخصيات يهودية بارزة مثل الكاتبة الحائزة على جوائز نعومي كلاين، الأمر الذي سلط الضوء على تنوع واتساع الدعم للقضية الفلسطينية.
فشل نيتياهو في بلقنة الضمير الشعبي بوصفه للاحتجاجات الطلابية الامريكية بانها "معادة للسامية" داعيًا بالنص إلى "قمعها"، ووصف الوضع في الحرم الجامعي بأنه "مُروِّع" فضلًا عن زعمه أن "الغوغاء المعادين للسامية استولوا على الجامعات الرائدة". لقد دحض الطلاب اليهود المشاركين في الاحتجاجات هذه التصريحات، مؤكدين أن أفعالهم تمثل انتقادات للسياسات الإسرائيلية، وليست تعبيرات عن معاداة السامية.
في عالمنا العربي الذي يعُج بالخاملين يتأسدون على المُستضعفين وينتظروا بلقنة أوطانهم بعد فساد عقائد عسكرهم، لعل وعسى تكسر بيضة النعامة وتلد لنا أبو تمام، فعذار بني الأصفر، قد كان "السَيفُ أَصدَقُ أَنباءً مِنَ الكُتُبِ.. في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ".
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً: