رد الاعتبار لمحاكم نميري للعدالة الناجزة: نحو منهج ماركسي حيال الدين (1)
تاريخ النشر: 11th, May 2024 GMT
عبد الله علي إبراهيم
(كنت رغبت في إشراك شباب الكتابة والفكر في تجربة الحزب الشيوعي في التعاطي مع engaging الدين بعد حل الحزب في 1956. فخرجنا بغصة من ذلك. ونظر أستاذنا عبد الخالق محجوب في المسألة لما رأى أننا لم نملك إزاء تلك المحنة سوى القول إن الكيزان وأزهري استغلوا الدين لمأربهم. وعلى صحة هذا القول إلا أن أستاذنا لم يرغب في صرف الأمر "كاستغلال للدين" وكفى، أي أنه رفض الاكتفاء بما يُعرف ب "الأداتية" وهي التغاضي عن كثافة الحضور الديني في مجتمعنا واختصاره في أشرار يطوعونه لمآربهم فلا تملك مع الدين ومعهم بالنتيجة سوى لعنهم كما تلعن إبليس.
ووجدتني اتبنى خطة أستاذنا وأكاد اتفرغ لها منذ عقود. ووجدت في محاكم نميري الإيجازية (1984) سبباً للاشتباك مع من عدوها مجرد أداة لسفاح يريد إطالة عمره في الحكم وبس. وتوافرت على هذا المشروع البحثي لأنظر لما وراء استغلال نميري للدين، أي إلى كثافة حضور الدين فينا بما يجعل استغلال نميري له احتمالاً في شرطه وزمانه.
أعرض أدناه مشروعاً بحثياً أعيد فيه النظر في محاكم نميري للعدالة الناجزة طالما كنا في سيرة نميري وميل البعض لمراجعة عصره عسى أن نقف على نفع منه يُجزى به. والمشروع بحاله هذا مستمد من الفصل الرابع من كتابي "هذيان مانوي: تفكيك القضائية الاستعمارية والصحوة الإسلامية في السودان، 1898-1985، دار برل بهولندا، 2008، (بالإنجليزية).
حاولت في هذا الفصل تجاوز مفهوم "الأداتية" الذي تواضعت الصفوة في تفسير تحليل لفة نميري للدين ومحاكمه التي تأسست عليها. والأداتية هي أن يجعل الحاكم وغير الحاكم من الدين مطية لأغراضه السياسية والدنيوية. وتُوجز المفهوم عبارتنا "استغلال الدين".
لقد أعفانا مفهوم الأداتية من الغوص في نصوص وديناميكية الدين كما ينبغي لمن تولى أو سيتولى شعباً كثيره مسلم. فكل الإسلام "سياسة" في منظر الأداتية ولا يقع عليه إلا كل مستغل أشر. فالدين بحسب هذا المفهوم مطية للصفوة ولغمار الناس "الإسلام الشعبي" وهو الذي خالطته "الوثنية الأفريقية" في رأي ترمنغهام فلا نفع منه ولا خطر.
سألت نفسي: هل يواتي الدين كل مستغل في كل زمان ومكان أم أن هناك أشراطاً تقع في المجتمع فتزكي لأهله دينهم كمفتاح للفرج فيستصحبها "المستغل"؟ ونظرت حولي في الولايات المتحدة فوجدت من أراد استغلال الدين وتوظيفه مثل منكرو نظرية التطور، أو مثل القاضي الذي أراد الحكم بالوصايا العشر. ولم ينقاد لهم الدين لأن المجتمع لم يتهيأ لهم. وربما تهيأ يوماً.
لمّا اكتفينا من تديين الدولة بمفهوم الأداتية الذي يقصر الدين على صفوي غيتون (وهو مستغل الدين في عرف الناس مثل الذي صلى وصام لأمر كان يقصده) غاب عنا تديين المجتمع الحر في دورة من دوراته ومطلبه للعدل والسوية من بين صفحات دينه. وعلى ما اشتهر من عبارة ماركس عن الدين أفيون الشعوب (الأداتية) إلا أن له كلمة منسية هي قوله إن الدين روح عالم بلا روح.
مشروع البحث:
تريد هذه الورقة رد الاعتبار البحثي لتجربة الرئيس نميرى في تطبيق الشريعة وتأسيس مفهوم "العدالة الناجزة" ومحاكمها خلال السنوات 1983-1985 (الكباشي 1986، 1987). ففي سبتمبر 1983 أعلن النميري الشريعة قانوناً للبلاد بديلاً للقوانين الوضعية المستمدة من القانون الإنجليزي. وتم ذلك الإعلان في ذيول إضراب للقضاة توج نزاعاً طويلاً بين الرئيس والقضائية حول قضايا استقلالها (خالد 1985، 1986، 1990، 1993). وتجسد ذلك النزاع في مفهومين للعدالة. زكى النميري مفهومه للعدالة الناجزة وكان بمثابة نقد للقضائية التي تراكمت القضايا أمام محاكمها فأضجرت المتقاضين مستعصماً بالقول إن تأخير العدالة حجب للعدالة. ومن الناحية الأخرى، تمسك القضاة، الذين ردوا تأخير العدالة لضآلة المنصرف عليها، بمبدأيهم أن العدالة المستعجلة مثل الظلم سواء بسواء. وبتحكيم الرئيس للشريعة، أحال القضائية القديمة للاستيداع. وأنشأ قضائية جديدة تحررت بزعمه من عقابيل الاستعمار تسرع محاكمها الناجزة بالأحكام لبسط عدل الشريعة بواسطة قضاة عدول لا مجرد قضاة (زين 1983).
المهنيون والسياسيون المنتقصون من تجربة النميري أوسعوا قانونها ومهنيتها نقداً جعل محاكمها سخريا تحاشاه حتى الباحثين ونبذوه. وأكبر مآخذهم عليها أنها كانت أداة في يد طاغية رأى أطراف حكمه تُنتَقص فطلب تطويله باستغلال الدين. ومثل هذا الطعن في المقاصد مما عرف مصطلحاً ب"الأداتية" أو "التخليب". فوصم نقاد النميري تلك المحاكم بخيانة المهنة لخضوعها للحكومة، واقترافها تجاوزات فاحشة مثل إعدام المصلح الإسلامي المسن محمود محمد طه، واخضاع غير المسلمين لحدود الشريعة (النعيم 1986).
وتسلم الورقة بصحة أكثر هذه الانتقادات التي جعلت تلك العدالة مجرد مخلب سياسي لنميري حتى قال محمد زين إن جوهر محاكم النميري هو العداء للقضائية "المشاغبة" القائمة آنذاك (1983). إلا أنها تذهب أبعد وتناقش أسلمة الرئيس نميرى للدولة في ضوء الجدل الدائر حول الجريمة والعقاب الذي اجتاح القضائية والمجتمع بأسره في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي. وسنقف بخاصة عند "الغضبة للعدالة" التي سرت في ذلك الخطاب المؤرق بقصور الدولة عن إنفاذها، وكذلك عند تحول الناس بفلسفة العقاب من الإصلاح والتهذيب الحداثي إلى السن بالسن الدينية.
وسنحلل خطاب الجريمة والعقاب والغضبة للعدل على خلفية الاقتصاد السياسي الذي تولد منه. وعُرف بين الباحثين ب "اقتصاد المغتربين" (سيد أحمد 1996). وهو اقتصاد اكتنف 3 بليون دولار في أعوام 1984-1985 هي تحويلات 650000 سوداني مهاجر للجزيرة والخليج بإحصاء 1990. وأفرخ ذلك الاقتصاد جرائمً استجدت وشاب لهولها الولدان دارت حول خيانة الأمانة والاحتيال. ورأى فيه المسلمون "باطلاً". وهذا منشأ لوصفنا له ب"اقتصاد الباطل" بالنظر إلى وقائع محكمة جرت في 1979 استشهد المدعي فيها بالآية: "وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ" من فرط "كفرانية" الجريمة المعروضة على المحكمة. وذهب اقتصاد الباطل بعقول الناس وأنكر الناس زمانهم. وكانت الدولة أكبر ضحايا هذا الباطل. فقد أفرغها المجرمون من وظيفتها وشاراتها بتزوير وثائقها المختلفة. وتحرج من ذلك كله غمار المسلمين وفروا إلى دينهم في سياق صحوة دينية متعددة الوجوه.
يطعن في رجاحة خصوم النميري، الذين وصفوا عدالته الناجزة كمجرد "تخليب" للدين، في دلالة جعله أداة لغرض دنيوي سياسي، أن التخليب هو نفسه بحاجة إلى تبيين ناهيك أن نفسر به الصحوة الإسلامية. فهو من مصطلح ثقافة الصفوة غربية الهوى، بما فيها الإسلاميون أنفسهم، ومحصلة من حروب هوياتهم. فحرام على الدين عند أكثرهم أن يطأ ساحة السياسة وإلا كان في "حالة ت" تسلل". ومنعاً لقصر صحوة المسلمين عند صفوتهم رغب ركس أوفاهي، المؤرخ للسودان، أن يقع على وصف للصحوة، وعدالة النميري الناجزة فصل كئيب من فصولها، يذهب في تفسيرها إلى أبعد من "ثقافة ونزاعات وتواريخ الصفوة غربية المنشأ" (أوفاهي 1996). والسبيل إلى ذلك أن ننظر إلى جذورها بين المسلمين كطرف أصيل في الإحياء الإسلامي لا موضوعاً له.
ونواصل
IbrahimA@missouri.edu
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الثالوث الذي دمر حميدتي
تظلّ دراسة الخصائص الشخصية والنفسية للقادة- مدنيين كانوا أم عسكريين، متفقين معهم كنا أم مختلفين- أمرًا مهمًا يكتسب أهمية قصوى في سياق الحاجة لمعرفة توجهاتهم وطرق تفكيرهم، وهو ما يساعد على القراءة والتنبّؤ بخطواتهم اللاحقة وبكيفية تعاملهم مع المواقف والأحداث.
وحين تكون الشخصية محل الدراسة، مؤثرة في حياة الناس سلبًا أو إيجابًا تزداد أهمية ذلك، فعلم النفس حول سلوك وسمات القادة الفعّالين، يكشف كيف يؤثر القادة على مواقف أتباعهم وسلوكياتهم وأدائهم.
تلك كانت مؤشرات الدراسات الاجتماعية والنفسية حول القادة، وهنا نحن أمام حالة ربما يعجز حتى علم النفس الحديث عن سبر أغوارها وتناول شخصيتها التي حطّت رحالها على عجل في المشهد السياسيّ والعسكريّ السوداني، فهي بلا تاريخ ولا حيثيات مقنعة لتتصدر كلّ هذا المشهد، ولتلعب كل هذه الأدوار الخطيرة والمدمرة.
إنها شخصية قائد مليشيا الدعم المتمرد السريع محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، ومن خلال هذا المقال تلمس نشأتها في بواكير حياتها الأولى ليتضح من غير عناء أن شخصيته كانت أقرب (للمادة الخام) التي لم تُستصلح خامتها بالتطوير ولم تكتسب قيمتها بالإضافة.
فهو لم ينل حظًا وافرًا من التعليم، فقط مجرد إنسان بدوي بسيط على سجيته اكتسب شيئًا من طبائع البادية، حيث يولد الناس هناك أغلبهم أذكياء بالفطرة وشجعان بالميلاد، تطغى فراستهم على خوفهم وصدقهم على كذبهم، ورعايتهم للعهود على خيانتهم لها، بهذه الشخصية (الخام) وبكثير من الطموح القاتل الناتج عن الحرمان، ولج حميدتي المدن ودخل العواصم، ثم رأى الحضر وأهله لتختلط عليه الأمور متناسيًا البادية وأهلها، ومتخلّيًا عن طبائعها.
إعلانوحول أخلاق أهل البادية يرى ابن خلدون أنها في المجمل مكان لجملة من الفضائل الإنسانية فيقول: (البدو أقرب إلى الخير من أهل الحضر وإن البادية أصل العمران، والأمصار مدد لها)، ثم يرى في كتابه أن الحضارة (تضعف من يملك أسبابها، ويستسلم لنعيمها، فتفسد الحضارة طبعه، ويستولي عليه الترف، فيفسد ويضمحل). وفي فصول أخرى، يبدأ ذمَّه لبعض حالات البداوة، وانتقاصه من شأنها.
بهذه الخصائص الشخصية والأوصاف النفسية دخل الجنرال في الدنيا الجديدة بكل تعقيداتها وتشعباتها العصية على مدارك فهمه وقدرة استيعابه، هناك حيث عِلية القوم وأكابر الناس، وحيث القادة العسكريون الحقيقيون تملأ النجوم والنياشين أكتافهم، تفتح لهم الأبواب وتصطف لهم طوابير الشرف، فيها رأى أصحاب المال والأعمال وخالط الأثرياء واحتك بالعوائل الغنية.
في هذا العالم الجديد حيث مباهج الحياة ومغرياتها، دخل الجنرال في متاهة عميقة من الحوار العنيف بينه وبين نفسه، يحاورها ويستمع لصداها وهو يريد أن يكون كلَّ هذا؛ قائدًا عسكريًا عظيمًا كتفًا بكتف مع الجنرالات عبود وسوار الذهب والنميري والبشير والبرهان، ورأسماليًا كبيرًا يكنز الأموال ويحتكر الأعمال، يشيد المصانع ويناطح الأثرياء، يريد أن يصبح زعيمًا سياسيًا ضخمًا له من الأتباع ما يبزّ الترابي وآل المهدي وآل الميرغني.
باختصار، إنه يرغب في أن يكون كل شيء وبأقصى سرعة. فإذا كان قد وجد الطريق سالكًا نحو مقعد الرجل الثاني في الدولة، فلمَ لا يكون الأول فيصبح رئيسًا للسودان، كل السودان بمثقفيه ونخبه وعلمائه وجامعاته، بتاريخه ونضالاته، من لدن مملكة سنار وسلطنة دارفور إلى المهدية وجمعية اللواء الأبيض، ومنذ مثقفي نادي الخريجين ولحين مأثرة رفع الأزهري والمحجوب لعلم دولة 56 على سارية الاستقلال.
لِمَ لا، وقد اجتمع له ما لم يجتمع لغيره؛ المال والرجال، والسلاح والنفوذ، وفوق هذا وذاك الوهم الذي بلغ به حدًّا جعله يعتقد أن أي شيء في السودان قابل للبيع والشراء، الذمم والمواقف، الرجال والنساء، ما دام أن مناجم ذهبه لا تنضب، لقد وصل حمدان إلى نقطة اللاعودة.
إعلانهذه الشخصيات المتعددة في جلباب حميدتي والتي تعيش داخل نفسه سوّلت له أمره وصنعت تلك الشخصية الجديدة المتخلقة (الهجين) التي تمسي هنا وتصبح هناك، تصالح اليوم وتعادي غدًا، تدخل في هذا الحلف وتنشئ غيره، تقول الشيء وتفعل ضده.
الشخصية الهجين هذه كانت أسيرة لثلاثية الجهل والمال والطموح، فاندفعت وانتفخت للحد الذي قادها لتنفجر على نفسها، ظن حمدان أن بمقدوره أن يتملك السودان بأرضه وشعبه وتاريخه، وأنه سيتوج نفسه أميرًا عليه.
كانت تلك سمات شخصيته المزهوة التي عبر عنها بعد يومين من اندلاع الحرب بكل غرور الدنيا وصلف العالمين حين قال: (البرهان ما عندنا معاه كلام، يسلم بس، وكان ما سلم بنستلمه).
كان حميدتي في داخله مفتونًا بالنخبة السودانية بوعيها وتاريخها وأرستقراطيتها وأمجادها وبأسلوب حياتها، واجتهد ما وسعه الجهد في مجاراتها، وعندما رأى نفسه صفرًا في مكيال التعليم وميزان الثقافة امتلأ حقدًا عليها، وراح يتعالى بالنياشين الكذوبة على كتفه ويظهر ذلك الحقد في تصريحه الشهير قبيل الحرب مهددًا سكان العاصمة الخرطوم: (لو قامت الحرب، عماراتكم السمحة دي إلا تسكنها الكدايس)، يقصد القطط.
كما قال الدكتور مصطفى محمود: فإن أشق الحروب هي حرب الإنسان مع نفسه، وهذا عين ما فعله حمدان بنفسه، من النعيم إلى الجحيم، ومن سعة الدنيا إلى ضيقها، من الاستحواذ على كل شيء إلى لا شيء.
ومن عجب أن المباهج ومغريات المدن لم تنسِه البادية وحدها، بل أنسته حتى طباعها التي جُبلت على مكارم الأخلاق، حين خاض حربه بلا أخلاق ولا مكارم، لم يكن حمدان ومرتزقته رجالًا ولا فرسانًا حيث خاضوا حربهم بأكثر درجات الجبن والنذالة، حرب الاستباحة لأملاك الناس والتعدي على حقوقهم وحرماتهم، هكذا كانت حرب الجنجويد من النوع البشع الغارق في الرذائل.
الآن أكملت حرب الجنجويد على السودانيين عامها الثاني، وهي تمضي نحو خواتيمها، إلى طردهم وإنهاء أسطورة حميدتي، الذي لم يتمكن من استلام البرهان ولا من حكم السودان، بل انتهى إلى مصير غامض ما بين هارب متخفٍ من ميدان المعركة إلى ميت لا وجود له إلا من خلال فيديوهات قصيرة، يعتقد أغلب السودانيين تهكمًا أنها مفبركة من إنتاج الذكاء الاصطناعي، بهدف خديعة جنوده بأن القائد معهم وبينهم في ميادين القتال يخوض المعارك.
إعلانلم يحقق حميدتي شيئًا، ولم ينجح في شيء إلا الهزيمة واكتساب كراهية السودانيين ولعناتهم التي ستلاحقه حيًا وميتًا، فمشاعرهم الغاضبة لن تغفر تلك الآلام وذلك البؤس الذي صنعه بهم، فهي لم تتفق مجتمعة على أمر كاتفاقها على كراهية حميدتي ومليشياته، للدرجة التي تحولت إلى مزاج شعبي ومجتمعي عام لن ينساها السودانيون، ولن تطويها الأيام.
انتهى حميدتي إلى كونه ظاهرة صوتية، تظهر من حين لآخر عند كل هزيمة كبيرة يلحقها به الجيش السوداني، يبدو فيها دائمًا في حالة مزاجية سيئة، يكيل الشتائم والسباب على الجميع بطريقة أقرب للتشنج والتوتر، ثم يُمَنِّي ما تبقى معه من مرتزقة بنصر قريب لكنه لا يأتي أبداً.
ولأن حميدتي لا يملك مشروعًا واضح المعالم، سياسيًا أو فكريًا، غير تلك الخطابات الارتجالية التي تندرج تحت بند الكلام الدارج الذي يقال أمام الناس وفقًا لما يطلبه المستمعون، والذي يقابله عادة الناس كفاصل درامي يلعب فيه حميدتي دور البطل المهرج، فقد كان وِفَاضُ القائد خاليًا من أن يقدم مشروعًا متكاملًا يوازي أحلامه العريضة ورغبته الجامحة في حكم السودان.
المشروع الوحيد عند حميدتي هو مشروعه الشخصي القائم على الطموح الجامح، وحتى هذا كان أمرًا هلاميًا بلا سيقان أو هوية محددة تمكنه من التنفيذ، فغاب بالتالي مشروعه بغيابه هو كقائد، وانتهى كل شيء، الأحلام والأماني والقوات التي لا تُقهر ولا تخسر، وتبقت جزر المليشيا معزولة ومقهورة، تنتظر مصيرها المحتوم بالموت والهلاك.
كان ذلك هو مشروع حميدتي الهلامي، الذي ما استقرت له وجهة، ولا عُرف له مؤيدون، سوى من تم شراؤهم بحفنة معدودة من المال، سقط هذا المشروع بسقوط صاحبه، وشيِّع أتباعه ملفوظين من المجتمع السوداني السليم.
انتهى حميدتي، وانتهت قواته، وبقي السودان، رغم ما به من جراح غائرة، وحريق ورماد، إلا أنه سينهض ويحلق في الفضاءات من جديد، كما يفعل طائر الفينيق، معلنًا عودته للحياة مرة أخرى، فإرادة الشعوب الحرة لا تنكسر، وعزائمها الأبية لا تخور.
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline