في الذكرى الأولى للرحيل: محمود بكري صحفي من الزمن الجميل
تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT
في مثل هذه الأيام قبل عام مضى، رحل عن دنيانا صحفي نابه من الزمن الجميل، جمع بين الثقافة الواسعة إلى حد نيله لدرجة الدكتوراه في «الإعلام ومكافحة الإرهاب»، وبين الموقف الوطني والقومي الملتزم تجاه قضايا الأمة وفي مقدمتها قضية فلسطين وبين خدمة بسطاء الناس الطيبين في صمت وخفاء وخاصة عندما تولى موقعه كنائب عن الشعب في مجلس الشيوخ، إنه الصديق الحفي المتميز محمود بكري الذي رحل عن دنيانا يوم 10/5/2023.
اليوم تحل ذكراه والأمة منشغلة بما يجري في غزة وفلسطين التي كانت دوما في قلبه وعقله لا تفارقه أبدًا، ولعل أبلغ تعريف بالرجل هو البحث في سيرته عن الكيفية التي ترجم بها قناعاته في الوطنية وحب فلسطين والدفاع عن وطنه ضد (طيور الظلام ) من خوارج وإرهابي ودواعش هذا الزمن فكيف فكر وترجم (محمود بكري ) قناعاته الكبيرة؟
أولا.. وبداية تعود معرفتي بمحمود إلى النصف الثاني من الثمانينات وبالطبع تمت المعرفة عن طريق الأخ الأكبر له وصديقي منذ نهاية السبعينات مصطفي بكري، طاقة الوطنية وشعلة العمل الإعلامي بلا جدال، وهي طاقة وشعلة عرفتها عن مطصفى بكري، منذ التقينا في مجلة الموقف العربي، التي كان يصدرها استأذنا الراحل المفكر والصحفي القومي الكبير عبد العظيم مناف، وكانت المجلة ساحة اللقاء بأجيال من المناضلين من الكبار والشبابن من جيل الكبار الدكتور حامد ربيع ومحمد عودة وغيرهما، إلى جيل الشباب: أسامة عفيفي وضياء رشوان وعبد الله السناوي ومحمد حماد ومصطفي بكري وعشرات القامات المتميزة في الفكر القومي الناصري وكنا جميعا في سن الشباب، كان أغلبنا لا يزال خريجا حديثا من الجامعة مع نهاية السبعينات، هناك التقيت بمصطفي بكري وبدأت علاقة تقدير ومحبة لا تزال مستمرة حتى اليوم 2024
بعد عدة سنوات تعرفت علي الشاب القادم من صعيد مصر، محمود بكري، وبأصالة متميزة وشخصية هادئة تأسرك في أول لقاء مع ثقافة والتزام قومي ناصري دائم الوضوح في نقاشاته، وتعددت اللقاءات وتقاطعت مجلات العمل والاهتمام وتوالت السنين، وأتذكر اليوم أنه وفي العام 1986 أسس محمود بكري دارا للنشر أسماها «دار العروبة للصحافة والنشر والتوزيع»، ويومها نشرت لي عدة دراسات في مجلات عربية متخصصة عن الضفة الغربية وقطاع غزة، ولأن فلسطين بكل قضاياها كانت حاضرة وبقوة في عقل محمود بكري، إذ به يعرض علي نشر تلك الدراسات في دار نشره الجديدة وبالطبع كان الصديق الأكبر مصطفي بكري مواكبا وحاضرا في كل تلك المعارك، وصدر الكتاب الذي نرفق صورة غلافه النادرة مع هذا المقال، وظل محمود بكري منافحا عن فلسطين في كل المواقع الإعلامية التي تواجد فيها لاحقا من جريدة «الشعب» إلى جريدته الأساس والأشهر «الأسبوع» مرورا بتولي إدارة مكتب تليفزيون المنار في القاهرة إلى تليفزيون صدي البلد، وعشرات المواقع الأخري العربية والمصرية.
ظل محمود بكري، فيها علي ثوابته القومية والوطنية وكنت أتابعه دائما وأحاوره كثيرا بمحبة الأصدقاء.. فأجده كما هو ثابت علي مواقفه تجاه قضية الأمة المركزية وبنفس الحماس الذي عرفته به منذ يوم لقاءنا الاول مع نضج في الرؤية وتوسع في الثقافة.
ثانيا: وبعد كل تلك السنين أتذكر عشرات الكتابات لمحمود بكري يدافع فيها عن القومية وعبد الناصر عندما تكالب أعداء الثورة علي نقدها واليوم ا أتذكره و هو يقول في رؤية متدفقة بالحماسة والوعي الناصري يقول في أحد أهم مقالاته في «الأسبوع»، دفاعا ومحبة لعبد الناصر يقول: سؤال يشغل كل المصريين، والبلدان القريبة، والبعيدة: لماذا لا يزال الزعيم الخالد «جمال عبد الناصر» حيًّا في الذاكرة، بينما غاب آخرون، ولم يعد لهم حتى مجرد ذكر، ولو عابرًا الإجابة، تأتى من قلب حقول الفلاحين، ومساكن العمال الغلابة، ومن داخل الطبقات التي علَّمت أولادها، وأهَّلتهم لأعلى وأرقى المناصب، بفضل جهد رجل، انحاز لأمته، والبسطاء فيها، اسمه «جمال عبد الناصر».
أحب الناس «عبد الناصر» وخلَّدوه في قلوبهم، لأنه ما نطق إلا صدقًا، حين إنحاز للفلاح المصري، وملَّكه خمسة فدادين، يربى منها أولاده، ويستفيد من زراعتها، ويفيد بلده فيما ينتجه من محاصيل، وما فعل إلا خيرًا، حين شيد قلاع المصانع، في معظم محافظات مصر، وأقام الصناعات الثقيلة في ربوع الوطن، وشيَّد مساكن للعمال فى كل بقعة، وملَّكهم مساكنهم، ضمانا لمستقبلهم ومستقبل أولادهم، أحب المصريون عبد الناصر، لأنه أقام المدارس، والجامعات، فتعلم أبناء الفقراء
ثالثا: عندما اراد الاخوان واالدواعش الجدد من الجماعات المتطرفة حكم مصر بالاكراه فثار الشعب المصري وجيشه الوطني العظيم في ثورة مليونية ثورة يونيو 2013 كان كل الوطنين الشرفاء حاضرين ومدافعين بقوة وعن قناعة بتلك الثورة وواعين بأنها أعادت لمصر روحها وشخصيتها التي أراد الاخوان سرقتها منها.
محمود بكري كان حاضرا بمواقفه السياسية القوية وأيضا بقلمه وأتذكر له الكثير في هذا الموقف التاريخي للامة وعلي سبيل المثال لما كتبه ولازلت اتذكره جيدا وإتصلت به أهنئه عليه، يقول ثورة يونيو 2013 كانت بمثابة طوق النجاة الذي أنقذ البلاد والمنطقة كلها من مصير فوضوي محتوم، وكانت أيضًا انتصارًا لإرادة شعب رفض التطرف والمتاجرة بالدين، ثورة أصلحت حال مصر الذي أصابه الاعوجاج، واستعادتها ممن كانوا يسعون إلى هدمها والمتاجرة بمقدرات شعبها، ثورة شعب أراد الحياة ضد فئة ضالة نشرت ثقافة الموت والتخويف، واعتقدت ضلالاً أن الوصول إلى كرسيّ الرئاسة يعني حقهم في أخونة مؤسسات الدولة، ومن ثم الهيمنة على المجتمع وتطبيق أفكارهم ومفاهيمهم على فئاته الاجتماعية والسياسية من خلال الإرهاب المنظم.
إن ثورة 30 يونيو كانت خطوة فاصلة في تاريخ مصر ومستقبلها، ولحظة فارقة بين الموت والحياة، بعد أن عاشت البلاد، على مدى عام كامل، تحت حكم جماعة متطرفة تتاجر بكل شيء من أجل مصالحها) وقد صدق في هذا التحليل وصدقته الوقائع التاريخية قبل يونيو 2013 وبعده!
خلاصة الأمر، إن الصديق الراحل الصحفي النابه محمود بكري بالاضافة لمواقفه القومية والوطنية المشهودة تلك وغيرها، تمتع أيضا بصفات إنسانية وأخلاقية رفيعة حببت الناس فيها لانه كان فعلا يحب الناس ويسعي في خدمتهم بلا مقابل، ولدي عشرات المواقف والشهادات لأهل قنا، حيث ولد في إحدي قراها الطيبة، قرية المعنا، وأهل حلوان، حيث مارس النشاط السياسي والبرلماني الواسع.
محمود بكري، الذي توفاه الله وهو يقترب من الستين عاما وبعد صراع سبعين يوما مع المرض.. أصدر قبل وفاته كتاب غاية التشويق والتوثيق أسماه «المشي على الأشواك» عن قصة حياته مع رفيق عمره أخاه الأكبر مصطفي بكري، أنصح بقراءة هذا العمل المبدع والمكتوب بلغة راية متميزة جميلة، لا أبالغ وفي الذكرى الأولى للرحيل، أنني أفتقدت على المستوى الشخصي، صديقا عزيز وإنسانا طيبا معطاءا لا يحمل قلبه كراهية لأحد، كان متصالحا مع نفسه، في صفاء إنساني تلمحه في عينيه عند اللقاء، رحم الله المثقف الوطني محمود بكري، الإنسان الجميل من الزمن الجميل.
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: رفعت سيد أحمد عبد الناصر محمود بكري مقالات عبد الناصر محمود بکری
إقرأ أيضاً:
ميلاد عام جديد ورحيل آخر !
بعد أيام معدودة، سنجد أنفسنا ندخل عاما ميلاديا جديدا، رقم آخر يضاف إلى مسيرة حياتنا على الأرض، وميلاد عام هو بالنسبة للكثيرين من الناس عبارة عن حلم آخر يأتي إلى الحياة بصرخات الوجع والاشتياق، ورغم ذلك سيضاف إلى ما تبقى من أمنيات سابقة لم تتحقق حتى هذه اللحظة.
يسير بنا قطار الحياة متجاوزا كل المشاهد والأحداث التي لا نفيق أو نتعلم من مرورها، بل نحن كجمهور يحضر عرضا مسرحيا يضحك ويتأثر قليلا ثم يكمل حياته، كذلك هو قطار العمر لا يتوقف إلا عندما يحين موعد النزول وهنا نستشهد بمقولة رافقتنا دهرا وجب علينا ذكرها فهي تقول: «كنا نعتقد أن الغد أجمل، حتى كبرنا واكتشفنا أن الجمال الحقيقي كان بالأمس وليس في الغد».
بالأمس كان معنا الونيس والجليس، أما اليوم، فنحن نكمل مشوارنا وقد فقدنا الكثير من رفقاء الرحلة والمزيد من القوة على مواصلة الحياة بكل ما فيها من مظاهر استحدثها البشر بمسميات مختلفة ليطمسوا قليلا من وجه الشقاء الإنساني والتعب الذي ينهك أجساد البشر.
واقعنا الحالي يشدنا نحو عباءة الفرح الذي يستمد قوته من الاعتقاد بأننا سنترك عاما قديما قد مضت أيامه وشهوره، لذا علينا كغيرنا من الحالمين بوهج السرور أن نبتهج بقدوم عام جديد، فعليا قد نجهل ماذا يخبئ في جعبته من أحداث لكنه عام ربما أفضل من الذي سيسقط قريبا في خانة الذكريات، نشعر بأن هناك أملا بحجم السماء والأرض سيخرج إلى الوجود، واعتقاد أن ما قد مضى من أوجاع شعر بها العالم ستسقط هي الأخرى في «مزبلة التاريخ أو مقبرة الزمن»، في هذه الأيام القليلة نشعر بأننا بحاجة إلى معانقة أرواحنا المتعبة ولملمة أوراق الخريف المتطايرة، نحس أن هناك شوقا خفيا جديدا يشق طريقه في صدورنا، قد يكون مبعثه ومنبعه يأتي من ذلك الحلم الذي راودنا طويلا وانتظرناه أكثر مما ينبغي وهو العيش بسلام دون ألم أو فقد أو حزن على ما مضى من الزمن.
ستنجلي ظلمة الليل ويأتي صباح يتنفس كعادته من رئة صحية، يخرج إلينا في صورة بهجة تملأ القلب سرورا وتجعل من شرايين القلوب تتدفق دماء نظيفة، ومشاعر طفولية هي الأخرى ستولد قريبا في إحدى حجرات القلوب المعبأة بنبض كان منخفضا في لحظات البؤس والانتظار، أما مراكب الأيام فستبدأ هي الأخرى تشق عباب الزمن وما تبقى من أعمارنا فيها ونحن لا نزال في قطار الحياة.
اعتدنا منذ أن أبصرنا ضوء الشمس أننا نسير في طريقنا دون أن نعلم شيئا عن الغيب؛ لأنه بيد الله تعالى، لكن ما نعرفه تماما هو أن الأيام ستنقضي سريعا كطيف عبر دون أن نحس به، أو عبارة أخرى هو حلم تجلى ثم تبخر مع صرخة ألم من قلب مفجوع برحيل مفاجئ أو متوقع لقلب عانى كثيرا من الصدمات والمرض.
تقول الروائية والقاصة السعودية ليلى الجهني، في كتابها «في معنى أن أكبر»: «إنني أكبر وأنفق جل وقتي كي أفهم الزمن، فلا أفهمه، لذا أشعر أنه عدوي الخفي الذي يضرب دون أن يكون باستطاعتي درء ضرباته عني. لا أعرف كيف يمضي؟ ولِمَ يمضي؟ وكيف أننا نحيا فيه ونعجز أن ندركه كما ينبغي له؟ أهو شيء يمرُنا ونمرُه، أم حال تعترينا؟ وإذا مضى فإلى أين يمضي؟ أين تذهب كل أعوامنا التي تغادرنا؟ ولِمَ لا يمكن أن نحتفظ بها في مكان ما كثيابنا وأشيائنا العتيقة»؟.
أبعد ذلك نسأل: هل علينا أن نقفز فرحا كلما تقدمنا في العمر سنة كاملة؟!، هذا يذكرني تماما كلما احتفلنا بعيد ميلادنا السنوي، نفرح لأنه يوم مولدنا، لكننا نجهل أننا نفقد عاما كاملا من حياتنا في الحياة !.
إذن هل علينا أن نحتفل كغيرنا من شعوب الأرض بعام جديد رغم أن جراح العام الذي لم تنته ساعاته بعد لا تزال ندية مخضبة بدماء الأبرياء وبكاء الثكالى ويتم الأطفال في مدن الموت والألم؟ ينقسم العالم بين محتفل بقدوم عام جديد، وقسم ينظر إلى الآمال المعلقة أن تتحقق ليشعر بالسلام والأمان غيره من شعوب الأرض المعذبة بنزاعات وحروب ودمار لا تتوقف! لدينا شعور مكتمل النمو بأن الشمس ستشرق يوما، وسيكشف ضوء النهار عن جراح نزفت على أرض التقمت أجساد الأبرياء، سنفرح يوما عندما نشعر أن الحرية هي جزء من فرح لا يعكره محتل أو غاصب أو حاقد، ستشرق قريبا شمس هدنة تضع الحرب أوزارها، ويعيد الأبرياء ترقيع قلوبهم التي مزقتها الحروب.