د. محمد عسكر يكتب: جيل جديد من الهجمات السيبرانيه أكثر عنفاً
تاريخ النشر: 8th, May 2024 GMT
مع تَوَجُّهِ العالم نحو الإعتماد المتزايد على التقنيات التكنولوجية الحديثة وتَبَنِّي نماذج الحكومات والمدن الذكية، للإستفادة من مكتسبات الثورة الصناعية الرابعة في تحسين نمط الحياة البشرية، ومع تسارع عمليات التطور التكنولوجي التي تمر بها الدول والمجتمعات، فقد أصبح العالم أكثر إنكشافاً وعرضةً لمخاطر التهديدات والهجمات السيبرانية؛ وذلك لأنه كلما إزداد الإعتماد على الإنترنت والتطبيقات التكنولوجية الحديثة في إدارة شؤون الحياة اليومية، تعددت الأهداف التي يمكن أن تصبح جاذبة للقراصنة وإزدادت معها فرص التجسس والإختراق والهجمات السيبرانية.
لقد تميزت الهجمات السيبرانية خلال العقد الماضي بكونها هجمات محدودة ومؤقتة، لا تؤثر في قطاع كبير من المستخدمين، ولا تتسبب في شَلِّ شبكة الإنترنت أو وقف الخدمات الحكومية بصورة كبيرة، وباستثناء الهجمات التي لها طابع عسكري، فقد إقتصرت هذه الهجمات على إستهداف الحسابات البنكية وإختراق المواقع الإلكترونية والصفحات الرسمية على مواقع التواصل الإجتماعي، وعادة ما كانت تتسبب هذه الهجمات في تعطل مؤقت للخدمة يتم تلافيه بسرعة من قبل الفنين والمتخصصين. لكن منذ بداية العقد الحالي بدأت الهجمات السيبرانية تأخذ أبعادًا مختلفة أكثر تطوراً وخطورة، مدفوعة في ذلك بحالة التطور التكنولوجي غير المسبوقة التي شهدتها الدول بصورة عامة، فتم إستهداف أكبر محطات الطاقة وشركات الإمداد والتموين حول العالم، وأصبحت البنى التحتية الحرجة للدول مثل السدود ومحطات الطاقة والمستشفيات أكثر تأثراً بمخاطر التهديدات السيبرانية.
ومع تزايد وتيرة الهجمات السيبرانية بصورة ملحوظة خلال الفترة السابقة، وتزايد قدرتها التدميرية التي أصبحت قادرة على ضرب المفاعلات النووية والأقمار الإصطناعية، فضلاً عن البنية التحتية الحرجة لمحطات الطاقة والوقود ونظم الإتصالات والمواصلات والمستشفيات وخلافه، فإن ذلك يعني أن الحروب السيبرانية أصبحت أكثر احتمالاً من ذي قبل وبصورة قد تكون أكثر شراسة عن غيرها من الحروب، فخلال دقائق معدودة قد يقع آلاف من القتلى إذا نجحت هجمة سيبرانية في استهداف إحدى هذه المرافق الحيوية. وهنا، يمكننا الاستشهاد بنماذج لعدد من الهجمات السيبرانيه والحروب الإلكترونية الناشئة، والتي ألحقت بأقطاب الصراع خسائر كبيرة، دفعتها إلى مراجعة حساباتها، وحماية مرافقها الحيوية من أي هجوم إلكتروني محتمل، ومنها الهجمات السيبرانية الروسية تلك التي قامت بها ضد وزارة الخارجية الأمريكية، وقرصنة الإنتخابات في عهد الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، إلى جانب تعطيل أنابيب النفط الأمريكية "كونيال" عدة أيام. كذلك إستغلت روسيا الهجمات السيبرانية أثناء نزاعها مع جورجيا عام 2008 ، وشبه جزيرةالقرم عام 2014 ، فضلاً عن إتلافها للبيانات وتعطيل الأنظمة الحاسوبية الخاصة بالحكومة الأوكرانية بواسطة نوع من البرامج الخبيثة يسمَّى الماسح ""Wiper. ومن هذه النماذج أيضا إختراق الجيش الإلكتروني الإيراني التابع للحرس الثوري حسابات رسمية وقطاعات حيوية في إسرائيل، ومنها أخرى تعود لشركة "آرامكو" السعودية، ومؤسسات قطرية، فضلاً عن دودة "ستوكسنت" الخبيثة التي وظفتها إسرائيل لضرب منشأة "نطنز" النووية الإيرانية، في الحادي عشر من أبريل من عام 2021 ، وكذلك إستخدام إسرائيل برنامج بيغاسوس " PEGASUS" للتجسس على هواتف الصحفيين والناشطين المناهضين لها. ولذلك يمكن القول، إن الجيل الجديد من الهجمات السيبرانية يتميز بخصائص أكثر تعقيدًا وعنفًا عما سبقه.
لقد أصبح الفضاء السيبراني عصب الحياة البشرية وشريانها ومصدر طاقتها وترابطها؛ فإدارة نظم الإتصالات والمواصلات ومحطات الكهرباء والمفاعلات النووية والسدود والخزانات، والتحكم في إشارات المرور وإتجاهات الطرق والجسور، وتسيير حركة السيارات ذاتية القيادة والطائرات المسيرة "الدرونز"، وإ جراء عمليات تحويل الأموال والبيع والشراء، جميعها تتم بتكنولوجيات مرتبطة بشبكات الحاسب الآلى وعن طريق الإنترنت، فالحياة البشرية تقريبًا قد هاجرت من الأرض، ولكن ليس إلى المريخ كما في أفلام الخيال العلمي، بل إلى الفضاء السيبراني، وهنا يجب إدراك أن إستهداف مصالح الدول في ذلك الميدان هو بمثابة حالة حرب حقيقية ضدها.
ويعتبر الفضاء السيبراني هو ميدان المعركة الرئيس لهذه الجيوش السيبرانية، ولكنه ليس الميدان الوحيد، فكما تقاتل القوات المسلحة في الميادين الأربعة التقليدية (الأرض والبحر والجو والفضاء الخارجي)، فإن الجيوش السيبرانية تقاتل في جميع هذه الميادين مشتركة، إلى جانب قتالها أيضًا في الميدان الخامس الإفتراضي وهو الفضاء السيبراني.
ولكن يختلف هذا الميدان – الفضاء السيبراني- عن غيره من الميادين التقليدية الأخرى، كالأرض والبحروالجو والفضاء، فهو ميدان صناعي وليس طبيعيا، لا تحكمه قوانين الطبيعة والجاذبية، بقدر ما تحكمه بروتوكولات تدفق البيانات عبر الأسلاك وبين الأجهزة وفي الموجات الهوائية، وبالتالي، فإن الطائرات والدبابات والصواريخ لن تجدي نفعًا داخل هذا الميدان، وهو ما يفرض على الدول، التي تسعى إلى الحفاظ على أمنها، أن تُطَوِّرَ السلاح المناسب والفعّال والقابل للاستخدام في هذا الميدان الجديد.
إن الأمن السيبراني بات أحد أهم عناصر الأمن القومى للدول؛ وذلك لأن أحد مستخدمي الفضاء الإلكتروني يستطيع أن يوقع خسائر فادحة وأن يتسبب في شَلِّ البنية المعلوماتية ومنظومه الإتصالات الخاصة بالدول، وهو ما يسبب خسائر عسكرية وإقتصادية فادحة، من خلال قطع أنظمة الإتصال بين الوحدات العسكرية بعضها البعض أو تضليل معلوماتها أو سرقة معلومات سرية منها، أو من خال التلاعب بالبيانات الإقتصادية والمالية وتزييفها أو مسحها من أجهزة الحاسب، أو السيطرة على نظم الذكاء الإصطناعي وإنترنت الأشياء، أو إختراق أسراب من الطائرات المسيره "الدرونز" أو الربوتات أو السيارات ذاتية القيادة وتوجيهها للقيام بأعمال تخريبية، وبالرغم من فداحة الخسائر إلا أن الأسلحة بسيطة، فهي عبارة عن برمجيات خبيثه لا تتعدى كيلوبايت، تتمثل في فيروسات تخترق شبكة الحاسوب وتنتشر بسرعة بين الأجهزة، وتبدأ عملها في سرية تامة وبكفاءة عالية، وفيما يلى أوضح بعض المخاطر الجسيمة التى يمكن أن تنتج عن تصاعد وتيره تلك الهجمات السيبرانية المشبوهه حول العالم:
1- خسائر اقتصادية، وجرائم إلكترونية تقدر بمليارات الدولارات، وشلل في حركة التجارة العالمية.
2- توتر في العلاقات الدبلوماسية بين الدول، وتراجع الثقة بينهم.
3- تراجع القدرة على تأمين المعلومات السرية أمام هجمات القراصنه المدربين والمحترفين.
4- قد تُشكل خطراً حقيقيا على الأمن النووي في العالم، بالتالي لم يعد مستبعداً اندلاع الحرب النووية الإلكترونية.
5- تعطيل عمل المرافق الحيوية، بدءاً من شركات النفط والغاز، وانتهاءاً بقطع الكهرباء عن العالم.
6- تدمير آليات الدفاع المدني والعسكري، وتشكيل خطورة حقيقه على الأنشطة الأستراتيجيه للدول.
7- تفاقم الخروقات الأمنية، وإستخدام الفضاء الإلكتروني لشن وتنسيق الهجمات الإرهابية ضد مصالح الأفراد والدول.
8- وقوع الدول العظمى والشركات العالمية أسيرة لعمليات الإبتزاز من قبل شبكات التجسس والإختراق، التي غالبا ما تطالب بفديات مالية كبيرة.
9- زيادة الفجوة المعلوماتية والتقنية بين دول العالم المتقدم ودول العالم الثالث.
10- إحداث خروقات لقواعد البيانات ولحسابات العملاء، وانتهاك الملكية الفكرية وخصوصية الأفراد.
11- ضرب المنصات الإلكترونية وتعطيلها مثلما حدث مع شركة ميتا "فيسبوك"، التي انقطعت خدماتها حول العالم لمدة 6 ساعات في الرابع من أكتوبر من العام الماضى.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: الهجمات السیبرانیة الفضاء السیبرانی
إقرأ أيضاً:
من هو الجدير بالمنصب؟!
د. محمد بن عوض المشيخي **
"الحرس القديم" مصطلح كثُر استخدامه في السنوات الأخيرة في الوطن العربي من جيل الشباب، ويُشير هذا المفهوم إلى كبار المسؤولين في أي دولة والذين يحتفظون بمناصبهم لعقود طويلة، على الرغم من إخفاقاتهم الكثيرة، ولكن هناك إصرار يتمثل في حبهم الشديد وتمسكهم بالكرسي أو المنصب إلى ما لا نهاية.
هؤلاء المسؤولون يعتقدون؛ بل يجزمون بأحقيتهم بأن يُخلَّدوا في أماكنهم، فلا يُوجد شخص في هذا الكون يستطيع أن يقوم بالواجبات اليومية لتلك الشخوص "الطرزانية" من وجهة نظر الجهات العُليا التي سمحت لهم وعينتهم؛ باعتبارهم أفرادًا جاءوا من عالم آخر، وبأنَّ الوظيفة هنا تشريف وليست تكليفًا. والأهم من ذلك كله، أن هناك شعورٌ بأنَّ حياتهم لا يُمكن أن تستمر بتركهم المنصب؛ بل هم مثل السمك الذي يموت بخروجه من محيط الوظيفة الحكومية. من هنا تأتي المعضلة الكبيرة في معارضتهم للإصلاحات الجديدة التي يفرضها واقع المُتغيرات الجديدة وبالدرجة الأولى مصلحة الوطن والمواطن، وذلك انطلاقًا من القاعدة الصحيحة التي تقول "لكل زمن دولة ورجال"، ذلك لكون أن الإنسان له سنوات معينة في الإنتاج والعطاء؛ بل وحتى في الإبداع يمكن أن يمتد لعقد من الزمن كحد أقصى.
صحيحٌ أن مفهوم "الحرس القديم" يعود لقرون مضت وتحديدًا عصر الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت الذي كانت له مقاييس ومواصفات في حرسه القديم من القادة والشخصيات السياسية في بلاطه الإمبراطوري، إلّا أن الوجود الحقيقي لهم في معظم بلداننا العربية ودول العالم الثالث مزروع من دول أجنبية بهدف المحافظة على مصالح الدول الاستعمارية، التي خرجت من الأبواب بسبب الثورات الوطنية، ثم عادت من النوافذ الخلفية من خلال هؤلاء. كلٌّ من في منظومة الحرس القديم يحارب الأفكار الجديدة وينغلق على نفسه؛ فالخطر الأكبر الذي لا يُمكن تحمله وقبوله هو الدماء الجديدة من الجيل الصاعد الذين يفترض بهم أن يحملوا الراية نحو الغد المشرق وهذه سنة الحياة، انطلاقًا من المبدأ المُتعارَف عليه في الدول التي تُحارب الفساد وتُحقق العدالة الاجتماعية بتخصيص سنوات معينة للمسؤول الحكومي لا تتجاوز الخمس سنوات، ثم يخضع للتقييم الذي يحدد مدى استمراريته في المنصب من عدمه.
في كل مرحلة يحتاج الوطن إلى أصحاب الابتكارات والمشاريع الإصلاحية، فهناك تجارب عالمية ناجحة كان لها الدور الأكبر في انتشال تلك المجتمعات الفقيرة من شظف العيش والانطلاق بأوطانها نحو حجز مكان بارز في مصاف الدول المتقدمة، على الرغم من قلة الموارد الطبيعية واستبدال ذلك بما يعرف بـ"الاقتصاد المعرفي"، الذي يعتمد بالدرجة الأولى على عقول الأبناء الذين يحولون إبداعاتهم العلمية والبحثية إلى مشاريع إنتاجية واعدة تصدر إلى مختلف دول العالم.
هنا أتذكر تجارب آسيوية وأفريقية من دول مثل ماليزيا التي نجح فيها مهاتير محمد في عقد الثمانينيات لتُصبح ماليزيا دُرة التاج لدول شرق آسيا من حيث التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بينما يقود مُؤسس سنغافورة (لي كوان يو) تلك الجزيرة التي تفتقر إلى النفط والغاز والمعادن لتصبح واحدة من أفضل اقتصاديات العالم قاطبة، معتمدًا في بداية عمله على تطوير التعليم ومحاربة الفساد من الأعلى، أو ما أصبح يعرف بـ"تكنيس الدرج من الأعلى" أي التخلص من فساد الحرس القديم ومحاسبتهم وطردهم من مفاصل الدولة.
أما التجربة الثالثة، فأتت من قلب القارة السمراء التي ينخر فيها الفساد؛ إذ كانت جمهورية رواندا لا تملك ثروات طبيعية، ولا منفذًا على البحر، لكن تهيأ لها قائدٌ أمين عمل جاهدًا على اجتثاث الفساد والمُفسدين، ويُدعَى (بول كاغامه) الذي تولى الرئاسة في مطلع هذه الألفية، فقد أصدر قانونًا إجباريًّا يتم تطبيقه ميدانيًّا على خمسة آلاف مسؤول رواندي وعائلاتهم؛ بما فيهم رئيس الجمهورية نفسه؛ وذلك بهدف الكشف عن حساباتهم البنكية وأملاكهم في الداخل والخارج، وتطبيق مبدأ "من أين لك هذا؟". وبالفعل ذهب إلى حبل المشنقة بعض المسؤولين الذين نهبوا المال العام.
ومن المُفارقات العجيبة أن رواندا خرجت من أسوأ حرب أهلية في التاريخ؛ قُتِل فيها مليون مواطن رواندي في تسعينيات القرن الماضي، لكنها نهضت من مُستنقع الإبادة الجماعية لتتحول إلى أفضل سوق مفتوح في أفريقيا، وبنموٍّ سنوي تجاوز أفضل الاقتصاديات في العالم.
وفي الختام.. من المؤسف حقًا أنَّ دولنا العربية التي تملك الثروات المعدنية والنفط والغاز والزراعة والثروات السمكية الطائلة لم تنجح في انتشال مواطنيها من الفقر والجهل والأُمِّية، إذ نجد الكثير من الدول العربية دولًا فاشلة بسبب نهب الأموال وتحويلها للخارج في البنوك الغربية، وقد لا ترجع يومًا ما للذين أودعوها، فقد أعلن الرئيس الأمريكي عن نيته مصادرة المليارات التي أودعها رموز الفساد في العراق إبان الاحتلال الأمريكي وسقوط بغداد في العقد الأول من الألفية الثالثة.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصر